دراسات نقدية

شاعرة من سلالة النرجس.. قراءة في بعض نصوص الشاعرة( فدوى كيلاني)

 

 داريوس داري

إذا محوت المرآة من القاموس، فلم يبق كلام ذو معنى في اللغة...!

إنه لجميل أن تنتشر في سماء الثقافة الكردية أسراب الحباري، ليأتي الشعر ربيعاً ثريّاً بأزاهيره وألوانه البديعة، ليملأ أنفاسنا بشذا همسات، طالما افتقدناها أجل،حسن أن ترفرف بين أسرابنا أجنحة مزركشة،تغني الكلمة بشدوها الخاص، سحراً بهياً يتغلغل هادئا في كياننا، نهراً يجري عبقاً فريداً تفتقر إليه أرواحنا، كي نبتهج لحظة اكتشافه، يتدفق كوردة نادرة نصادفها بين بحر من ألوان ربيع يموج بالورود، لنشاهد أجنحة تخطّ بريشها بوح الخمائل وطيور القبج على سفوح آمالنا،معلنة حضورها الشاهق.

جميل أن تأتي شاعرة كوردية مهمة مثل فدوى كيلاني قبجاً في لحظة المغيب، تحمل قصائدها أنوار السكينة على أجنحة الشمس التي أتعبها الشروق، لتهجع مرتاحة بين أعشاش العصافير، وهي تزقزق على أغصان الكرى،مرحبة بقلم عرف كيف يلامس شغاف قلوب المتلقين، لننهض في الصباح، ونحن نشاهد العصافير تغتسل في بركة ماء، وهي "ترنق" بأجنحتها، تذكرنا بقصائد فدوى التي أيقظت نوازعنا بعد ما أطبقت أجفانها.....!

قصائد تشرق من بعيد خافتة متخمة بعبق النرجس والبنفسج والياسمين، تسافر بك من حيث لا تدري إلى بقاع من أرض الوطن، تستنهض أمس جدودها الشجعان، جدود تطفح أعلي الجبال بآثار أصابعهم على امتداد التاريخ.

 هنا تماما تجد وإذ بقصائد فدوى تلقي بك دفعة حميمة في خضمها، لتعود بك إلى لحظة هربت فيها من زمن عسير بقي يطارد متلقيها، هذا ما تريد أن تقوله قصائد فدوى كيلاني،همسات عميقة تلامس وعينا البعيد، بأسلوب شديد التركيز يختزل جملة من الصور والمعاني والدلالات،في عبارات مقتضبة تفاجئك بومضة عابرة، أو فكرة خاطفة، تحل في المتلقي ولا تبارح كيانه، إلا بعدما يفتح نوافذه المغلقة لتنير ذاته القاتمة التي ضاع في قاعها، هاربا بروحه من هواجس بقيت تلاحقه، كي يكون فجأة أمام لوحة تؤلفها صور جد مؤثرة.

كثيرا ما تلجأ فدوى إلى أداة المخاطبة بكثافة طاغية في صيغة الحاضر مرة، والغائب مرة، تناجي الحبيب، وأخرى تناجي الصديق، أو الوطن أو التاريخ، أو الزمن،إلى حد التماهي، تخاطبهم،من خلال الحديث إليهم تخاطب ذاتها.

حباً... عتاباً... أملاً... إصراراً... حزناً... فرحاً.. إخلاصاًً... شوقا... لترسم بالسهل الممتنع،وعبر تجربتها الخاصة، وصوتها الخاص جدا،معاناة الإنسان الأبدية، معاناته مع الغربة والاغتراب، حيث العطش الكردي إلى الوطن والحبيب إلى الربيع والحرية تقول الشاعرة :

 أرتشف شمس الوطن

 من عينيه

أتوجه ملكا

 لعرش نرجسي

صولجاناً لأرض

 تاهت منا

 وسط الزحام

زهرة الجبال القصية

يحج إلي البنفسج

 وبين شفاهي

يقبع ألف ريح

وبين عيوني

 تنام حضارة

ما عادت ارض

 تحملني

حيث أنام

 وببراعة الجدات في تطريز تحفة فنية منسوجة من أصواف (ديركا حمكو) ملونة، وبما لايشبه تجربة أية من مجايلاتها،تحيك فدوى كيلاني قصائدها قيماً إنسانية رفيعة، وقمماً فنية، تقدم لمتلقيها لوحات في غاية الاتقان،مزركشة بطيف قوس قزح كردي، غاب عن الأفق، فجأة، لوحات مترابطة، مكتملة البناء، تقترب من قلوبنا، لتمتزج المشاهد بالأفكار و الصور، لتجتمع بمهارة حاذقة في كلمات معبرة

 تقول:

 ها أناأخيراً

لا كما أريد

لم يجهش جيشي بالهزيمة 

عقارب ساعتي

تلوح

للهاثي:

هنا وقفت الخيول

هنا المحارب يخرج من الأسطورة

 آن له أن يتوسد,

حرير اللّحظة

يستريح

 ها أنا في دوامة انتظاره

 تقدم فدوى قصائدها هذه، وهي تمزج بين الأسلوبين الواقعي والرمزي في بناء القصيدة، لتقف على حافة الرمزية، دون التوغل في متاهاتها، و تقف على تخوم الواقعية، دون الانجرار في مباشرتها الرتيبة، وكأنها تشق أسلوبها الخاص ببراعة الأنثى التي تعرف كيف تنمق حضورها الأخاذ، متجنبة مساوئ التقيد بمدرسة شعرية محددة، لنلمح مسحة حياء أنثوي محببة، تتجلى في التزامها العفوي بهمها القومي الذي هو من همومنا كلنا، مسحة تلف مجمل قصائدها :

 أعلم أنك عائد..

ستغتسل عند نبعي

تمطر على صحرائي

هكذا قالت لي الشمس

و هي تهطل على حافة نهري

تمارس طقوس التوحد

على خارطة ظلي المنهك

آلاف القصائد

ارتكاباتك الجميلة

ستكبلني

بسلاسل من حرير

تستبيح صمتي

تزركش خيوطي

بلون اشتهاء البنفسج

سأسبح في ملكوت سمائك

أزرعك قبلة لسلالات الورد

واهرقك نقوشاً على لوحتي السرمدية

 فدوى كيلاني طائر قبج جميل، ينبثق من الأفق لحظة المغيب، وعلى جناحيه أشجان تومض في ذواتهم، متخذة قلوبهم أعشاشاً لها، مااداموا رهن الارتحال مع قلق فراخ الحجل والحباري على وطن تاه بنوه عن دروبه.

التقيتها أول مرة في منزل الأستاذ عارف رمضان مدير مؤسسة سما كرد بالشارقة، كنت قد قرأت لها بعض القصائد، ولم أكن اعرفها مسبقاً، و لكن عندما تحادثنا بدا كأنني اعرفها منذ زمن طويل، فهي عندما تتحدث عن الأدب و الشعر تحس كأنك أمام امرأة لا تشبه أي امرأة أخرى،

فهي إنسانة حساسة، و رقيقة، و سيدة مجتمع،حاملة روح أميرات ( جزيرة بوطان )....

لقد جاءت تجربة فدوى كيلاني لتسهم في تشكيل حالة ثقافية مميزة، إلى جانب غيرها من الكاتبات الكرديات، مصرّة على خصوصيتها وعدم تناسخها مع أحد، منذ أن دخلت غمار ميدان الكتابة، من أوسع الأبواب لأنها خططت لنفسها مساراً خاصاً بها فهي شاعرة.. مربية.. تكتب المقالة التربوية، و النفسية، وعن السعادة التي نفتقر إليها في هذه الأيام،تبدو كتابة فدوى للوهلة الأولى كتابة عفوية بسيطة راصدة لتفاصيل السعادة بقسوة،محايدة و عابرة، لكنها في الحقيقة كتابة مراوغة، لا يحمل السطح منها إلا اليسير الذي يخفي وراءه الكثير الذي نكتشفه من جراء الرحلة من الجهد المضني :

 لأجلك في قصيدتي

لأجلك وأجلي

لصقت حلمي

على بللور غربتي

هكذا......!

 ..... حملت اسمي

عارياً من يخضوره

أطوف به في دوائر الأساطير

أستنجد بالرّيّ

كأنني أولى إمرأة

على مفترق الغيمات

كأنني نشيد لحظة

 لم تقرع الباب

 و إذا كانت نصوص هذه الكاتبة تتسم بالإيجاز، فإنه الإيجاز المكتظ بالدلالات التي تدفع القارئ للتأمل، فيكشف تقنيات مركبة في القص، تطرح قضايا فنية، لا تقل تركيبة عن الشعر، ولعل الدلالة الباطنية تعتري الظاهرية لها، لنكون أمام كتابة استثنائية..

…فهي مثل كثير من كاتبات و شاعرات جيلها. تكتب بدفء الكلمة و تخوض في أعماق الكتابة لتخرج بأصعب قضية بطريقة سلسة، لكي لا يمل القارئ عندما يقرأ شعرها و مقالاتها التربوية، فهي كاتبة مقتصدة،لا تعرف الإطناب و الثرثرة السردية الفارغة للأعين المقتحمة، وللأقلام الساذجة، و بعد تأمل طويل،و صفاء مدروس للقيم التي لا تطمئن إلى طريقة التعبير الفني، إلا بعد إخفاء الصنعة، و إن البراعة التعبيرية تتحقق حين تترك الكتابة بصماتها على وعي القارئ ووجدانه، بعد أن تتسلل إليه بفكر فني جميل، وكأنها جالسة أمامك، أو تحادث متلقيها :

 باذخة انا في صمتي

تشربني جهاتك الاربع

امراة تلهح بك

في م