مقالات

 في ذكرى الصديق الراحل الدكتور حسن هادي الجبّاوي

 ((الأول من مايس 1940 ـ السابع من آب 2005))

 الدكتور عدنان الظاهر

الطبيب الأديب

ما أسبابُ تعلّق الفقيد بمدينته الحلة ووطنه العراق ؟

لم تخلُ أشعاره من ذكر نهر الفرات أو مسقط رأسه مدينة الحلة أو وطنه العراق. كان دائم الحنين لهذه العناصر الثلاثة دائم التفكير بها في الجدِّ والمرَح، في الرسائل وعَبرَ المكالمات التلفونية الطويلة. غادر العراق عام 1959 فدرس الطب في ألمانيا ولم يعدْ إليه إلاّ في عام 1976 حيث أمضى فترة قصيرة ثم غادره ولم يرَهُ ثانيةً. كان المرحوم شديد التوق لأن يوارى جثمانه تحت ثرى العراق مع بقية الراحلين من أهله. لقد ثبّت رغبته هذه في وصيته لكنَّ الأوضاع الإستثنائية الحالية في العراق حالت دون تنفيذ رغبته.

 

الوصية

كتب في فجر يوم 14 ـ 12 ـ 1995 كلمات تحت عنوان " الوصية " قال فيها :

 

لي رغبةٌ عارمةٌ

حين يُسدلُ ستارُ الحياةِ

للمرّة الأخيرةِ

وألقي نظرةَ الوداعِ

أنْ أرى خارطةَ العراقِ

وفيها قببٌ ذهبيةٌ…

فلاّحٌ يتسلّق نخلةً

والآثار العربية.

 

جمع الفقيد في هذه الكلمات القليلة كلَّ وأعزَّ ما كان يحلم أن يراه قبل رحيله في وطنه : خارطة العراق / قباب أئمّته الذهبية في النجف وكربلاء والكاظم حيث كان يزورها مثل معظم باقي الأطفال مع أمهاتهم / الفلاّح الفراتي ونخيل بساتين الفرات الأوسط / ثم الآثار العربية، ولعله يقصد آثار بابل القريبة من مدينة الحلة.

ذكر الفقيد في العديد من قصائده النخيل والسعف والتمور. وكنتُ في مناسبتين أرسلت له بالبريد عصير التمور، (الدبس) كما يسميه العراقيون. كتب في قصيدة " بين الحلم والحقيقة " ما يلي :

 

رأيتُ في المنامِ

سعفةً في الطريقِ

فأَفقتُ مرتجفاً

تذكّرتُ الفسيلَ والنخيلَ

سلاَتِ التمرِ

الأصفرِ والأحمرِ

الناضجِ والأخضرِ

ولم أستطعْ أنْ أناما

أأقولُ معذرةً يا مولايَ يا عراقُ

فأنا ما جافيتكَ يوماً ولكنْ

غادرتُكَ مرتين :

الأولى لأعودَ

والثانية هرباً

وما أقسى أن يهربَ إنسانٌ مما يُحبُّ

وممن يُحبُّ

دون موعدٍ ووداعٍ ؟!

 

[[ وفارقتُ الحبيبَ بلا وداعٍ ـ وودّعتُ البلادَ بلا سلامِ // للمتنبي ]].

 

كتب الفقيد الكثير من الأشعار (وكلها من شعر النثر) عن العراق ومحنته في تغربه عنه رغم نجاحه طبيباً إختصاصياً بدرجة دكتوراه في طب الجهاز التنفسي،

وإدارته لعيادة خاصه به، ثم زواجه المثالي الناجح من سيدة ألمانية وقفت معه في أحرج وأحلك الظروف. كتب في قصيدة " متاهات الطريق " ما يلي :

 

عند قارعة الحياة

يجلس بين الحُلُمِ والحُلُمِ

فاقداً للهويةِ

ناسياً مسقطَ الرأسِ

النَظَراتُ غيرُ النَظَراتِ

الملامحُ غيرُ الملامحِ

شحبت الذكرياتُ

لا يعرفُ نفسَهُ

هِجرةٌ في المتاهاتِ.

 

ونقرأ في قصيدة " الهروب " :

يا شارداً من الوطنِ

باللهِ تُخبِّرني

هل حقّاً

جفَّ الدمعُ في عيونِ الفراتِ

والنخيلُ تحتَ التعذيبِ ماتا

ضاعت الحروفُ في الحنجرةِ

وفي الشفتين تكسّرت الكلماتُ

" كراهبٍ تخلّى عن صومعةِ الصلاةِ

هربَ من الديرِ والأديانِ

هربتُ من وطني

من حقدِ السجنِ والسجّانِ

ومن كَفَني ".

 

يبدو لي أنَّ الفقيد كان قد تأثر ـ ربما بتأثير زوجه التي لم تفارقه ولم يفارقها أبداً ـ ببعض مظاهر وطقوس الديانة المسيحية. فقد كان يزور الكنيسة برفقة حرمه

أيام الأحد. قال لي مرّةً إنه يقومُ بذلك لكي يستمتع بموسيقى الآراغون. ثم إنه نفسه كتب قصيدةً شديدة الوضوح يبين فيها هذا التأثر. في الخامس من شهر آذار 2005 كتب قصيدة تركها دون عنوان (وإنها آخر ما كتب حسب ملاحظة حرمه السيدة بريجيتا بخط يدها) :

 

ملابسي كوفيّةٌ وسروالُ

على صدري صليبٌ

وفوقَ رأسي هلالٌ

صلاتي في الكنائسِ والمساجدِ

أحملُ الكريمَ في اليمنى

وفي اليسرى المقدَّسَ

وأزورُ كلَّ المعابدِ

دمي خليطٌ من مختَلَفِ الأجناسِ

وأُحبُّ الناسَ كلَّ الناسِ

أنا العراقُ ولم أفقدْ الهوُيَّةَ .

 

كان الفقيدُ عالمياً في هذه القصيدة لكنه لم يتخلَّ عن تراثه وأصله ودينه. فهو البدوي (الكوفية) وهو الحَضَري (السروال). وهو المسيحي (على صدري صليب) وهو المسلم (فوق رأسي هلال). يحمل القرآن الكريم في يمناه والكتاب المقدَّس في يسراه. يزور كل المعابد ويصلّي في الكنائس والمساجد. إنه رجلٌ عالمي أو أُممي الديانة ودمه خليطٌ من مختلف الأجناس. إنه العراق، صورة من العراق المتعدد الأعراق والديانات والأجناس والقوميات. تكلم بلسانه لكنه لم يقصد إلاّ العراق. يكون الفقيد بهذا المعنى رسولاً ومبشراً وحالماً بعراق ما بعد صدام حسين وحكم حزب البعث.

قلتُ إنَّ الفقيد كان قد كتب الكثير عن العراق والحنين الطاغي له. أقدّمُ بعض النماذج من هذه القصائد. قصيدة " وحيد " :

 

يصحو من غفوةٍ

يعدُّ جدرانَ العمرِ

يسكبُ الذكرياتِ من بودقةِ الدهرِ

يرسمُ صيفاً ويمدُّ عراقاً تحتهُ

ألَمٌ أقوى من الجمرِ

سيكارةٌ وأقداحُ خمرِ

ثم يغفو ثانيةً.

 

قصيدة " أملُ العودةِ " :

 

يخترقُ أسوارَ السمعِ

صهيلُ حصانٍ عربيٍّ أصيلٍ

وصريرُ النواعيرِ

تستفيقُ الذاكرةُ البعيدةُ

ترى نجومَ الصيفِ فوقَ السطوحِ

وبدراً سابحاً في الفراتِ

ترسو الخواطرُ في ميناءِ قلبهِ

تعانقُ الشرايينا

تلتحفُ الشُغافا

تقرأُ صَفحاتِ الليلِ :

رسالةً من أبٍ لم تُكتَبْ

آلامَ أُمٍّ قد رحلتْ

وعتابَ عينٍ قد سُهِّدتْ

يلتهبُ أملُ العودةِ…

يخنقهُ البكاءُ.

 

كتب الراحل الطبيب والشاعر والأديب في 31 ـ 1 ـ 2005 قصيدة " اللحنُ المفقودُ " قال فيها :

 

العراقُ قِيثارةٌ

والفراتُ وَتَرٌ

وخلفَ حدودِ المنفى

أفَتِّشُ عَبَثاً

عن لحنٍ مفقودٍ

عن إسحقَ وزُريابَ

عن نشيد الأطفالِ في المدارسِ