فضائية الاتجاه...تغطية تلاحق العسكرة


د.كامل القيّم / أستاذ الإعلام والاتصال

إذا كانت تجربة الثورة في تونس قد أدخلت بعض الفضائيات العربية في معالجة ( أزمات ) من العيار الثقيل، بعدما انقلبت موازين الهيمنة الإعلامية وغدت تُصنع من الشارع الى مركز القرار، ناقلةً الواقع بترميز إعلامي جديد، والذي سيتواصل في كشف المستور والمسكوت عنه من كسل وخَور الحكومات ...وإذا كانت فحوى الأزمات التي مرت ليس كغيرها وبُعيدها هذه المرة ...ليست انتهاكات العسكرة الأمريكية في مدن العراق .. أو إبادة غزة ،او مقارعة الجنوب اللبناني لإسرائيل وإجبارها الانسحاب ، او تسوية قضية دار فور ...يومُ كانت العديد من الفضائيات العربية ...تضع هرمونها الإعلامي على وفق الأداء ( بالمشاركة )...أو النمذجة ...وهو ما يطلق عليه في أدبيات علم الإعلام ( بالإعلام التخديري ) او التشاركي ...وسرنا لسنوات نتعامل مع العُقد العربية والدولية على إنها مواقف حكومات أو جهات، وبذلك كان هذا العُرف يتطلب من الجهد الإعلامي ان يكون بجرعات محددة ومحسوبة .

لكن أحداث تونس ومصر ومن ثم اليمن والبحرين وليبيا ...وباقي الأقطار الأخرى قد جعلت قنوات الإعلام على محك المواقف، وابتعدت بها ولها من صورة التخدير الى صورة التواصل ...مع من تقف؟ كم ستبقى معي ؟ كيف؟...وكانت مظاهرات شوارع العرب الاخيرة ، عرّت فضائيات الرقص على مسرح دوار، والتي كانت تريد ان تتملص بأقل الخسائر من بيان الموقف نحو ( نارين ) الحكومة والشعب .وهذا ديدن الجديد بمقدار الثقة التي ستخلفها بطاقة الفضائيات نحو الجمهور ما بعد الثورات.

وعلى الرغم من الصعوبة الكبيرة التي وقعت بها بعض الفضائيات الإخبارية في إدارتها لازمة التظاهرات، ليس من باب الموقف حسب، إنما من باب طبيعة المعلومات التي تغذي بها التقارير ومراكمة التغطية وملاحقة الأحداث التي يتنافس عليها مراسلو القنوات الدولية ....فتلك الأحداث ما هي إلا إعادة تنظيم وتصحيح للأدوار التي كانت نائمة او سائدة لبعض سياسات الفضاء الإعلامي العربي .ففي الوقت التي تباينت معالجات الأزمات في الفضاء العربي بين مُخفف ، وحاجب ، ومُحرّض ، ومُساند لما يحدث ويتصاعد، كانت الآخريات قد انسحبت من حلبة الدخول الكلي ملازمة ( نشاط انتقائية اللحظات والمواقف) والأخرى تصاعد مضمونها حينما وجدت في ملازمة وعمق التغطية هوية جديدة ومتلقي ربما سيكون منتظم في مستقبل ما بعد الثورات والأزمات.

وكباحث ومراقب ،ما لفت انتباهنا من الفضائيات العراقية التي لاحقت هذا المجال ...قناة الاتجاه الفضائية ..القناة التي حملت على أكتافها هموم نوعية ...منها مقارعة الاحتلال الأمريكي وكشف انتهاكاته ...بالإضافة الى هموم ومستحقات المواطنة ...والثقافة السياسية ومتغيرات الشأن العراقي والعربي .وقد دخلت الاتجاه خط الأزمة التونسية ثم المصرية ( بنقل مباشر ) وتغطية شبه شاملة لما حدث في ساحة التحرير المصرية ..ومع تصاعُد الأحداث في تظاهرات العراق واليمن والبحرين وليبيا كانت الاتجاه ( تضع لها أسطول من المعالجات المتعددة المصدر تغذي المتلقي العربي والعراقي بدقائق ما يحدث وما حدث في شوارع بغداد، والمنامة ،وعدن ،ورأس لانوف، والقطيف...عدسات وكلمات وصور وحورات لم تهدأ...ولم تراوح بنظام الخبر الجامد الذي تعتاش عليه فضائيات السبتاتل ، واليوم وأنا أتابع التقارير الخبرية التي تمطرنا بها بعض الفضائيات، ومنها الاتجاه شعرت بعُرسها وهي تساند ساحات(السلمية )وتحقق لهم فسحة الظهور سواء أكانوا شهداء ام جرحى ام راكضين من هول العسكر المتنمر بقبعة درع الصحراء.ولأول مرة أرى مساحات التناول بالعدالة الإعلامية التي تزفها محترفات التأثير ...عمق وشمول...وكثافة... كشفت عن إبداع جديد سيضيف الى ذاكرة المتلقي مسحة ( فضائية للجميع ).

ولأول مرة أرى العاجل(في شريط واحد) يتناول ثلاث ملفات مختزلة ...ملاحقة ثوار البحرين من قبل عساكر درع الجزيرة ...وبنغازي تتعرض الآن الى قصف بالطائرات ...وجرح وتسمم العشرات من متظاهري عدن ...هذا المخيم اليمني الليبي البحريني العراقي الخليجي ...كانت قد وزعته الاتجاه بجغرافية مضمون خبري عادل وبشكل مسحي ... وهذا التناول لا يخلو من تفّرد وتشويق .وفي برنامجها الحواري حول أزمات الشارع العربي ...خارطتها 5 صور مقدم البرنامج والضيفان وخلفيات فلمية للمنامة واجدابيا الصامدة .تقارير حية ومراسلين وصور وشهود عيان، حُزمات تُعرّي جبابرة العنف وهادري دماء شباب ... هذا التناول يكشف لنا قنوات ناهضة تسعى للتعبير عن مناصرة الشعوب بالحق، فيما تسكت الحكومات وتؤجل القرارات التي يمكن ان تحقن دماء الأبرياء وتوقف مهازل البطش المؤسسي التي رفعتها الحكومات العربية بحق ناشدي الحرية ...عشرة أيام من الدوران والنوم الاممي لقرار حظر الطيران في ليبيا ...والولايات المتحدة تتوعد القذافي بتصريحات الدبلوماسية الناعمة ،في الوقت التي عجزت على تبرير تجيّيش شوارع البحرين لقمع دوارة اللؤلؤة. اعتقد درس السياسة الخصوصي للشعوب العربية قد بدأ ليفتحوا شفرات خريطة القفز الأمريكي على نواتج الأحداث واستباقيتها، من تونس حتى جيبوتي القادمة . أما الاتجاه فنراها اليوم تتفنن في عرض ملفات شوارع الغضب بالصورة والصوت وبطرق توزيع كاميرات ميادين الحدث ...والتي أرى إنها انتقلت بحق إلى ُسلّم التعبير عن الرأي العام وأُفق الشعوب لاغيةً كل مظاهر التمذهب والتحزب والحجب لعيون الآخر في التغطية .سنتان من التجربة والخطأ تصاعدت وتعلّمت أن تكسب المحرومين والمؤمنين بقضية .
نراها الآن متصالحة مع كل الشوارع مع كل من تركلهٌ وتصيبهُ وتقمعهُ آلة العسكرة وجبروت الحكام ، ليبياً كان أم بحرينياً أم عمانياً أم عراقياً ...لا

فرق لإنسانها...إنها تعاملت وعبّرت عن متلقي كوني وأنساني ...أرى الاتجاه تناضل لكي تُبان قوة وحقوق الضعفاء أمام ضعف وظلم الأقوياء ...إنها حرب المدنية والكرامة (بالصورة وفنون التأثير)...حرب الأفق الجديد ضد دكتاتوريات عفا عليها الزمن وستسحقها وتلعنها الحضارة والتكنولوجيا ...الاتجاه تتصالح مع المستور من ظلم الشعوب ...وتضيء كغيرها القليل من الفضائيات حلم التغيير بأفق جديد لإنسان يتبختر بالكرامة ويلعن الزمن السابق... الذي يؤطر بالجور والحرمان. أتمنى أن لا تحيد وتبقى اتجاه الحقيقة من والى الجميع.


العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com