النظام الديمقراطي الناقص وجه الدكتاتورية الآخر
 



لطيف القصاب/مركز المستقبل للدراسات والبحوث
 

حركة الاحتجاجات المطالبة بالتغيير التي تجتاح عدواها المنطقة العربية في هذه الفترة يبدو انها سائرة باتجاه المنطق الذي لا يستثني بلدا ابدا، بدليل ان قسما من اقوى هذه الاحتجاجات توزع على رقعة جغرافية عربية كانت تصنف حتى الامس القريب على انها مستقرة شعبيا او امنيا والى امد غير منظور ايضا.

لكن الملاحظ ان مع تصاعد الحركات الاجتماعية العربية المطالبة بالإنصاف والعدالة الاجتماعية والسياسية بدأ الخط البياني للضحايا يتصاعد تدريجيا وعلى نحو مفجع وذلك على صعيد ازهاق النفوس والاصابات البدنية الحادة، وكذلك من حيث الإساءة الى الممتلكات العامة والخاصة وقد نتجت هذه الخسائر في غالبيتها بسبب تعاطي السلطات الحاكمة العنيف مع موجات الاحتجاجات الشعبية وفشلها في ادارة ازماتها بشكل حضاري، مثل ما هو الحال في ليبيا والبحرين واليمن والسعودية وسوريا والعراق.

غير ان جزءا من المسؤولية في سقوط الضحايا يتحمله سوء تصرف بعض القوى المطالبة بالتغيير في تلك البلدان فقد قام بعض المنفلتين من المتظاهرين باحداث نوع من التخريب في الممتلكات العامة والخاصة في غير واحدة من البلدان العربية المذكورة ناهيك عن استخدام الاطفال كدروع لصد هجمات الاجهزة الامنية. وبمقارنة سيل الاحتجاجات التي تشهدها منطقتنا العربية والاقليمية حاليا بما حدث او قد يحدث من انواع واشكال الاحتجاجات في العالم الغربي فان الخسائر في بلدان هذا العالم لاتكاد تذكر.

ان هذا الاستنتاج ليس هو من قبيل الرجم بالغيب فهو مستند الى الوقائع التي جرت وتجري في هذه البلدان ودلينا الواضح على ذلك ما تنقله وكالات الانباء العالمية في تغطياتها لأحداث الاحتجاجات الشعبية في القارة الاوربية والولايات المتحدة الامريكية مع استثناءات محدودة في هذا البلد الاخير. كما ان الاستنتاج انف الذكر لا يدخل في باب الانبهار بالتجربة الغربية الذي يملي على الذهن مسبقا الايمان باطروحة ان المجتمعات الغربية (عموما) تجيد فن الاحتجاج في حين ان مجتمعاتنا (عموما) لا تتقن هذا النوع من الفنون وتفضل عليه المنطق الراديكالي العنيف.

ان المصير المأساوي الذي تنتهي به حركات الاحتجاجات الشعبية وما تشهده من قمع وخسائر عزيزة في عالمنا العربي مرده الى عوامل عديدة يتسيدها غياب الحكم الديمقراطي وعدم اتخاذ الديمقراطية والتعبير عن الراي بصراحة منهجا عمليا عاما في الحياة، كما ان النتائج الباهرة التي يحققها المحتجون في الحواضر الغربية يعود الى هيمنة النظام الديمقراطي والثقافة الديمقراطية على تفاصيل الحياة هناك سواء على مستوى الطبقة الحاكمة او المحكومة وليس هو راجع الى ان صنفا من البشر يجيدون فن الاحتجاج في حين يفشل اخرون في اتقان هذا الفن.

يبقى ان نحاول الاجابة على تساؤل ملح ومفاده ان بلدانا عربية كمصر مثلا استطاعت الانتفاضة الشعبية في هذا البلد ان تحقق مكاسب سياسية عظيمة مع بذل القليل من الخسائر المعنوية والمادية بالرغم من ان مصر كانت محكومة بعصا الدكتاتورية الغليظة، في حين ان بلدا مثل العراق لم تحرز فيه حركة الاحتجاجات الشعبية الاخيرة حجما يعتد به من المكاسب السياسية بالرغم من وجود النظام الديمقراطي؟
ان الجواب على هذا التساؤل يكمن في ان مصر مع كونها كانت تدار بنظام كاتم للحريات السياسية الى حد بعيد غير ان الاحزاب السياسية هناك

استطاعت ان تتقولب بمنظمات مجتمع مدني فاعلة في الشارع المصري وبالتالي تمكنت هذه القوى من اخذ دور كبير في تسيير المظاهرات الشعبية والناي بها عن حالات الشغب والتخريب التي خطط لوقوعها وساهم في تنفيذ مفرداتها نظام محمد حسني مبارك واستطاع القادة السياسيون المعارضون لهذا النظام ان يتحلوا بروح المسؤولية التي أملت عليهم التنازل عن ادوار القيادة لصالح تحقيق المرامي الشعبية بمعنى اخر ان مفهوم مؤسسة الحزب انقلب بشكل او باخر الى مفهوم مؤسسة المجتمع المدني.

بينما الوضع في العراق مختلف عن الحالة المصرية على الرغم مما يشاع من وجود نظام ديمقراطي في هذا البلد، والسر في ذلك يكمن في كوننا في العراق نحظى بديكور ديمقراطي لا نظام ديمقراطي متكامل فمع اقرار الدستور العراقي لحرية التعبير بما يتضمنه هذا المبدأ من سماح لمظاهر المعارضة السياسية كالاحتجاجات والاعتصامات المدنية غير ان العراق من الناحية الواقعية يفتقر الى تنظيم قانون للتظاهر والاحتجاج يحدد حقوق وواجبات المتظاهرين ويحول بالتالي دون تفريغ هذا المبدأ الدستوري الراقي من محتواه وتوفير مناخ خصب لرواج قمع المطالبين بالحريات والحقوق.

والخلاصة فمن دون كفالة حق التظاهر للعراقي قانونا وباطر سليمة سيظل حق التعبير عن الرأي الذي كفله الدستور حقا غائبا او مغيبا وفي اسوأ الحالات سيكون حقا مضيعا ومهدورا، خاصة اذا تم تشريع قانون لتنظيم التظاهر على غرار قانون تنظيم الانتخابات مثلا هذا اولا.

وثانيا ان افتقار بعض منظمات المجتمع المدني العراقية الى الخبرة الكافية وضعف نفوذها الاجتماعي على خلفية سوء ادائها على مدى ثماني سنوات وما رافق هذا الاداء من فساد افقدها القدرة على قيادة زمام حركة الاحتجاج المدني على الاقل في نطاق تردي واقع الخدمات واستشراء الفساد المالي والاداري في مؤسسات الدولة العراقية.

اننا في العراق نمتلك منظمات غير حكومية لكنها في الوقت ذاته غير مدنية وبعبارة اكثر دقة فاننا نمتلك مؤسسات للمجتمع المدني ولكن من دون وجود للمجتمع المدني نفسه.

وثالثا: ان الاحزاب السياسية العراقية المعروفة تكاد تكون ممثلة برمتها في المنظومة السياسية الحاكمة حاليا مع استثناء بعض الاحزاب المتضررة من الواقع السياسي الراهن او غير المشاركة فيه بقوة، وهذه بمجملها تدين مع الاسف الشديد بمنطق التغيير العنيف تحت يافطة: ما اخذ بالقوة يسترد بالقوة، وقد ادى نزولها الى الشارع مع المتظاهرين العاديين مؤخرا الى انزال ضربة قاصمة ضد حركة الاحتجاج المدني في العراق ووفر فرصة ذهبية لقمع هذه الحركة امنيا وبمباركة عملية من لدن النظام الديمقراطي الناقص.

 


 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google

 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com