قصة قصيرة

 

بتول تحكي قصتها ..

فيصل عبد الحسن

كاتب عراقي يقيم بالمغرب

faissalhassan@maktoob.com

 

بتول.. آنسة جميلة، لكنها كانت حادة الطبع، كل شيء في حياتها لا يقبل اللون الرمادي..، فالأشياء أما أن تكون بيضاء أو سوداء، قبيحة أو جميلة والناس أما أن يكونوا شريرين أو طيبين ولاحد لطيبتهم، بضة البشرة، زنبقة حقيقية، لها وردتان على خديها عندما تضحك. غمازتان محفورتان بأزميل فنان أضاف إليهما احمرار وجهها المدوَر جمالاً أخاذا، وأسفل عينيها الواسعتين المشدودتين بوتر غير مرئي إلى أذنيها، ظهرت هالتان سوداوان تدلان على معاناتها واحزانهاالمتأخرة. رقبتها الناعمة لها زغب أشقر لا يرى للوهلة الأولى، ترى من خلالها العروق الزرق ظلالاً باهتة، كتوشية مما كانت تنقشه الجدات على جلودهن إمعانا في التأكيد على جمالهن وإظهاره للناظرين، وعندما تشرب الماء توشك تلك العنق أن تشف ليرى الناس قبضة الماء وهي تمر بدفعات صغيرة إلى جوفها.. بتول بصدرها المتوثب وشفتيها الورديتين وطولها الفارع وامتلائها المتناسق كانت امرأة (هل صارت الآنسة امرأة ؟؟؟ لا احد يعرف، فهي عروس ترملت ليلة عرسها.... ) لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها بعد، تبثُ حولها نداءات سرية يستقبلها الرجال بتأثر خفي، خالقة فيهم حالة مبهمة من القلق المؤذي، والسعادة الغامرة التي لا يعرفون لها سببا غير بهجة الجمال... تتصاعد أصوات السجينات حولها، ويسمعنها كلاما مكرراً:

 [حرام هذا الجمال يذبل بالسجن....]

فترد عليهن:

- هذه قسمتي..( تتنهد قبل أن تكمل).. وهذا سواد حظي...

 رفضت جميع الرجال الذين تقدموا لخطبتي، متمسكة بوعود حبيبي وأخلاصه لي..(تصمت قليلاً قبل أن تكمل بنبرة حزينة ماسحة دموعها بمنديل مدعوك. ) وعندما جاءت القسمة وتزوجته، عرفت منه ليلة عرسنا أنه متزوج من ثانية، تخيلوا ما حدث لي تلك الليلة ؟؟؟ لقد جننت، وحدث الذي كان مقدراً له أن يحدث...

 تكاد أن تبكي وهي تحدثهن كيف ارتكبت جريمتها، وكيف خانتها عواطفها تلك الليلة وفعلت فعلها بعريسها، وهي الآن تدفع ثمن ذلك من شبابها وحريتها، ينقلونها من سجن إلى آخر، ومن عذاب العيش الذليل إلى عذاب تأنيب الضمير، حيث تحولت في الفترة الأخيرة الأحداث التي مرت بها إلى كوابيس تنتابها طوال الليل، حيث يأتيها [المرحوم ] في بداية الليل وهو يبتسم، قائلا لها أنه كان يمزح معها، وأنها فعلتْ شيئا لم يكن ينبغي أن تفعله، فتستيقظ صارخة، وتعمد صاحبات السجن إلى تهدئتها، والطلب من السجانة بضرورة نقل( بتول) إلى مستشفى الأمراض العقلية. ...صاحبات السجن يعرفن أن عقل صاحبتهن سليماً لكنهن يتمنين أن يخفف الحكم عليها، لأنها مظلومة مثلهن، وهذا ما يعتقدنه عن الظروف السيئة التي أوصلتهن إلى هذا الحال...

 المحطة مزدحمة: باعة شواء على الأرصفة. يختلط دخان منا قلهم بكوفياتهم المخططة وأثوابهم البيض الواسعة. رجال يعومون بالدخان. عمال السكك يسرعون وبأيديهم فوانيس مطفأة، كأنهم يحملون أيقونات أثرية، وكأن الفجر القادم هو فجر هاته المسجونات وحدهن لا يشاركهن فيه أحد...فجر خاص للمحطات المقفلة، المملوءة بالغرباء والشحاذين وأصحاب العاهات والسريين والباحثين عن كرامات الاولياء للشفاء من أمراض استعصت على الأطباء والأدوية، والعباءات السود التي تخفي تحتها صرر الملابس وأكواز الماء الرطبة، الصغيرة، وأحلام المسافرين وخوفهم، وذلك الشعاع الحزين الذي تبثه في الروح عيونهم …

 في العربة الثالثة التي حجزت لسجينات ينقلن إلى العاصمة، وقد صحبت السجينات امرأة سمينة ترتدي زي السجانات المميز، يصحبها ثلاثة شرطة وعريف كهل، أجلست السجانة( بتول) إلى جانب العربة الأيمن. كان فكرها مع صوت مطرب شعبي يأتي حزينا من مذياع قريب، بدت جهشاته معبرة عن اللوعة والفقد، وبالرغم من تحذير العريف للمسجونات بعدم الاقتراب من نافذة القطار والبقاء بعيدات عنها وعدم النظر إلى وجوه الناس في المحطات إلا أن السجينات التصقن بالنافذة المدرعة بالسفود الحديدية لمشاهدة المدينة التي عشن فيها قبل أن يغادرنها إلى العاصمة لتمضية باقي محكومياتهن، ولمراقبة المحطات القادمة التي سيمر بها قطارهن السريع عندما يغادر المحطة ... كن مسجونات لمختلف الأسباب: القتل والسرقة والتهريب وعدد قليل منهن لأسباب سياسية؛ بأعمار مختلفة وسحنات متباينة، السمراء والشقراء، من شمال البلاد ومن جنوبه، متحفظات ومتحررات، راقصات أتوا بهن من دور الملاهي ، خادمات قتلن مخدوم يهن ، بعضهن أكتفن بسرقة أموالهم وحاجياتهم ، نساء قتلن أزواجهن ، مراهقات عشقن وقادهن ذلك العشق إلى محن عديدة ، أخرها محنة عربة السجن الثالثة في القطار الصاعد إلى العاصمة ، خليط غير متجانس في العربة – السجن- الموصدة إلا من باب واحد ، جلس قريباً من الممر المؤدي إليه وعلى مقعدين متقابلين ثلاثة شرطة وسجانة تعدت الأربعين من عمرها وقد بدت من كثرة اختلاطها بالمسجونات ،والفترة الطويلة التي قضتها بهذا العمل سجينة هي الأخرى ، لكنها كانت في ذلك الوضع وكأنها سيدة السجينات ورئيستهن..

 لو لم يقع ما وقع لما وجدتْ الجرأة لتجلس قريبا من هذه المرآة المكتنزة الصدر، متوترة الشفتين، والتي ملابسها تعبق برائحة غريبة هي مزيج من عطر زهيد الثمن ورائحة تبغ حريفة، ولضربت صدرها بكفها وخمشت خديها، ربما لفعلت ذلك عندما تسمع خبراً عن واحدة من اللائي بهذه الأوصاف، لكنها تجلس الآن قريباً منها هادئة مستسلمة لمصيرها، تجمع طرفي عباءتها إلى نصف وجهها الأسفل منفذة ما تطلبه منها، فالمرأة - في اعتقادها - أكثر تجربة وانتقلت من سجن إلى آخر طوال العشر سنوات الماضية، ولا يزال من محكوميتها سنوات كثيرة كما أنها لا تخاف من أن تسمع الشرطيين سخريتها منهم ومن ضباطهم...تهتز العربات وترتعش الأضواء وتمر المحطات؛ محطة أثر محطة، وتجتاح العجلات الثقيلة المدوية صحراء مظلمة، وأعمدة ضئيلة … ترتج المفاصل الحديدية والوصلات. تنصت بتول لعوائه الوحشي مؤاخية لإنصات الصحراء وحيواتها السابتة. تلتمع في الظلام الشامل خارج عربات القطار النجوم وفوانيس عمال المحطات بزجاجها الأخضر والأحمر، معطية الإشارة للقطار أن يغزو غزواته الليلية للقفار والقرى الحزينة، النائمة بعد غروب الشمس بقليل، المتسربلة بضوء مصابيح باهتة، ترتعش أيضاً شعلات تنانير من خلال كوى وفتحات ضيقة في جدران بيوت طين وفي باحاتها.

 عريف الشرطة يصلي على سجادة قديمة ومع أرتجاجات العربة واتجاه القطار المتغير يضيع مكان قبلة الصلاة، إلا أنه يستغفر ربه ويحرك رأسه قليلاً وينظر بطرف عينه مستمعاً لضحكات بعض السجينات اللائي طلقن دنيا الحشمة وسمحن لأنفسهن أن يتعاملن مع الحياة على سجيتها وبانطلاق تحسدهن عليه من لا تعرف ظروفهن الصعبة، ويأسهن من ممارسة جديدة لحياة الحرية مرة أخرى، يغمض عينيه استحياءً وهو يرى إحداهن تكشف له صدرها فتظهر لعينيه ساقية الصدر المنحوتة نحتاَ... حاول أن يتمتم من جديد برباطة جأش ما حفظه من الآيات القرآنية ليتقي الفتنة ومعها الشيطان، لكنه يغفل عن الذكر لحظة فيعاود النظر فيرى بائع الشاي وهو يصب من ألكتلي الضخم للسجينات المتضاحكات... تعوذ من الشيطان الرجيم وعلى المشبك المخصص للحقائب فرش العريف بطانيته بعد الصلاة وحاول أن يغمض عينيه، وبقي الشرطيون يتضاحكون وبنادقهم بين أفخاذهم، والسجانة وضعت رأسها متكئة إلى معدن الجدار وأغفت، وتعالى سعال سجينة جاف... بتول أخذت تحدق بظلام الفلاة المقطوعة التي ترتد كل لحظة إلى الخلف، ناظرة بين الحين والأخر إلى ضوء المصابيح الخافت. سألتها رفيقتها التي تشاركها بالقيد الحديدي ،الذي حول معصميهما : لماذا قتلت عريسك ؟

انهمرت الدموع من عينيها. روت قصتها لرفيقتها، وتناثرت الكلمات بين دموعها وجهشاتها ومسحها لمخاطها، استطاعت المسجونة أن تعرف ما حدث تلك الليلة، التي اعتقدت فيها بتول أن عقاب الرجل الخائن الذي ضحك عليها بكلمات الحب والإخلاص فوطدت النفس لتخلص له وتتمسك به، ورفضت كل الذين تقدموا لطلب يدها، وكرر على مسمعها أنها عشقه الأول ووعده الأول وأنها الوحيدة التي لا يرى في هذا العالم غيرها ثم يعترف لها في ليلتهما الأولى بعد الزواج أنه متزوج من أخرى، فجأة قدحت عيناها بالغضب وهي تسأل شخصاً يقبع في الظلام، ربما خلف زجاج نافذة القطار: ما عقاب ذلك الرجل ؟؟ ما عقابه غير الموت ؟ ثم انفجرت باكية والقطار يدرج عنيفاً والعربات تهتز كأنما روح القتيل تهز العربات وتجوس فوق السقف وتطرق جدران العربات، وبعد أن هدأت قليلاً أخبرتها أنها لا تدري كيف واتتها الجرأة لتغرس في صدره سكين المطبخ، رأته يضحك ويضحك من سذاجتها وغفلتها، نعم لقد تزوج الأولى لمالها وتزوجها هي لجمالها ذلك هو تبريره لما حدث....

هل هذا منطق العاقلين يا ناس ؟ كان يضحك وهو يراها مقبلة نحوه معتقداً أنها آتية لتندس في حضنه مكتفية بالبكاء مما أصابها من ألم بفعله الغادر ثم تغيرت نظرته إليها، وصارت عدائية والسكين تنغرز في صدره والألم يزداد كلما صعب عليه التنفس…

 قالت وقد هدأت تماماً كأنما تطهرت من فعلها: (المحامي الذي وكلته في المحكمة، قال للقاضي: أنها طعنت عريسها، لإنه قتلها.. نعم لقد قتلها، ولاذنب حقيقي للمقتول إذا أصاب قاتله من فرط ألمه …) أنفرشت أحزان بتول في مساحة العربة، وتلاشت دموعها المتجمدة في الموقين وهي تستمع لغناء زميلات العربة ومشاجراتهن التي لاتنتهي والقطار يمضي مطوحاً بأستار ليل المدن الصغيرة والقرى التي يمر بها ويكشفها للرائي للحظة، لكنها كانت كافية لمعرفة دروبها وجغرافيتها المعقدة....

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com