قصة قصيرة

 

وليمة

صبيحة شبر

sabiha_kadhum@hotmail.com

الوضع رهيب، والقسوة بالغة الفظاظة، لقد أرعبني وقلب قنا عاتي، لم أكن أحسب أن الإنسان، المخلوق العاطفي الرقيق، يمكن أن يقدم، وبملء إرادته، على عمل تقشعر لهوله الأبدان، ومن قام بهذا العمل الرديء والآثم ؟ انه ولدي، الابن العاق الذي ربيته يوما بعد يوم، سهرت على راحته ورعايته ساعة بعد ساعة، قام هذا الابن بطعني وبأعصاب باردة، وبدون أي شعور بالتردد

 هالني ما أقدم عليه ولدي ذاك، لم أمنحه العلم فحسب، بل غرست في نفسه المباديء السامية والعواطف المرهفة، لكن الذي أثار فزعي، وولد حزنا بالغا في نفسي أن المشاعر الرقيقة التي غرستها في نفس ابني لم تثمر، وأن الشجرة التي تعهدتها بالعناية والسقاية والاهتمام، قد ماتت قبل أن تورق أغصانها، أحاول أن أخبيء حزني وأستر لوعتي وخيبة أملي، وأنا أجد ولدي العائد توا من السفر يقدم على قتل حبيباتي، حمائم جميلة رقيقة، زاهية الألوان، كانت تملأ علي المنزل سرورا وتبدد شعوري بالوحشة، وتقلل من إحساسي بالوحدة وذلك الهاجس الذي ما انفك يلازمني بأنني مخلوق غير مرغوب فيه، قد أنهكته السنون وابتعد عنه الأصحاب والأحباب، وفارقته شريكة العمر إلى الرفيق الأعلى، فلم يبال ولده الوحيد بآلامه وأوجاعه ولم يكلف نفسه أن يطمئن على أحواله أو يستفسر عن أموره، كل ما كان يطلبه أن تصل إليه الحوالة المالية مطلع كل شهر، ولم يكن يدري كيف أتمكن من تهيأة المال المطلوب وأنا المتقاعد العجوز العاطل عن العمل،وما شأنه هو ؟ كل همه الحصول على المال لا غير، لقد فرحت بقدومه، وحدثت نفسي بأن متاعبي سوف تزول وأن شعوري المؤلم بالوحدة والغربة لن يستمر إلى الأبد، وسأودعه إلى غير رجعة

 ما إن وصل ولدي إلى بيتي، وقبل أن يريح نفسه من وعثاء السفر كما يقولون أعجب بحماماتي

- ما أجمل هذه الحمامات يا أبي، إنها بمنتهى الروعة، ألوانها بديعة بين الأبيض والسماوي والرمادي

- إنهن صديقاتي بابني

- كيف استطعت أن تجمع هذا العدد، وبمثل هذا الجمال ؟

 حدثت ولدي عن بناتي، وأنني أجد سعادتي قربهن، وأنهن متلهفات على صحبتي، لا يظهرن مللا من وجودي مهما استطال هذا الوجود، لقد اعتدن على الترحيب برؤيتي في الصباح، ما أن أغادر سريري، حتى أهرع إلى الفناء، وأجدهن أمامي مرحبات باشات يرفرفن فرحا وطربا، ويعزفن بأجنحتهن سرورا ويطرن قريبا مني ابتهاجا، وأنا مستبشر أشكر الله على نعمه الجليلة وأسأله أن يديمها علي، فأنا وحيد في هذه الدنيا وحماماتي مصدر هنائي وسر بهجتي

 عندما وصل ولدي وسألني عنهن، أطلت الحديث عن مزاياهن، وعن الخصائص التي تتمتع بها كل واحدة منهن، وكنت أحسب أن ولدي سيشاركني اهتمامي، ولكن الذي أثار نقمتي وبدد فرحي أنه أراد أن يقتلهن وأمامي

- لكنها قسوة بابني،كيف تذبح هذه الطيور الوديعة من أجل أن تقيم وليمة لأصدقائك ؟ يمكننا أن نشتري اللحم من كل الأنواع

- إني أريد هذه الحمامات، لقد وعدت أصدقائي أن أقدم لهم حماما محشوا في وجبة الغداء

 اقترحت على ابني أن يشتري ما شاء من الحمام وأن يذبحه لوجبة المدعوين، لكنه أبى إلا حماماتي

لم أكن أظن أن الولد إذا كبر وشب وبلغ مبلغ الرجال يقضي على حياة أبيه، ويئد شعوره بالسعادة، وكثيرا ما حدثني بعضهم عن عقوق الأبناء، فلم يكن بمقدوري أن أحسب أن ولدي سيكون ضمنت هؤلاء الأبناء العاقين، كنت أظن أنه سيرحم عجزي ويعطف على شيخوختي، فيبقي على حماماتي، فهن انسي وفرحي

أخذ يمسك الواحدة منهن وهي وادعة مستسلمة تتكيء على كتفي، أو تقف على رأسي او تلقط الحب من يدي ويربطها بيديه، وهي تنظر الي بعتب تود أن تصرخ وتعلن عن احتجاجها وثورتها، لكن يدي ولدي قويتان، الدموع تسيل من عيون حماماتي، وأنا واقف لاأستطيع أن أقدم لها نجدتي وانقذها من براثن هذا الابن القاسي ذي القلب المتحجر ..... والدموع كانت تسير مني مدراراعلى وجنتي، وتصل الى فمي، كنت أحاول جاهدا أن لا يرى ولدي دموعي، فمن يدريني ؟ قد يتهمني بالجبن والخنوع، لم أستطع أن أنظر إلى حماماتي الحبيبات وهن يذبحن، بل كنت أبعد عيني إلى الجهة الأخرى، وبقيت مسلوب الإرادة أمني النفس إن لا يبيد ولدي كل حماماتي، حتى أتى على آخر حمامة، فقمت بمغادرة الفناء إلى غرفة نومي، بقيت حزينا أفكر بالمصير المأساوي لحماماتي وكيف إنني مخلوق ضعيف لم يستطع دفاعا عن بناته الضعيفات، وأنني غير جدير بالحياة، فكم تكلمت عن الشجاعة وعن حرية تقرير المصير، وإذا بي أكتشف أنني رعديد وجبان، وأنني عاجز عن حماية من يأويه منزلي،وبقيت أشعر بالضعف والهوان، حتى قررت أن أبدأ من جديد وأشتري زوجا من الحمام، آتي به إلى بيتي، ليشاركني حياتي ويبدد شعوري بالوحدة

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com