قصة قصيرة

 

في الزنزانة الأخرى

( قصة من وحي السجون السياسية العربية )

 

 

بقلم:مهند صلاحات / كاتب وباحث فلسطيني

salahatm@hotmail.com

 يقول نيلسون مانديلا « لا يسلب السجن حرية الإنسان وحسب، بل يحاول أن ينتزع إنسانيته، فكل واحد من السجناء يرتدي ملابس من الطابع نفسه، ويأكل الطعام نفسه، ويتبع الجدول اليومي نفسه من العمل والروتين، إضافة إلى كبت الحرية، فالسجن نظام استبدادي قهري لا يقبل الاستقلال أو تميز الشخصية، وعلى المناضل بحكم أنه مناضل وبحكم كونه إنساناً أن يقاوم طغيان السجن وأن يحول دون أن تسلب منه كل تلك الخصائص»

 في ذلك المكان، حيث الظلمة والوحدة القاتلة، وصراع الروح الذاتي مع نفسها, والتردد في البوح بين خيارات الاستسلام التي تمنح الحرية الكاذبة مقابل الخيانة، وبين الصمود العادي المفعم برائحة الإخلاص الإنساني للذات... للرفاق... للأشياء المحيطة جميعها.. لرائحة الوطن الأسير خلف نهر وجسر, وعدد من الحراس المختفين خلف حصون وسواتر... الذي يدفعنا لدفع الثمن (اللاحرية ).

كنت أمارس فعل اشتياق غريب بنكهة لا توصف.. براحة لم يسبق لحاسة شم استنشاقها من قبل...

في ذات المكان المظلم رغم الضوء الأحمر الخافت المائل للصفرة، المؤذي للعين الناظرة إليه، حيث لا متنفس سوى طاقة في منتصف الباب مغلقة أيضا... تُفتح ليطل منها الحارس ليشعل لي سيجارة، أو ليعطيني الطعام... أو ربما ليستدعيني لمقابلة الضابط لبدئ جولة تحقيق جديدة... أو ليكسر غفوتي للاستمرار في مسلسل المساومة بين الحرية الممنوحة من قبل الضابط المسماة إطلاق سراح... مقابل التخاذل والاعتراف....

 أو بين بصاق المحقق وشتائمه... وأيدٍ هابطة على جسد بحقد ليس له مبرر... بسبب تقمصي لصفة الجاهل الذي لا يعرف شيئا ولا علاقة له بأحداث يعلم الجميع انه ارتكبها بمحض إرادته... أو كما يسميه المحقق ذو العينين السوداويين الذائبتين بخبث ظاهر في ملامح الوجه، اللواتي يتحركن بسرعة ملاحقتان حركات يدي وعيوني وحتى صوتي.

 كنت ارتكب فعلا فاحشا أمام المحقق هو فعل الكذب المطلق, أحاول لعب دور المسكين... كنت أبرر لنفسي ما افعله مسميا ذلك كذبا ملائكيا يحفظ سلامة الآخرين وسلامة نفسي من التورط باعتراف قد يؤدي بي لأن أبقى بقية عمري بين جدران أربع منقوشة برسوم لم افهم بعضا منها والبعض الأخر خربشات وشعارات محفورة إما بقطعة معدنية أو جسم اجهل نوعه أو مكتوبة بقلم تبدو واضحة اكثر من الحفر... هذا الوصف الذي اصف به كلامي أمام المحقق (كذب ملائكي ) كان بنظري الحالة الوحيدة التي يكون فيها الكذب فعلا جميلا ومبررا ونوعا من الإصرار الحقيقي والصمود الجميل عن البوح بالحقيقة لأحد لا يستحق أن يعرفها... لان الحقيقة الرائعة تصبح فعلا مجرما بنظر قانون ما, ربما كان قانون طوارئ أو قانون رجال آمن يلهون بأجساد المساكين في الزنازين....

تناقض غريب يحمله ذات القول المنكر... كذب جميل، كذب مبرر، كذب ابيض.

كالعادة سيصرخ المحقق في ذلك الغبي الذي لا يفارق بوابة غرفة التحقيق قائلا له: خذ هذا الحيوان من هنا وألقه في زنزانته حتى يعرف جزاء كذبه وإصراره على الكذب... سأعلمه الأدب وأربيه إن لم يستطع والداه تربيته على الأخلاق والصدق...

نعم كنت اكذب... اكذب بمحض إرادتي التي املكها... اكذب بكل إصرار... كم هو الكذب ملائم في هذه اللحظة... وكم من المخجل أن لا تكون كاذبا أمام هذا الرجل... لان لحظة صدق معه قد تؤدي لان يلحق بك بقية أصدقائك, يتوزعون على غرف شبيهة بزنزانتك لا تعرف أين هم بالضبط وفي أين زنزانة يرقدون.

كنت اكذب ممارسا قولا مجرما من كل القوانين والشرائع، لكنه كان جرما وإثما أحببته ومزجته بفعل الإصرار وأنا على يقين أن بوحي بالصدق هو الإثم والجرم.

 

(ساعة الشمس في السجن )

 في ذات اللحظة التي تحرم الإنسان من ضوء شمس صيفي يتسبب في إفراز العرق، وفي الشعور أحيانا بالكسل والحاجة للنوم... وفي التململ من الجلوس فيه طويلا... ضوء الشمس الذي يحمل لونا حقيقيا من الصفار الذهبي اللامع ببريق لا تحتمله العين المجردة... وكأنه الحقيقة التي لا يحتملها الآخرون... كنت أُحرم منه سوى ساعةًَ في اليوم تشابه الكذب أو لحظة حلم.

 من وجهة نظر الجلادين, أن الإنسان بحاجة لساعة واحدة فقط، ستون دقيقة تكون كافية ليعانق فيها خيوط الشمس، حيث يلتصق بكَ رجل الأمن مترقبا بالدقائق مضي هذه الساعة بدقائقها الستون وثوانيها, لينتهي وقت ما يسمى هناك ( بالتشمس) ليعود ويلقي بك في الجحر الذي لا يبدو إلا كوكر خفافيش أو ذئاب لا تعرف لون الشمس منذ خلقت.

 في تلك الدقائق الستون التي يسمحون لنا برؤية ضوء الشمس فيها من بين أربعة جدران مفتوحة من الأعلى لتدخل الشمس منها من الأعلى فقط، ويشاركك فيها رجل الأمن الذي لا يفارقك، والذي يمارس وظيفة تبدو مألوفة له ومحببة له ولأصدقائه وأفراد أسرته التي تفخر بكونه يعمل في دائرة للمخابرات العامة حتى وان كان مجرد حارس لا يقدم ولا يؤخر ولا يستطيع مسألة حتى عامل النظافة ماذا يعمل... يمارس وظيفة عرفت منذ القدم وتوارثها الساذج عن الموالي للنظام عن العاطل عن العمل, وهي احتباس حرية الإنسان الذي ولد حرا ليحيى حرا ويموت أيضا حرا.... تلك الوظيفة التي أشبه ما تكون بإدخال أنبوب لسرقة الهواء من داخل رئة مريض يعاني ضيق تنفس... وما أصعب أن يعاني الإنسان من ضيق الحرية.

 ما أصعب أن تسرق هواء من رئة إنسان يحتاج لكل ذرة أكسجين لكي يتمكن من الاستمرار بالحياة, الحق الوحيد الذي لا يحق لأي كان وفي أي مكان كان أن يسرقه من أحد أو يمنعه عن أحد دون مبرر حقيقي.

 لكن هذا الشرطي يبدو انه قد تبرع لممارسة مهنة إضافية إلى جانب مهنته في حراستي ولا يعاقب إداريا على مخالفتها وهي أن يعد أنفاسي وأنا أحاول سرقة الشمس وإخفائها تحت ملابسي الزرقاء التي أهدوني إياها حين أدخلني لتلك الزنزانة.

 لم أكن أشعر أن الشمس بهذا العمق من الجمال وأن لديها كل هذا التودد الأنثوي, وهذه الرقة في مداعبة جسد أصابته الرطوبة من جراء تشربها من كل ما في الزنزانة من رطوبة الفرشة الممزقة الأطراف، والجدران الرطبة.

 دقائق ستون مع تلك الشمس في وقت الظهيرة أكثر روعة من تقبيل أنثى على مقعد بحري تسرقها عيون المارين والفضوليين والمراهقين من حولنا على شاطئ البحر الذي اجهل عنوانه كما غدوت أجهل عنوان الحرية التي ودعتني على باب بيتي حين قدم الرجال الثلاثة الذين عرفوني بأنفسهم ومن ثم اقتادوني بسيارة بيضاء اللون معصوب العينين, حيث أفقت من تعصيب العينين فوجدت نفسي في هذه الزنزانة الكئيبة.

 هذه الشمس الأنثى حين كانت تشاركني كل صباح فراشي المنزلي في بيتنا هناك بعيدا ابعد من هذا النهر الذي يقسم الضفتين، تدخل دون استئذان كل صباح متجاهلة أذني بالسماح لها وكذلك استغراقي في النوم، مستغلة نسياني لإطباق الستارتين على بعضهما، فهي تعلم يقينا أنى أبقيت الستائر بعيدة عن بعضها كي أبقي لها الطريق مفتوحة للدخول عند إشراقها من الشباك.

 تستلقي بجانبي, تضايقني ببعض حرارتها فأضطر لإزاحة الغطاء عن نفسي وكأنها تتعمد بعث ذلك الدفء كي أفسح لها المجال لتستلقي بجانبي تماما, وكي لا يمنعها عن ملامسة جسدي ذاك الغطاء, تشاركني الفراش و الوسادة.

 تأتي من الشباك الشرقي للغرفة بسرعة هائلة وتقوم بكل حركاتها المعتادة من بث حرارة واقتحام غرفة وإضاءة ساطعة لتحضنني وتنام قربي.

 تتعمد مضايقتي بحرارتها التي تبدأ بالارتفاع أحيانا لحد أنها كانت تمنعني من استكمال حلم صباحي جميل، كنت أحس أنها زائرة فضولية جدا تسرق نومي، وبنفس الوقت غيورة لدرجة أنها لا تريدني أن استكمل حلما خوفا من أن تمر في الحلم أنثى غيرها، تسرق مني نومي واسترخائي وتسعى لاستفزازي حتى استفيق. امرأة أخرى لا يمكن أن يشابهها أنثى في الكون بنظري تمارس إيقاظي كل صباح... تلك التي لا يمكن لأحد أن يحبني مثلما أحبتني... أم ليست كباقي الأمهات... أجمل الأمهات التي تنتظرني منذ سنوات... وشوقي لها منذ سنوات يزداد كلما مرت ثواني من العمر.

 تطرق الباب أمي حاملة فنجان من الشاي مع النعناع الأخضر الذي زرعته في أروقة البيت وسقته ماءا بيديها, لتقول لي: أفق حان موعد ذهابك. أيها الكسول المحب للنوم, هل ستتأخر ككل يوم !!! قم لتناول الشاي ليساعدك على النهوض من الفراش - رغم علمها أني أفضّل القهوة في الصباح إلا أنها تقول أن القهوة مضرة ولا تعطيني ما يسبب لي الضرر، حتى أنها تمزج الشاي بالنعناع حتى تخفف من ضرر فنجان من الشاي، هذه الأم تحسب حساب لكل شيء يخص أبناءها الذين طالما عاشوا يسببون لها التعب الجسدي والنفسي، تحبنا جميعا مهما تسببنا لها من إساءة عفوية أو مقصودة وتعتبرنا جزءا من روحها لا يمكن فصلها عنها.

 أمي تعلم تماما أن الشمس قد سبقتها لإيقاظي من النوم، ولكنها تعلم أيضا أن حبي في الاستغراق في النوم والتقلب على السرير يغلب قدرة الشمس على إيقاظي بشكل نهائي, فتقوم هي بإكمال هذه المهمة بدلا عن الشمس.

 في الشتاء حين تتآمر الغيوم السوداء مع حبات المطر الساقط من الهواء بهدوء على منع الشمس من دخول غرفتي من ذات الشباك. كانت أمي وحدها التي تقوم بإيقاظي بفعل يومي غير منقطع لم تمله منذ كنت طفلا بالسادسة, توقظني حتى أسبق جرس المدرسة الذي كان دوما يتسبب لي بالعقاب بسبب تأخري عنه.

 شمس ذات جدائل صفراء ذهبية براقة تدخل غرفتي دون استئذان وتعد لي القهوة وتلقي بنفسها بجانبي، وأم حنون ذات قلب ماسي تعد لي الشاي وتطرق باب الغرفة.

 ساعة الشمس في السجن لا يفسدها إلا شيء واحد فقط، أن ترى ذلك الشرطي يقف على قدميه بعد ستين دقيقة من المتعة والحوار مع السيدة الشمس ليقول لك: انتهى وقتك المخصص. وكأنه يقول لهذه الزائرة الوحيدة التي جاءت لزيارتي من أعلى الجدران الأربعة التي تحيط بي: انتهى وقت الزيارة.

 أهبط معه السلم وأنا أنظر لزائرتي الوحيدة (الشمس) مودعا إياها قائلا: عودي غدا بنفس الوقت تماما سأكون في انتظارك. أودعها، ارفع أصابعي في الهواء محاولا لمس جدائل أنثاي الشمس الذهبية... وتنتهي ساعة الشمس في السجن....

 

(فعل شوق)

 يمر اليوم الرابع عشر في الزنزانة وتمر معه ذكريات مملة عن أيام أمضيتها في تلك الكآبة التي لا توصف ويدخل جليا كشيخ كبير هذا اليوم الخامس عشر وينتصف النهار، فيخرجني مرة أخرى للشمس وتمضي ساعة ومن ثم يعيدني الحارس إلى الزنزانة القبيحة، حيث أعود لممارسة أفعالي المتشابهة في الزنزانة.

 أتأمل، أفكر بعمق، أحاور ذاتي، أمارس المونولوج الداخلي الذي يقتلني بترددي حتى اشتياقي لك حواراتي مع ذاتي عنك، وفعل أخر لا أعرف من يشاركني ممارسته وهو أسئلة كثيرة بلا أجوبة تحيط بي من كل جانب، تطرح نفسها بكل وقاحة وهي تعلم مسبقا أنى لا أملك جوابا لها, تجعلني أتمنى أن أكون طفلا صغيرا فضوليا كثير الأسئلة يسال كل من حوله دون تردد وخجل.

 فعل واحد مارسته بكل تألق وروعة، طورته بقدراتي الذاتية ودون مساعدة من أحد، كان من أجمل ما فعلت إلى جانب شوقي لك. ذلك الشوق الجريمة التي كنت أرتكبها كل لحظة وأخفيت معالم وأدوات الجريمة عن عيون السجان والمحقق والجلاد، لأن فعل الاشتياق لك يعتبرونه مثل جريمة الشوق للوطن ومحاولة الوصول إليه، فأوصلني شوقي للزنزانة المملة أكثر من حوار أحمق.

 

 (في الزنزانة الأخرى )

 الفعل الذي طورته وحدي كان يتعلق بزنزانة مجاورة ينطلق منها صوت أعجز عن وصفه، عن تقليد نبراته, عن تحليل خيوطه الصوتية. صوت أعجزني عن محاولة إخفاء شدة إعجابي وتعلقي فيه منذ اللحظة الأولى التي بدأت بالاستماع فيها إليه حتى جعلني أطرق الحائط الذي يفصلني عن الزنزانة ثلاث مرات متتالية حين ينقطع صوت الغناء الأسطوري من الزنزانة.

 ذات الصوت الذي ولد لدي حقداً تجاه حارس البوابة الحديدية المصفحة والتي تحدث صوتا مرهقا ومزعجا حين تفتح وتغلق بابها ورنين المفاتيح فيها، حين كان يصرخ الحارس في جاري ذي الصوت المخملي والنبرة الحزينة كورقة توت في الخريف تسقط طالبا منه أن يكف عن الغناء. لم أذق بحياتي شيئا أكثر روعة ولذة من هذا الصوت، ولم يخطر ببالي ساعة أن الصوت الذي يصفه العلم بأن له خاصية اختراق بعض الأجسام والاصطدام ببعض الأجسام الأخرى محدثا الصدى والذي كان يتردد في أرجاء القسم، أن لهذا الصوت طعم مثل طعم الفراولة أو الكرز أو الموز على مائدة الفقراء.

 كان صوتا رغم حزنه متمردا جعلني أحلل لونه كقوس قزح لألوان سبعة, ألاحقه كطفل يلاحق فراشة في أرجاء الغرفة, ربما هذا الذي جعلني أهون على نفسي عناء الاحتجاز الذي يمتد من أيام.

 في الزنزانة المجاورة كان صديقي المجهول وجاري الذي لا ألقي عليه تحية الصباح كحق من حقوق الجار علي أن ألقي عليه التحية كلما صادفته, يغني أغنية لطالما أحببتها بشغف وودت لو أنه يستمر في إنشادها دون انقطاع طوال فترة بقائي جارا له في الزنزانة أو بقاءه جارا لي, فلا أحد يعلم أينا سيرحل قبل الأخر من هذا المكان الرمادي بفعل منع الشمس من الدخول عليه: إن إنشاده لكلمات أغنية( في غرفة صغيرة وحنونة كنا نلتم هالاصحاب وجامعنا.... جامعنا الهم.... صورة عالحيطان بتحكي هاي رسم حصان....... )

 والحقيقة أنه لم يكن أي من الأصدقاء الذين يتكلم عنهم معي في الزنزانة كي ألتم معهم وكذلك لم يكن أي صور على الجدران باستثناء خربشات من سبقوني.

 خربشات حفظتها كلها عن ظهر قلب لأنها كانت تعني لي الكتاب الوحيد الذي يمكنني القيام بقراءته دون أن يسألني أحد ما عن نوعه ومضمونه، ولا اضطر لأن أتعرض للاعتقال بسببه, فهذا الكتاب المحفور والمكتوب والمرسوم على الجدران غير قابل للتداول إلا بالوراثة في هذه الزنزانة.

 ( لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل ) موقعة باسم هـ. أ (سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر أن الشعوب إذا هبت ستنتصر) موقعة باسم ص.ر.ج (افتحوا نافذتي لتدخل الشمس إليها... أو فأخرجوني يا أصدقائي ) بدون توقيع (يا كلمات الثوريين.. كوني وعد الشمس تحت هضاب القدس ) أيضا بدون توقيع ( صمت... صمت... يا هذا الطارق أبواب الموتى... يا هذا الطارق من أنت ) (محاولة عابرة لرسم حصان لم يستطع المحتجز بهذه الزنزانة استكمال رسمه فربما قد تم الإفراج عنه قبل أن يتم رسمه أو ربما لاحظوا ما يقوم به فقاموا بنقله لموقع أخر أو مصادرة أداة الرسم التي أستعملها في النقش على الجدار لكن بلا شك كان نقشا جميلا لكنه غير مكتمل ) (إشتقت إليك... وما أخرني إلا حراس الطرق إليك إلى وطني..... وبجانب هذه العبارة رسم صغير لقلب بداخله حرف ميم باللغة الإنجليزية) كذلك عبارة كانت تضحكني دوما بإستفزازيتها ( لا تفرحوا سأعود ) كانت دوما تجعلني أتساءل، هل هناك من يتمنى العودة إلى هذا المكان مرة أخرى ؟؟ أم انه من باب التحدي للجلاد وكأنه زبون دائم لهذا المكان

 كل هذه الأشياء أتأملها كل ساعة, أقرأها بتمعن شديد، أحاول تخيل صاحبها، أحاول تحليل نفسيته وانطباعاته وربما تخيل شكله أيضا, فربما كان صديقا لي أو ربما مر ذات يوم من أمامي في السوق أو في الشارع الرئيسي أو حاولنا معا قطع الطريق حين أضاءت الإشارة الحمراء معلنة توقف السيارات أو ربما جلسنا في ذات المقهى، أو اشتركنا دون أن ندري في الإعجاب بحركات أو جسد أنثى عبرت من أمامنا دون أن نعرف بعضنا أو يكن بيننا أدنى رابط أو علاقة.

 شيء واحد أنا متأكد منه أننا أصبحنا أصدقاء حتى لو لم نلتق بحياتنا لأننا تشاركنا في ذات الزنزانة وذات الفراش وذات الكتاب المكتوب على جدران الزنزانة وقرأناه بتمعن, دون أن ندري من كان صاحب أول كلمة فيه أو ربما خربشة أو رسمة جميلة على الجدار.

 

(أحب البرتقال وأكره الميناء )

 تسير الأيام كعجل الطاحونة بلا توقف، وأي شيء ممكن أن يوقف جريان الأيام ويوقف عجلة الزمن !!!

 إنه اليوم الثامن عشر في هذه الكآبة المسماة زنزانة, وأنا عاجز عن تمييز الأيام التي تمضي إلا من خلال قدوم الحارس ليقدم لي طعام الغذاء، فأعد الوجبات التي تناولت فيها الغذاء فأعرف عدد الأيام.

 فأنا منذ ثلاثة أيام محروم من ساعة التشمس خارج هذه الزنزانة فأشعر أن النهار لم يأتي وان الشمس لم تشرق على العالم.

 أغفو قليلا حين يداهمني السهو والتأمل العميق في السقف الأبيض والجدران المزينة باللوحات والكلمات.

يقطع هذه الغفوة التي رغم قصرها لأقل من ساعة استطاعت أن تجمعني فيك بحلم جميل, كسر هذا الحلم صوت الحارس ( خذ تناول غذاءك ) أتناول الطعام منه... صحن أرز ابيض وبجانبه مرق أحمر يطفو فوقه قطع من البطاطا التي كنت أتجنب أكلها لمذاقها الذي لا يعجبني دائما. ولكن الشيء الجميل أن البرتقال أيضا يزورني في السجن. حبة برتقال دخلت مع الطعام أشعرتني أني دخلت بستانا في حيفا وقطفتها وعدت سريعا للزنزانة قبل أن يلاحظ هذا حارس البوابة. حبة البرتقال هذه عبارة عن فصل كامل من التحريض على الشوق للوطن وبساتينه ومياهه العذبة التي ما توانيت لحظة أن أغمس يدي واحمل الماء فيها واشربه حتى أطفئ عطشا لم يكن ليطفئه سوى ماء من نبع في الوطن البعيد. لو يعرف السجان مدى الفعل التحريضي الذي سببته حبة البرتقال هذه من شوق وشغف للوطن بالتأكيد سيمنعها عني.

 حدث ذات مرة أن قمت بإرجاعها دون أن أكلها رغم تعلقي الشديد بشكلها وطعمها ورائحتها المستفزة لخلايا الشوق بالدماغ عندي, لا اعرف حتى الآن لماذا قمت بهذه الحماقة و أرجعتها مع الطعام الذي انتهيت من تناوله, لكن حتى ابرر لنفسي جريمتي التي ارتكبتها ضد نفسي، قلت لنفسي: إني أخادع السجان كي لا يعرف أني أحب البرتقال فيمنعه عني وكم رددت كلمات درويش التي قالها في قصيدته مديح الظل العالي وخاطبت فيها البرتقالة ( وأكتب في مفكرتي... أحب البرتقال وأكره الميناء ) ربما هذه إحدى الجمل التي كم وددت لو أكتبها على الجدار لأضيف سطرا جديدا للمخطوطات على الجدران ليقرأها زائر أخر سيحل بعدي حين ارحل مودعا هذا المكان غير نادم على فراقه وغير أسف عليه لحظة.

 أبدا بتناول طعامي وأنا أتأمل البرتقالة الجالسة كأنثى مغرية أمامي على الأرض، أحسها أحيانا قلبي هرب مني بين ضلوعي وجلس أمامي يحاورني.

 

(حضورك الدائم بالذاكرة )

 أنتهي من طعامي وأنادي الحارس (خذ الطعام وأشعل لي هذه السيجارة ).

 أحتفظ بحبة البرتقال بيدي أقربها إلى أنفي، أشتمها فتزيدني شهوة ونشوة... يشعل لي الحارس السيجارة واستلقي على ظهري وبيدي السيجارة وبالأخرى البرتقالة وابدأ في إجهاد ذاكرتي في تذكر ما قد حلمت به قبل أن يكسر غفوتي ذلك الحارس, والذي يمنعني حتى من حريتي في إشعال سيجارتي في أي وقت أريد فهم يمنعوننا من حمل الولاعات في الزنزانة خوفا من أن نقوم بالانتحار كما يقولون ولكن الحقيقة أن من سن هذا القانون كان يعي لذة الحرية في إشعال سيجارة في وقت لا تكون بحاجة فيه لان يساعدك أحد في هذا العمل الذي يحمل نشوة ونكهة مميزة، وان لهذا الاشتعال والدخان الصاعد دور في إجهاد الذاكرة في استرجاع لقاء إلتقيته بك لم يدم في البداية أكثر من ساعة أحاول فيها وصف لقائي بك.

 لم أكن لأستطيع أن أصف هذا اللقاء في لحظته وحتى حين سألتني عن شعوري حين إلتقيتك أول مرة لم استطع الإجابة.

 فأول ساعة لقاء جمعتنا معا دون سابق إنذار ٌترفنا فيها فعل اللقاء ومارسنا فيها بمنتهى الخجل سرقة النظرات المتبادلة والتأمل لبعضنا. فحين تندمج الدقائق الستون لتصبح ساعة أجتمع فيها معك أكون أمام معجزة وقتية يعجز عن تفسيرها أو حتى حل أصغر معضلاتها الزمانية كبار المفكرين في القرن العشرين وحتى مجرد التفكير بأتن سنين العمر الماضية بما فيها من دقائق وساعات وأيام كانت بحجمها ونوعها وتميزها الفريد والرائع روعة لقائنا الذي رسم في حياتنا خطا جديدا نبدأ منه بداية لحياة مثلى بنظرك أنت وربما أكثر إثارة بالنسبة لي بلا سطوة من أيام كانت تحتجز حريتنا ولا سطوة من حارس سجن بدافع إبعادنا دون التسبب في عدم لقائنا لتثبيت روابط هذا الحب الذي أحسه يقهر الأيام حين يكبر كطفل كل يوم ويزداد تألقا وجمالا وروعة.

 وإن افتراس الزمن لتلك الدقائق بسرعة قياسية يعني أن تلك الدقائق قد ولدت في تلك اللحظة من اجل إقترافنا فعل اللقاء معا، وماتت بفعل وداعنا لحظة الفراق مخلفة ورائها أسطورة من الذكريات الحية مثل تنين الصين الذي بقي حيا على جدران البيوت واللوحات والكرنفالات رغم عدم وجوده الحتمي.

 وإن عجزي عن صياغة لقائنا بحروف مكتوبة أو منقولة بالشفاه ليس إلا قوة لهذا الحب الكبير الذي قد اعجز أي آلة شعرية ونثرية أدبية عن تفصيله أو وصفه أو مجرد المحاولة البدائية للكتابة فيه.

 هذا الحب الذي أصبح من التقنيات الكونية كتكون الأرض وتكون الأجنة بالرحم، غني عن وصف شاعر وتحليل مفكر أو حتى نقل كاتب صحفي أو تحويله لعنوان رئيسي في الصفحة الأولي في صحيفة يومية.

 لقد أيقنت بحتمية تاريخية أن هذا الحب بداخلنا يولد شيء اقرب ما يمكن وصفه بأنه امتزاج مشاعرنا وترتيبها بطريقة تبدو أكثر قدرة على ضخ هذا الكم من العبارات الأدبية المشحونة بالكهرومغناطيسية العاطفية الصاخبة بكل معاني الصخب، وربما إعادة ترتيب الكون على طريقتنا التي نتفق على رأي نهائي فيها.

 رغم عدم ترددي للحظة في قبولك ضيفة من غير موعد مسبق في حياتي, بقيت مصرا حتى اللحظة على أن لا نفترق رغم أن المسافة الفاصلة بيننا الآن تبدو شاسعة جدا وبالمنظور العادي يبدو أننا افترقنا بالمقياس المادي، ولكن بمقياسنا العشقي نحن لا زلنا نعيش معا في نفس الغرفة، ونتناول معا إفطارنا كل صباح ونتبادل فيه أطراف الحديث، وربما أهديك على صحوة هذا الصباح قبلة عن إعجابي بجملة منك جعلت شعوري يخفق بأنك عاجزة عن صياغة جملة عشق مثل هذه العبارة التي تشابه عبارات فحول الشعراء الأوائل.

 لقائي بامرأة مثلك لا يمكن أن يكون إلا مصادفة من نوع غريب جدا ونادر كان من المفترض أن تكون على الطريقة التقليدية كلقاء قيس بليلى أو لقاء سارتر في سيمون دوبوفوار.

 لكن أنت حالة لا تتكرر، ومثلك لا بد أن يكون صدفة لقائي بها شيء فوق العادة وجعلك أنت تطلبين معرفتي كغير العادات الشرقية التي تحرم قيام الأنثى بهذه المبادرة التي تبدو روعة بالجنون بالنسبة لي.

 حتى الأشياء التي كنا قد قلناها أو فعلناها ومن ثم نسيناها قد تذكرتها، وتذكرت ربما كل فعل قد مارسناه بعفوية أو بجدية أو هزل أو حماقة. حتى حركة شفتاك حين لامستا أطراف فنجان من القهوة أثناء جلوسنا معا تذكرته, وحتى أني اشك أني أتذوق طعم القهوة الأول الذي لا يزال ملتصقا بحاسة الذوق عندي ويرتبط ارتباطا وثيقا بلون عينيك وخجلك المسرف والحقيقي وملامح الإرهاق التي كانت بادية على وجهك المشرق كجدائل الشمس الذهبية الساحرة.

 تقحمني ضجة الأسئلة التي ليس لها جواب أحيانا وأحيانا أخرى لها جواب اعرفه و أتجاهله.... لا كراهية في ذات الجواب... ولا منازعة لذات السؤال ولكن لشيء في ذاتي أحاول تخليدك فيه بعمق الذاكرة كل اللحظات التي عشناها معا كانت هي المسبب الرئيسي لكل ما دار بداخلي من أسئلة ربما تبدو حمقا في بعض الأحيان وفي البعض الأخر تبدو بريئة كطفل

 لماذا لا أستطيع في عزلتي أو منفاي هذا الذي أحسه الأخير والوحيد به عن عالم الإنسان الحقيقي

عالم السجان أن لا أتوقف عن التفكير إلا فيك لحظة ؟

ولماذا يطاردني طيفك أينما ذهبت في زوايا هذه الزنزانة

يطرق الباب معي

ينادي الحارس ليشعل له أيضا سيجارة أخرى تكمل تبجده وتعبده وتململه

يحرق فيها مثلي ملله ويساعده على مرور الوقت دون الإحساس بالموت البطيء

يطلب مثلي الذهاب للاستحمام يبتل طيفك بالماء رغم أن الإدارة تمنع خروج اثنين معا للاستحمام, إلا انه يرفض أن يفارقني كاسراً كل القيود وكل الأنظمة التي يضعها السجانون لماذا لا يصاحبني غيرك حين أكون في وحدتي وعزلتي ولماذا أنت بحياتي سؤال (لماذا) ولماذا تقتحمين بالي ساعة سهو اسأل نفسي)

 يكسر حواري معك طرقات على باب الزنزانة منادية: تعال الضابط يريدك

 مرة أخرى استعد للخروج، أحاول الحفاظ على هدوئي وان أحافظ على نفسي صلبا

أحاول صياغة بضعة جمل أقابل بها هذا الغبي الذي سأقابله والذي يظن أنني يمكن بسهولة أن أغير رأيي واعترف له

ربما أكثر ما أنا بحاجة إليه في هذه اللحظة، وجهك ، وفنجان من القهوة ، و أمي وتذكر أحد الرجال العظام الذين قهروا الجلاد في الزنازين يمر ببالي شريط سريع يحمل صورا متنوعة لأناس قرأت عنهم وسمعت عنهم ولم أراهم

 يأتيني عمر القاسم بوجه الباسم دوما وتفاجئني صورة مرسومة بالأبيض والأسود لطالما رايتها معلقة على الجدران ومكتوب تحتها فوتشيك فلسطين إبراهيم الراعي أتذكر ما قرأته عنه يوما في سيرته الذاتية في السجن في حواره مع الجلاد

 فسبق أن قرأت انه حين تم نقل الشهيد إلى معتقل جنين ومن ثم إلى مراكز تحقيق واستخدموا معه كافة أساليب البطش والتحقيق الجسدي والنفسي دون طائل لدرجة أصبح أحد الضباط المهزومين يقول عن الشهيد: "بقرة برأس إنسان"، للتدليل على رفضه للكلام والتزام الصمت التام وفي أحد جولات التحقيق في معتقل جنين استدعى الشهيد من قبل الضابط المناوب المدعو "الياس" والذي قام فيما بعد بقتل الشهيد عوض حمدان وقال له الضابط المغرور: " اسمع يا إبراهيم سأحكي لك قصة عن كيفية تدريب رجل المخابرات الإسرائيلي، يمكث الشخص داخل غرفه مغلقة مع كرسي فقط ويظل يتحدث مع الكرسي لمدة ثلاث أيام ويحضر المسؤول وإذا وجد الكرسي يتحدث يقبل الشخص للعمل في جهاز المخابرات وإذا ظل صامتا مثلك يرفض من البداية، وأنا سأتفرغ لك عدة أيام وليس ورائي عمل وقد سبق وأن تحدث الكرسي معي".

 ضحك إبراهيم وسأل الضابط: "هل حققت مع طاولة؟ أجاب كلا". فقال له: " أنا الآن طاولة اذهب وحقق مع الطاولة وعندما تعود ستجدني قد أصبحت جبلا ً فاغتاظ الضابط ولوح بيده "اذهب أريد أن أنام".

 خرجت من باب الزنزانة امسكني الحارس من يدي وطواها للخلف وامسكني بها وقال سر أمامي بسرعة كنت بحاجة لغنائه لصوت ينبعث من الغرفة المجاورة تعمدت قبل أن أسير باتجاه الحارس أن اطرق برجلي الجدار الفاصل بيني وبينه مرات ثلاث

لاستفزه بالغناء

انتظرت لحظات

لم يغني

ربما كان نائما

أو ربما اقتادوه أيضا لمحقق أخر مثلي

ربما لم يفهم ندائي

أو ربما أطلقوه من الزنزانة حرا قبلي كم أتمنى في ذات يوم أن أقابله حتى أقول له لماذا لم تغني في اللحظة التي احتجت لصوتك المبحوح فيها أن ينطلق كعصفور بين الجدران وددت لو ابعد يد الحارس عني و أعود أطرق باب الزنزانة عليه و أقول له:

غنِ... غنِ... غنِ

 يبدو أني أغضبت الحارس بكلامي فصرخ: امشي دون أن تهذي أنت والغبي الذي بجانبك لا تودون أن تفهموا القوانين

ممنوع أن يسمع المساجين الآخرين صوتكم أم هل تريد أن يكون مصيرك مثل مصيره

فقلت له: وماذا حصل له

قال: لقد حرموه من التشمس لمدة أسبوع بسبب عوائه طوال الليل هذا الغبي يظن أن لديه صوتا جميلا قالها بسخرية أزعجتني فبادرته قائلا: ولكن صوته جميل

قال: اخرس... صوته يزعجني كما وجودي حارسا على مجانين أمثالكم يزعجني... أريحونا من قرفكم

 وصلنا الباب الأزرق إياه

طرق الحارس الباب وقال: أحضرته سيدي

صوت منبعث اعرفه من الداخل قال: أدخله بسرعة

دفعني بكلتا يديه للداخل

بدأت بتخيل ما قد قاله مظفر اثناء سجنه في سجن الشاه في إيران

لم يكن شيء قد فعلوه يجعل عيناي تغمضان من التعذيب

ولم يكن أيضا هناك كرسي حفرت فيه هوة رعب

لم يكن سوى مكتب خشبي يتوسط الغرفة البيضاء

وأمامها أربعة كراسي من الجلد الأسود

قال: اجلس

أما زلت مصرا على عنادك

أتظننا أغبياء لا نعرف شيئا

نحن نعرف كل شيء... لا نسرق منك اعترافا هو مجرد إقرار منك بما _ فعلت حتى نقتنع بأنك نادم

إن لدينا رجال قادرين على حساب عدد أنفاسك ( فعلا تذكرت ذلك الحارس حين أخرجني لساعة الشمس، كأنه كان يحصي عدد أنفاسي في الدقيقة الواحدة ) وأكمل الضابط: ونستطيع أن نقول لك ماذا أكلت البارحة وماذا شربت ( وكيف لا يعرفون وأنا كنت عندهم، وهم من قدم لي الطعام والشراب.. وأيضا حبة البرتقال ) ونستطيع أن نقول لك كل كلمة قلتها ولم تقلها هيا قل ما لديك و أرحني هل تظنني فرحا بوجودك هنا تظل في وجهي كل يوم أرحني من رؤية وجهك الغبي ألم تنظر لنفسك في المرآة اذهب وانظر للخوف المتراكم تحت عينيك هيا أرحني

 (هنا بدأت أفسر ما يصبو إليه وأدركت اللعبة.. انه يلعب معي ذات اللعبة النفسية... يوهمني بخوفي لينزع مني الكلام.. وليشعرني بأنه الأقوى ويعلم كل شيء و أني خائف منه, فقلت: هذا ليس خوفا فليس لدي ما أخاف عليه هذا السواد تحت العيون الذي تسميه تراكم الخوف هو مجرد احتجاج العيون على عدم رؤية الشمس التي تحرمني منها بلا سبب حقيقي, أن فقط تتسلى باحتجازي لتبرر وجودك في الوظيفة.

قال: كفاك فلسفات وكلام ضحك به عليك الشيوعيين فيه بالكتب

قلت: لم يضحك علي أحد

قال: لم يضحك عليك الشيوعيين.... واتبعها بضحكة واهية وعاد للكلام... إذا لماذا أنت هن ا أين هم هؤلاء الشيوعيون الكفرة ؟... إنهم الآن يتناولون القهوة في إحدى المقاهي الفخمة وأنت محروم من شرابك المفضل

منذ متى لم تشرب القهوة ؟؟ ، منذ متى لم تأكل طعام أعدته أمك ؟؟

أجبته بسرعة: منذ أربع سنوات

رفع حاجبيه قائلا: ولماذا... هل أمك ميتة !! ، أم أنك ستقول لي أنهم أحضروك منذ أربع سنوات إلى هنا؟

 قلت: ألم تقل انك تعرف كل شيء عني حتى كلامي الذي لا أقوله كيف لم تعرف أن أمي تسكن بعيدة عني وأنا مسافر منذ أربع سنوات فهز رأسه قائلا: نعم... نعم... نعم... لقد غاب عن بالي ذلك دعنا من أمك الآن وقل لي ماذا قررت ؟؟؟ هل ستقول كل ما لديك... من نظلمك ؟؟ من حرضك ؟؟ من شركاءك ؟؟ أم أعيدك للزنزانة ؟؟

 هل أنت فرح بوجودك فيها ؟؟

هل تعودت أن تحيى حياة الماشية المعدة للذبح

تأكل وتشرب وتنام وكلما تعبت من النوم صحوت لتعاود النوم مرة أخرى !!

 قل كل شيء وأنا أعدك بأن أصرفك عن وجهي للأبد إن وعدتني أن لا تعاود الكرة مرة أخرى أو تعاون معي وساعدتني قلت بخبث: أقول ماذا... الست تعرف كل شيء ؟؟ لماذا إذا تريدني أن أقول ما تعرفه أنت ؟ هل مهمتك أن تعلم الناس تكرار الكلام صرخ بوجهي: لا تتصنع دور المسكين الغبي أنت تعرف ماذا أريد تحديدا فهيا قلي عنه وانصرف ولا تضع وقتي أنا عندي شغل ولست متفرغا لكي أحاور الأغبياء أمثالك فأجبته: أليس شغلك هو حوار الأغبياء أمثالي !!! ليس عندي ما أقوله فأعدني للزنزانة

 صرخ فيّ قائلا: غبي آخر سأكسر لك هذا الرأس القاسي مثل الحجارة، أنظر أيها الغبي سأنصحك نصيحة قبل أن تذهب، أنت لست سوى كبش فداء قدموك فيه مسؤوليك وأوهموك أنك ستصبح بطلا إن قمت بحماقاتك التي كنت تخطط لها ولكن أنا حاولت مساعدتك وأنت رفضت المساعدة أذهب للجحيم

صرخ في حارس البوابة قائلاً: أعد هذا الحيوان للحظيرة ولا تخرجه منها أسبوعاً، لا أريده أن يرى الشمس ، سأعلم هؤلاء الحمقى درساً في الصدق والأخلاق

- ضحكت

قال انصرف من وجهي ولا تعد

لن أطلبك مرة أخرى أيها الغبي

تظن نفسك بطلا عندما ترفض الكلام

المسؤولون عنك ينامون في أحضان نسائهم وأنت تنام في الزنزانة، ما الذي يجبرك على هذا الغباء ؟ ألا تريد أن تعيش كبقية البشر

لماذا لا تحبون الاستقرار والعيش بهدوء ؟ هيا انصرف ولن أقوم بطلبك مرة أخرى إلا عندما تقرر أنت نفسك أن تقول كل شيء

 فأدرت وجهي وأنا أهم بالخروج إذا ربما تكون قد أحلت للتقاعد حين أقرر هذا أو ربما قد تكون بحاجة لان تلاحقني للقبر لتسألني إن كنت نادماً ؟

- قال: انصرف عن وجهي.

 عدت مرة أخرى يجرني ذات الحارس ويسلمني على البوابة الكبيرة إلى حارس أخر أوصلني لباب الزنزانة حين وصلت كان الصوت ينبعث أراحني هذا الصوت من حواري مع نفسي من كلمات المحقق حول الخوف المتراكم أسفل عيني

هل كنت فعلا خائفا ؟؟؟

لم أكن خائفا

بلا كنت خائفا وتصرفت بعض الأحيان بحمق

أحيانا أخرى بجبن و كان الصوت هذه المرة المنطلق من الغرفة المجاورة ينشد شيئا جميلا (غنِ قليلاً يا عصافيري فأني كلما فكرت في أمر بكيت غنِ... غنِ.... غنِ قليلاً )

 ومرة أخرى صوت الحارس

اخرس أيها الأبله يكفي عواء ، لقد سببت لي صداعا في رأسي.،يكفي.

انقطع الصوت لم أعد اسمعه بفعل الصوت الذي يصدره باب الزنزانة الحديدي الذي يشبه صوت مطرقة الحداد حين يهبط على الحديد. وعاد بعد اقل من نصف دقيقة حين كان حارس الزنزانة يغلق الباب علي بالمفتاح

وعاد الصوت من جديد

ليردد

 (اكلما بنت مساء نسجت ثوبا من الدمع اكتسيت لا ترفعي صوتك أبس يا عصافيري من الحزن فإني قبل هذي الكأس من قلبي ارتويت غنِ... غنِ غنِ قليلاً )

 توقف الغناء عدت وطرقت الحائط مرة واحدة مرة واحدة من الطرق على الحائط لا تعني أن يستأنف الغناء لكنها رسالة بأني أحاول الاطمئنان عليه عاد وطرق الحائط مرتين طرقت ثلاثاً... سيطر الصمت على الجو المشحون في صراعي الداخلي مع نفسي وصوته المنبعث جنونا وحزنا وقوة

 طرقت الحائط ثلاثاً

 استأنف الغناء مرة أخرى كان يعرف مدى إعجابي بهذا الصوت الحزين المنبعث من بين فراغات الجدار الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة

 (وجهك طقس متل الصحو دايخ ومش سكران

 متل الشتي نازل على جزيران وجهك طاف النيل غرق مصر في مملكة عم تنسرق مفتوح باب القصر )

 أذابتني الآن هذه الأغنية وجعلتني أنسى صوته أسير مع ذاتي وأفكاري وحيدا أردد دون وعي ما كان يغنيه في مملكة عم تنسرق مفتوح باب القصر أكملت السير مع أفكاري سرت إليك

 

(ما لم أتوقعه)

 إنه اليوم التاسع عشر, والصوت القادم مع خشخشة المفاتيح المزعجة في الباب يناديني: قم تناول إفطارك أفقت مسرعا وتناولت طعام الإفطار سريعا منه، وكان أول ما نظرت إليه هل هناك حبات زيتون مع الإفطار أم لا. كانت رغبتي جامحة باستكمال النوم مرة أخرى، رغم أنى نمت طويلا أنام كل يوم، ولكني لا ادري لعلي البارحة قد سهرت كثيرا مع أفكاري. ولكني لا اشعر في الوقت الذي يموت حين يمضي في هذه الزنزانة التي تشبه القبر المفتوح للنسيان, وأشبه بوجودي فيها الموتى. سأعود لاستكمال نومي مرة أخرى حتى يأتي منتصف النهار فربما يصفح عني المحقق ويعيد لي ساعة الشمس ويخرجني لساعة واحدة خارج هذه الزنزانة لأرى زائرتي الشمس مرة أخرى. ولكني الآن لن أتتناول الإفطار وسأعود للنوم وعندما أفيق مرة أخرى سأتناوله.

أعود للنوم وكأن الحلم كان بانتظاري, ولكن تداخل الأحلام في بعضها ينسيني إياها وبالذات حين كسر نومي طرقات الحارس على الباب حين عاد من جديد مناديا: هيا أفق من نومك واستعد ؟....

 - هل أتى منتصف النهار بهذه السرعة وهل سيأخذونني فعلاً لساعة شمس أخرى, كيف وأنا لم أتناول إفطاري بعد, يبدو أني نمت كثيرا يدخل الحارس لداخل الزنزانة ويقول لي: قم واستعد لتغادر إلى أين هل سأنقل لزنزانة أخرى أم لسجن أخر ؟

 - انه إفراج ولكنك يجب أن تقابل سيدي الضابط قبل ذهابك لتوقع على أقوالك ؟

- ولكني لم اقل شيئا وبقيت صامتا طول الوقت.

- اسمع ليس مطلوبا مني توضيح الأمور كل ما اعرفه أن هذه إجراءات يجب أن تقوم بها وبعدها ستغادر, ما يهمني هو أنك ستنصرف من هنا وأستريح منك ومن هذا المجنون بجانبك

- وهل سيخرج أيضا ؟

- على ما أعتقد نعم

- إذا سأراه ؟ هل يمكن أن نلتقي فعلا ؟

- لا يجوز أن تلتقيا هنا ولكن ربما تلتقيان في الخارج عندما تنصرفان عن وجهي ولا تعودا ثانية...

 ادخل لغرفة المحقق فيوجه لي الكلام مرة أخرى: أما زلت مصرا على عنادك ولن تقول شيئا ؟

 أعود للكذب مرة أخرى وللإصرار وأجيب: ليس لدي ما أقول ولو كان لدي لقلت وأرحت نفسي من البداية

 - هذه أقوالك خذها وعد للزنزانة لتقرأها وتوقع عليها ومن ثم استعد للذهاب أخذ الأوراق والقلم الأسود, و أعود بصحبة الحارس للزنزانة كي أودعها وأودع خربشاتها استلقى على الفرشة الممزقة وابدأ بقراءة ما هو مكتوب في الورقة لأتأكد أن ليس هناك كلاما مضافا غير الذي قلته, وتأتي الفكرة الشيطانية لأن أخط كلمات سريعة على الجدار قبل أن يأتي الحارس ليأخذني مرة أخرى فلدي الآن أفضل الأدوات لارتكاب جريمة الكتابة على الجدار يخطر ببالي صديقي في الغرفة المجاورة ونفور الحارس منه وغضبه من صوته فأتذكر أبيات الشعر التي تقول

 بعض الأغاني صرخة لا تطرب فإذا استفزتكم أغانيَ اغضبوا يا منشأين على خرائب منزلي تحت الخرائب نقمة تتقلب إن كان جذعي للفؤوس ضحية جذري الهٌ في الثرى يتأهب

 أخطها بسرعة, وأنقش اسمي تحتها و أحاول تذكر التاريخ فتخونني الذاكرة فأعود لورقة الاعتراف وأقرأ التاريخ عنها و أدونه في أسفل الكلمات على الجدار واطرق الباب مناديا الحارس: لقد انتهيت تعال............

 

(بانتظار من لم يأت بعد)

 أيام عديدة مرت على مغادرتي لتلك الزنزانة الكئيبة وأنا أحاول أن آنساها بذكرياتها المؤلمة, وأنسى كل ما شاهدته فيها، فلست بحاجة لان اذكر رطوبتها وقرفها وصوت بواباتها, شيء واحد اعجز عن نسيانه، ولا أتمنى أن أنساه لحظة (صوت الغريب في الغرفة الأخرى)

 ( انتهت )

 

 • ملاحظة: القصة حازت على المرتبة الخامسة في مسابقة ديوان العرب للقصة القصيرة في العام 2004م.

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com