|
قصة قصيرة
سليم ماجد .. تلميذ جيد
عبدالكريم يحيى الزيباري
من عاش في قرية فروشكي ولو لأيام قليلة سيتمكن بسهولة من اكتشاف الفارق بين أهالي هذه القرية وغيرها من القرى الحدودية المحاذية لجبال تركيا، فرجال هذه القرية أصحاب مرحٍ وفرح، وقد يدوم عرس أحدهم أسبوعاً أو أكثر، وهم يجيدون الدبكات الشعبية بأنواعها ويبرعون فيها، حتى صاروا مضرب الأمثال، بينما كانت بعض القرى المجاورة يعيبون عليهم هذه الميزة، وكانت هناك قرية الريبار رجالها ذوي بأسٍ شديد وينتقصون من رجالات فروشكي أحياناً مازحين، بأنهم لا يصلحون لشيء إلاّ للرقص والدبكات أمّا قتال الجبال فاتركوه لرجال الريبار الأشاوس هذا رغمَ أنَّ رجال فروشكي، أحدهم طويل القامة، منبسط الأسارير، ذو نظرات حادة يعيش حياةً فقيرة، لا يعرف شيئاً عن معاملات البيع والشراء والتجارة والقرية هذه ربما كانت الوحيدة التي لا يمارس سكانها التهريب، يعيشون على موسم بيع الفاكهة، والتفاح بشكل رئيسي، الجبال تبدو مكسوة بلون أخضر ومحاصرة بأسورة من أشجار البلوط والسرو، تلك الجبال الشامخة تدفع الناظر إلى التساؤل: أية قوة هائلة توحي بها هذه الجبال بسكونها وثباتها اللذان يوحيان بتصدعها من فرط الخشوع، وفي موسم الثلوج ينحصرون في بيوتهم أياماً بسبب انسداد الطرقات، زرت هذه القرية مرةً واحدة في طفولتي، لكنني أشتاق إليها كما لو إنني قد عشت فيها طوال عمري، تلك الطبيعة الرائعة التي بمجرد استرجاع أجزاء منها تملؤني مشاعر البهجة والسعادة، هذه القرية زرتها قبل أكثر من ثلاثين سنة مع أبي،كنا ضيوف ماجد آغا، احتفى بنا أهل القرية جميعاً،إنهم يحتفون بكل شخص يأتي لزيارتهم من المدينة ويطلقون عليه لقب (سيد) مع إضافة حرف واو إلى نهاية الكلمة كتعبير عن المبالغة في الاحترام،نزلنا من السيارة قرب أول بيت في القرية، نزل ماجد آغا من السيارة ترتسم على وجهه فرحة الوصول،يحتاج المرء إلى قوة ملاحظة كبيرة ليرى أنَّه يعرج عرجةً خفيفة،أثر إصابةٍ بطلق ناري في أحد الحروب السابقة،ناولَ السائق أجرته، قال لأبي بفرح ٍ وافتخار: -هذه قريتي (لوَّح بيدهِ اليمنى راسماً قوساً يبدأ من اليمين)كلها ملك خاص تتوارثه عائلتنا. وأشار إلى بيتٍ صغير من الطين، يقع خلف منخفضٍ من الأرض تحولَّ بطريقةٍ ما إلى بركة ماء قذرة وُضِعَ خلالها بعض الأحجار، عبرنا خلف الآغا الذي قفز بخفة ورشاقة لا تتناسب مع سنه ووزنه وعرجته، ترددت قليلاً لكني نجحت في اجتيازها، وعندما وصلنا إلى الضفة الأخرى للبركة،نادى الآغا بأعلى صوته : -محو أين أنت ؟ هرع رجلٌ كبير في السن محدودب قليلاً لكنه لا زال نشيطا،ذو عينين زرقاوين فاتحتين مبتسمتين،قال وهو يركض خارج كوخهِ الطيني : - الحمد لله على سلامتك آغا خادمك المطيع.. - أبلغتك أن تردم هذه البركة أيها القذر.. - خادمك المطيع. - سأهدم بيتك وأطردك من القرية إنْ لمْ تفعل خلال يومين. أينَ الماء ؟ اختفى العجوز وعاد سريعاً يحمل إناءا من معدن يسمى بالفافون قد عَلا السواد جوانبه، قال الآغا لأبي: -اشربْ إنَّهُ ماءٌ زلال من ينابيع الجبال. شربت وأبي ورفضَ الآغا أنْ يشرب، وضع العجوز يده على صدره وانحنى لنا مودعا : خادمكم المطيع. مشينا مسافة لمدة عشر دقائق أو أكثر بقليل،مررنا خلالها ببساتين كثيرة،على جانبي الطريق، الرجال والنساء كانوا يهرعون للسلام على الآغا بعد عودته من المدينة،ومنهم من قبَّل يدهُ،وكان زيهم الشعبي يختلف قليلاً عن بقية رجال القرية، وأرادوا تقبيل يد أبي أيضاً لكنه سحبها بسرعة،سأل والدي عن سبب تميزهم في ملابسهم وسلوكهم، فقال الآغا: -هؤلاء أحفاد المريدين الذين كانوا يتبعون جدي في طريقته الصوفية وهم يقدسون عائلتنا،رغم أنَّهم يعلمون أنني لا أجيد الصلاة ولم أصمْ يوماً واحداً،لكنهم على سذاجتهم يخلصون لنا أكثر من الجميع. وصلنا إلى قصر ماجد آغا، وهو بيت مبني من الحجارة ذو جدران عالية وبطابقين ذو فناءٍ واسع يحيط به جدارٌ عالٍ من الحجارة الجبلية،هذا القصر كان جدَّه قد بناه وشارك في بنائه جميع أهالي القرى المجاورة لما كان جده يتمتع بنفوذ واسع،وتمتد بمحاذاته أشجار العرموط ونوعيات أخرى عالية جداً ولا تنتج ثماراً لم أتعرف عليها ولم يجبني عنها والدي عندما سألته. بعد العشاء الذي تناولته مع أبي والآغا على سفرته،وتوزع الآخرون على سفرات أخرى على الأرض،أخذني ولده سليم في جولةٍ حول القرية وكان يتبعنا حارس مسلح قد تجاوز الأربعين،لا يتوانى عن خدمتنا بنشاطٍ كبير،كان سليم آغا كما ينادونه،يرتدي الزيِّ الشعبي ويضع خنجراً في قطعة القماش العريضة التي لفَّها حول خصره،وكان رغم صغر سنه يتمتع بلباقة كبيرة،بقينا في القرية أنا وأبي ثلاثة أيام كان يذهب خلالها مع ماجد آغا كل يوم في رحلة صيد إلى تلك الجبال المحيطة بالقرية،بينما أنا كنت أبقى مع سليم آغا حيث نقضي يومنا في اللعب واللهو مع أطفال القرية،كان سليم آغا يصغرني بسنتين،فهو في الصف الثالث الابتدائي وأنا في الخامس،عدنا من جولتنا وكان أبي لا زال مع الآغا يتسامران، أخذوني إلى غرفة نوم الضيوف، كانت غرفة كبيرة، مستطيلة الشكل ذات سقف عالٍ من السمنت، وزينت الجدران بعض لوحات السجاد الفلكلورية، في الليل لم يتوقف نباح الكلب الغبي، في اليوم الثاني ذهب أبي مع الآغا في رحلى صيد إلى أحد الجبال المحاذية، وبقيت أنا مع سليم آغا والذي أخرج كرة القدم الوحيدة في القرية،ثم أخذني إلى الساحة ولعبنا مع فتيان القرية إلى أنْ حان وقت الغداء،تناولنا الغداء ولم يرجع أبي،ثم علمنا أنَّهم ضيوف آغا القرية المجاورة ولن يعودوا إلاّ في الليل، بقيت مع سليم آغا وتعجبت كثيراً من دماثة أخلاقه والهيبة التي زرعها في قلوب القرويين، وفي اليوم الثالث عاد أبي وكان ماجد آغا قد أقام مأدبةً كبيرة دعى إليها كافة ذوي النفوذ في المنطقة ضباط شرطة وعسكريين ومدير الناحية وكذلك آغاوات ورؤساء العوائل في القرى المجاورة، وارتدى سكان قريتنا أجمل ملابسهم وكأنَّهم في عيد، وشاركت النساء في إعداد الوليمة. في هذا اليوم فقط شعرتُ بغربة كبيرة وأشعر بأنني من الصعب أن أتكيف مع جو القرية. صباح اليوم الرابع كان وداعنا حاراً،وألحَّ الآغا الصغير وأبوه أيضاً على بقائي في القرية لفترةٍ أطول،لكنَّ أبي رفض،ودعاهم لزيارتنا فوعدنا الآغا بأنَّهُ سيفعل قريباً.. عدنا إلى العاصمة في رحلةٍ طويلةٍ شاقة،قطعنا فيها أكثر من ستمائة كيلومتر،وصلنا إلى البيت ليلاً وكنت تعباً بحيث إني قضيت نصف المسافة أو أكثر في نومٍ عميق،بقيت رائحة الأشجار والقرية تلازمني في اليومين التاليين لعودتي،وصوت نهر الزاب الذي يجري بأقصى سرعته في موسم ذوبان الثلوج ذاك.. وبعد ذلك بشهرين سمعتُ أبي يتحدث في البيت عن كارثةٍ حلَّتْ بتلك القرية الجميلة، حيثُ تمَّ هدمها وطرد سكانها وجلبهم إلى العاصمة في سيارات كبيرة دون أن يسمحوا لهم بجلب عفشهم وأثاثهم إلا النزر اليسير الذي سمحت به السيارة،لأنَّهم خصصوا سيارة واحدة لكل قرية،بعد أن اعتقلوا رجالاتها وقادوهم إلى جهةٍ مجهولة،كانت جدتي لا زالت على قيد الحياة آنذاك،وحثَّتْ أبي على زيارتهم،لكنَّه اعتذر في البداية قائلاً: -يا أمَّاه هل تريدينني أن التحق بالمفقودين،لا بدَّ أنَّ مساكنهم مراقبة من رجال الأمن. لكن جدتي لم تفهم وبقيت تذكره بفضائل ماجد آغا وأبيه، ومن ثمَّ وافق بعد أنْ أصرَّتْ عليه جدتي كثيراً،وهيأتْ والدتي بعضاً من ملابسنا القديمة وشيئاً قليلاً من الرز والطحين، مما يكفي لوجبة واحدة،وأخذني معه بعد غروب الشمس لمنطقةٍ محاذيةٍ لنهر دجلة، وأعطاني صرتي الطعام والملابس وقال لي: - اذهب يا ولدي وبدون أن تثير ضجةً واسألْ عن بيت ماجد آغا وأعطهم هذه الصرتَّيَنْ وعُدْ سريعاً. كانت البيوت جميعاً متشابهة البناء وفي لون الجدران والأبواب أيضاً،سألتُ إمرأةً كانت تجلس على عتبة الباب،فجاءت معي إلى حيثُ رأيتُ سليم آغا، كانت الكآبة تعلو وجهه،سألتهُ إنْ كان سيستمر بالدراسة لأنَّ الدوام سيبدأ بعد أسبوع،أجابني بعدم اكتراث وحزن :لا أعلمْ قام أبي بتكليف أحد أصدقائه لينجز معاملة سليم،والتحق معي إلى مدرسة المقاصد الابتدائية،وكان قمةً في الذكاء والأدب فأحبه الأساتذة قبل التلاميذ،وفي أحد الأيام رأيتُ في الفسحة التي كانت تتخلل الدروس، تجمعاً للتلاميذ في الساحة حول سليم وهو يخفي رأسه في حضنه جالسٌ على الأرضِ يبكي بحرارة وتشنج كبيرين،سألته عن سبب بكائه،فنهض وركض إلى الخارج وهو يبكي،فسألتُ التلاميذ عن السبب فأجابوني إنَّ المعلم أوسعهُ ضرباً بالعصا حتى أدمى يديه الاثنتين،لأنَّه لم يعرف القراءة أمام المفتش الذي كان يزور المدرسة،وبعد ذلك الحدث بيومين سأل المدرس عنه فدلوه عليَّ باعتباري قريبه الوحيد،فأرسل في طلبي وسألني: -هل تعرف أين يسكن سليم ماجد؟ -نعم أستاذ أعلم. -لقد وضعني في موقفٍ محرج أمام المفتش، رفض القراءة أمام المفتش بعد أنْ أطلتُ في مدحهِ وقلتُ للسيد المفتش هذا نابغة الصف والمدرسة. ثمَّ واصل المعلم حديثه بتأسف وغضبٍ: -رفضَ أنْ يقرأَ حديث رسول الله r: (مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة)[1] ثمَّ إني أضرب جميع التلاميذ ولم يسبق أن تركَ أحدهم الدراسة. - لعله كان مريضاً. - كلاّ لقد رفض القراءة لأنَّه يجزم بأنَّ الرسول rلم يتفوه بهذا الحديث. ثمَّ أخبرته بعد تردد كبير أنَّ كلمة كير غير لائقة في اللغة الكردية، وأضفت: -أستاذ لقد جرحت يديه الاثنتين وهو يعمل كصباغ للأحذية بعد الدوام ليعيل عائلته ويدفع الإيجار.. فتعجبَّ الأستاذ ورأيتُ الدموع في عيني الأستاذ وهو يقول متأثراً : -لكم يعتز هذا الفتى بدينهِ.
[1] صحيح البخاري ج5 ص2104،عن أبي موسى رضي الله عنه
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |