|
قصة قصيرة
حالـة تمرد رافع الصفار / ليبيا [ الحلــة 15 / 1 / 1991 ] التبليغ واضح ومحدد. الخروج في تظاهرة عارمة تشمل جميع القطاعات الشعبية استنكارا واحتجاجا على التواجد الأجنبي في جزيرة العرب حيث قبلة المسلمين ومهبط الوحي ومرقد سيد الكائنات، خاتم الرسل والأنبياء، النبي { محمد } صلوات الله عليه ورضوانه. وحامد يتمنى لو أن الأمر لا يعنيه على الإطلاق، فلا يضطر إلى التخلف عن العمل بعذر ملفق، والمكوث في البيت حتى تنفض التظاهرة. قبل انتصاف النهار بدقائق عادت زوجته الى البيت. أزاحت العباءة عن رأسها وجلست قبالة زوجها الذي كان مشغولا عنها بتقليب صفحات عدد قديم من مجلة ألف باء، تتصدر غلافه صورة كبيرة للرئيس القائد صدام حسين، كتب تحتها بالخط العريض: المستقبل مشرق وزاهر بعون الله. أدركت الزوجة وهي تتفحص القسمات الصارمة المرتسمة على وجه زوجها بأنه مصمم على عدم السماح لأحد أن يخترق جدران دفاعاته المتماسكة. وكان الصمت واحدا منها. ركبها التحدي وهي تقول: كان الجميع موجودين. لم يأبه لكلماتها. ظل متمترسا خلف قلاعه متوثبا للهجوم الأكبر. عندها تطلق الزوجة سيلا جارفا من الكلمات: كان تجمّع فرقتنا في مكان قريب من مديرية التجنيد، ولم تعط إشارة البدء بالحركة بعد، وكنت منشغلة في التحدث مع سهام عندما سمعت الرفيق المسئول ينادي علي: رفيقة وداد. فاستدرت ناحية الصوت. رأيته متجها نحونا، متجهما، عبوسا..ورأسه مرفوعة إلى الأعلى. قال وهو ينظر في وجهي: أين الرفيق حامد ؟ فتحت فمي أبحث عن صوت وكلمة، لكن الرفيق المسئول هش بذراعه وأضاف قائلا: لا أعذار، لا أعذار على الإطلاق. الفترة العصيبة التي تمر بها الأمة إنما هو امتحان للرجال ومبادئهم، لذا يحتم الواجب علينا أن نكون في أعلى درجات الالتزام والاحساس بالمسئولية، لكن..يبدو أن زوجك لا يملك منها شيئا، بل ربما لو دققنا في الامر ..لاكتشفنا أنه قد يكون خائنا ومتآمرا. بقيت أبحلق فيه كالخرساء. وماذا أقول ؟ ماذا أقول لرجل يتحدث في مصير الامة والظروف العصيبة. المصيبة أنه لم يتركني. عندما تحركت التظاهرة تنفست الصعداء وقلت لنفسي: نجوت أخيرا. لكنه لم يتركني. بالروح بالدم نفديك يا صدام. كانت حناجر المتظاهرين تردد الاهازيج والهتافات عندما اقترب مني احد الرفاق وهمس في اذني قائلا: الرفيق المسئول يريد أن يتحدث معك، انه في المقدمة. وزحفت اليه بين الاجساد وأشلائي ترتعش من الخوف. أصبحت الى جانبه. الهتافات تتواصل. بوش، بوش، شيل إيدك..هذا الحجي ميفيدك. التفت المسئول ناحيتي وقال: قولي لزوجك أن يأتي الى مقر الفرقة هذا المساء. في تلك اللحظة شعرت الزوجة بأن آخر سهامها قد نالت من زوجها مقتلا. انتفض الزوج كالحيوان الجريح، فقذف بالمجلة..التي اندفعت ملتفة في الهواء بألوانها اللماعة..ثم، هوت كالشهاب نحو الارض. بدا على الزوجة شيء من الخوف وعدم الرضا، فانحنت والتقطت المجلة ووضعتها في حجرها وراحت تنظف وجه القائد بطرف كمها. كانت أعماق الزوج تغلي كالبركان قبل لحظات من انفجاره، تبحث لها عن منفذ أو متنفس تخرج منه، ولكن دون جدوى. دمعتان فقط طفرتا من عينيه، فنهض واقفا وهو يشيح بوجهه بعيدا عن زوجته.. كان حامد يتهيأ لمغادرة البيت عندما سمع صوت زوجته وهي تنادي عليه: هل ستذهب اليهم ؟ أجابها قائلا: لا، لن أذهب..، وعليك أن تبحثي عن مبرر لعدم تبليغي بالامر. غادر حامد سيارة الريم ( المايكروباص ) عند مدخل السوق المزدحم بالمارة والباعة الجوالين والشباب المتسكعين على الأرصفة، وحول بائعي الشلغم والدهين واللبلبي، وعند محلات الشاورمة والهمبرغر..، مترصدين الفتيات اللائى كن يخترقن الزحام بأرديتهن الفاضحة. قرر حامد في اللحظة التي غادر فيها الباص أن يرتمي في زحمة السوق..متجنبا بذلك احتمال الوقوع بين يدي أحد الرفاق فيما لو سلك الطريق العام الى مقهى الحاج عبد حيث تجتمع الشلة التي يسكر معها كل ليلة. في مقهى الحاج عبد، جلس إلى جانب اثنين من الشلة كانا يلعبان الشطرنج. قال الجالس الى جانبه وهو يدفع بفيله إلى موقع متقدم: أين كنت هذا الصباح ؟ قال حامد وهو يتفحص رقعة الشطرنج، يحاول أن يستكشف المواقع الدفاعية والمواقع الهجومية لدى اللاعبين: القولون، كما تعرف. أصابني مغص شديد، فلزمت البيت. سحب محدثه الفيل خطوة إلى الوراء وهو يقول: الويل، الويل لك لو وقعت بين يدي صاحبنا. أتعرف ؟ كان في حال أقرب إلى الجنون. أمسك بشاربه وقال صوت متهدج: وحياة هذا الشارب، لن ينام في حضن زوجته الليلة. أعمدة وجدران وأشياء أخرى راحت تتداعى في داخله. ولم يقو على الكلام. ظل يدور مع كربه في نبع أحزانه المتدفق. قال اللاعب الاخر وهو يتراجع الى الوراء بعد تدمير مواقعه وموت مليكه: ليس صحيحا أن نبقى في المقهى. أرى أن نبحث عن مكان آخر يسترنا. قال حامد قبل أن يغص بأحزانه: نسكر. ونادي العمال هو المكان المناسب. نادي العمال. صالة دائرية واسعة الأرجاء، فيها مسرح، وجدرانها المزججة المغطاة بستائر سميكة داكنة اللون تطل على حدائق النادي. الصالة مكتظة بالموائد، وعلى المسرح كرسي وطاولة تستقر عليها معدات لعبة الدمبلة. يفتح النادي أبوابه عادة في الساعات الاولى من المساء. وعندما حضر حامد ورفيقيه، كانت الصالة خالية من الرواد تماما، وقد استقبلتهم عند المدخل روائح هي خليط من رائحة عرق محلي رخيص، ورائحة المزات المطبوخة داخل النادي مثل الباقلاء واللبلبي، بالإضافة إلى رائحة المجاري التي تكاد تخنق الأنفاس. اختار حامد طاولة تقع في ركن يصعب على الداخل إلى الصالة تحديد موقعها أو رؤية الجالسين إليها منذ الوهلة الأولى. قال حامد للعامل وهو يحدق داخل الكأس المستقرة بين أصابع كفيه: نص بطل عرق زحلة ممتاز ولبلبي. بادر أحد الرفيقين الى القول: بيرة شهرزاد باردة ، بينما أكمل الثالث الطلبات بقوله: ربع عرق وجاجيك. قال العامل وهو يمسح الطاولة بقطعة قماش مبللة: خذوا حاجتكم من المشروب، فلن نفتح منذ الغد. صرخ حامد كالملدوغ: لن تفتحوا، لماذا ؟ عاد العامل ليكرر القول بغباء: لن نفتح منذ الغد. هكذا يقول المتعهد. ضرب حامد الطاولة بجماع كفه وقال بصوت غاضب مكتوم: الاوغاد. عندما دارت الخمرة في الرؤوس وبدأ الناس يفدون على النادي زرافات ووحدانا حتى غصت الصالة بالبشر وضجيجهم، قال حامد ورأسه تتمايل فوق رقبته: سؤال واحد يلح علي، لماذا لا يتركونا نعيش من دون مصائب ؟ يجيبه صاحبه الذي لم يعد قادرا على اقتلاع الكلمات من لسانه: المصائب، يا أخي العزيز، هي جزء لا يتجزأ من حياتنا البائسة. غير مسموح لك أن تعيش من دون مصيبة. يطل التأزم برأسه. يبدأ حامد بالتحدث الى نفسه بصوت مسموع: قالوا لي أمامك طريقان لا ثالث غيرهما. إما أن تمشي مع الحق والصواب أو تكون ضدهما. تلك كانت نقطة الشروع. حاولت الاعتراض عليها. قالوا ليس لك حق الاعتراض. عليك أن تختار بين هذا وذاك. قلت لهم: حسنا، هل يحق لي أن أطرح سؤالا ؟ قالوا: اسأل. قلت: ألا يحق لي أن أكون خارج كل الخيارات ؟ أن أكون على الحياد مثلا. يتفحصني عندها الرفيق المسئول بنظرات فيها الكثير من الاستخفاف. يقول وهو يضرب الارض بحذائه الجلدي اللماع: يوم بعد آخر نزداد ايمانا وقناعة بأننا على صواب، وأن العدو لن يتوانى عن عمل أي شيء من أجل هزيمتنا. بقيت في بركة حيرتي واقفا كالأبله لا أدري هل أتكلم أم أسكت. ولم أتكلم طبعا، فالسلامة في السكوت. عاد الرفيق المسئول ليقول وهو يتحرك أمامي كالطاووس: ما تسميه أنت بالحياد، يصبح في لغة العدو تحييدا، ويتحول في لغتنا إلى موقف انهزامي. والانهزاميون، يا أستاذ حامد، في لغة الثوري خونة ومتآمرون. يرفع حامد كأسه من على الطاولة بحركة مسرحية، يقربه من شفتيه، ويأخذ رشفة من عرق الزحلة الممتاز. يعيد الكأس..ويتراجع إلى الوراء بقوة. رفيقه الثاني، كانت عيناه تتحركان بقلق بين كأس البيرة أمامه، وحامد السكران..الذي بدأ يفقد السيطرة على زمام نفسه، وجمهرة الرواد المحتشدين حولهم. يتقدم بجذعه إلى الأمام، يندلق الرعب فوق وجهه المتشنج..ويقول بصوت خفيض لا يكاد يسمعه أحد: ليس صحيحا يا أخ حامد أن تتحدث بهذه الطريقة في هذا المكان. يهز صاحبه الثاني رأسه مؤيدا من دون كلام. يرفع حامد ذراعه إلى الأعلى، كأنه يريد أن يبتدئ مرافعة احتجاج جديدة، لكن ذراعه تسقط إلى أسفل بعنف..، ولا يتكلم. صفير متواصل..وفراغ. رأسه فقدت نقطة ارتكازها..فراحت تتحرك في كل الاتجاهات دون هدف محدد. يقول وقد أمسك بخيط في العتمة: يا أخي..أنا..أكرههم. ويسكت بعد أن ينقطع الخيط. يغرق في عالمه المتماوج. حشود من الكلمات صفها ورتبها وتهيأ لإطلاقها..، لكنها تلاشت من رأسه، وتبخرت مثل سراب.. الطنين يزداد في أذنيه، ودوار عنيف يضرب رأسه. مد يده ليمسك بكأسه، لكنه كان بعيدا، بعيدا جدا. والأشياء من حوله راحت تغطس في العتمة… ضوء باهر يخطف الأبصار. والألم الشديد يدق مساميره بقوة بين خلايا الدماغ، وآلاف الأذرع تهزه، تحاول أن تخرجه من مستنقع سكينته. يتوجع متأوها وهو يتشبث بقاع عالمه المعتم. صوت يلح عليه بإصرار: هيا انهض. انهض. انهض. يفتح عينيه. يخز الضوء عينيه. يبدأ باسترجاع وعيه تدريجيا. رأسه متصدعة، وحزمة من الخناجر تتسابق في تمزيق بطنه. كان نائما في فراشه، وزوجته تجلس عند حافة السرير. يتأوه وهو يتفحص الأشياء من حوله: ماذا يجري يا امرأة ؟ ماذا هنالك ؟ ترد عليه بصوت مرعوب: جرس الباب. هيا انهض. افعل شيئا. يغمض عينيه، كأنه يبحث في الظلمة عن مسكّن لبركان الألم المتفجر في جسده. يقول وهو يحاول أن يعود إلى مستنقع السكينة الذي ابتدأ يسحبه إليه مرة أخرى: اقطعي خط الجرس، ودعيهم ينبحون كالكلاب..
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |