قصة قصيرة

 

كان ذلك الرجل الجذاب صديقها...

فيصل عبد الحسن

كاتب عراقي يقيم بالمغرب

faissalhassan@maktoob.com

 لم يظهر الخط الفاصل بين الماء والسماء واضحا ولكن همهمة الماء المترجرجة بين الصخور المطحلبة ، كانت تفصل بين الصمت المطبق وحكايات البحار التي تلوب في ذاكرة أبنته ، كان أبوها يحب البحر ، وهي تحب أباها كثيرا وتعجب به وتعتقد أنه اكبر من البحر الذي يحبه كثيرا ، كانت لا تمكث في أحضانه طويلا كما باقي الصغيرات في سنها بل تنتزعها أمها منه أنتزاعا ، ليأخذ حاجاته الضرورية في سفرة جديدة ، ولأنها فتاة صغيرة عاقلة ومؤدبة كما يقولون عنها ، فأنها لا تلح عليه بالبقاء كثيرا ولا تطلب منه أن يصطحبها معه على ظهر الموج كما يفعل الأبناء المدللون وهي تعرف أن أباها يعمل في سفينة صيد كبيرة تجوب المحيط باحثة عن أسراب الأسماك وأنواع الحيوات الأخرى الصالحة لأطعام الناس .. هي تتذكر كيف كان يبتسم حين تنظر في عينيه وتراه يطرق أو يغير موضوع الحديث عن البحر ويقص عليها أخبار رحلته السابقة ليحدثها عن قصة مشوقة جديدة حدثت له في رحلته الأخيرة ، كما كان يفعل السندباد البحري في قصص الف ليلة وليلة ، التي كانت تقرأها عن البحار والسفن الغارقة وعن القراصنة والبلدان العجيبة والمخلوقات الخرافية ، و يشعر الأب بعينيها تلتهمانه وبرغبتها العارمة التي تفصح عنها نظراتها المتوسلة به أن يزيدها من حكاياته التي لا تنتهي.. وبعد كل رحلة كان يجلب لها هدية ..

 تتذكر انها كانت تملك دولابا مملوءا بالهدايا من كل بلدان العالم تقريبا .. كان قبل أن يعمل في سفينة صيد الأسماك المشؤومة الأخيرة عمل لسنوات كثيرة في سفينة تنقل البضائع بين موانىء العالم ، وأهداها قططا ميكانيكية واجهزة كهربائية مسلية ، ودمى كثيرة .. لكنها لم تكن تريد أمتلاك كل هذه الدمى ، أنها فقط تريد منه أن يبقيها في حضنه الى الأبد ، ويمسد لها شعرها بأصابعه الرقيقة ، ويروي لها حكايات لا تنتهي عن البحار وملكات البحار اللاتي يعشن في الأعماق وعيونهن من الزمرد والياقوت وشعورهن الناعمة مثل سبائك الذهب والفضة ، ويقضين اوقاتهن في السباحة حول سفن الصيد بأنتظار أن يهبط اليهن أمير من امراء الأرض ، وعندها يقمن الأفراح ويرقصن وسط المحيط فرحا وسعادة بعقد قرانه على واحدة منهن ، وعندها فقط ترشد عروس البحر عريسها الأمير الأرضي ، الى كنز الكنوز في قاع المحيط ، وتساعده لأخذ ما شاء من ذلك الكنز المبهر للنظر والذي ليس له مثيل في كل العالم ...

 عند بزوغ الفجر وبعد ليلة ساهرة قضوها معا ، هم الثلاثة أمها وأبوها وهي ، تسمع وقع أقدامه الحذرة فوق أرض الدار ، وهمسه الخافت مع أمها ، ترفع عن جسدها الغطاء الثقيل وتركض صارخة

- بابا ... بابا ...

 يفتح ذراعيه ليتلقفها ويرفعها الى صدره ، ويدفن أنفه بين خصلاتها ، ويحملها حتى تغفو من جديد على كتفه ، تتذكر انها كانت تحلم أحلاما رائعة ، ترى في حلمها أسماكا ملونة تطير في السماء وتمتطي صحبة أبيها دلافين البحر، ويذهبان بعيدا الى عرض المحيط .. تفتح عينيها ببطء بعد ذلك فتسمع تغريد البلابل في حديقة الدار ، وترى أشعة اللشمس الدافئة تنفذ من النافذة لتغزو سريرها وتعرف من الصمت أن أباها قد سافر ، وأن أمها في المطبخ حزينة تعد فطور الصباح .

 وعادت الطيور الرمادية تحلق بموازاة الساحل ، وتبتعد بأتجاه المحيط ، بينما كانت الفتاة تتابع الطيور – بعينين ساهمتين – عندما يحل الشتاء ، تحس الفتاة بوحدة رهيبة ، ووجه ابيها يطل عليها من بين ألسنة لهيب الموقد متوردا ، واثقا من نفسه مرددا جملا سمعتها من بحار في فيلم سينمائي ، وحفظتها عن ظهر قلب وكأن أباها هو الذي قالها....

 – البحار لا يخسر شيئا ولكنه يربح كل شيء ، ولا يبقى منه سوى ذكريات يتيمة في كل مرفأ وفي قلوب أبنائه أيضا – طفرت فوق شفتيها كلمة قالتها بأصرار - لا أبدا يا أبي لن أنساك ما دمت حية كيف أنساك وأنت الصديق الوحيد الذي لم أعرف غيره ؟ ....

 كانت الأسماك الصغيرة تحاول الامساك بفتات الخبز الذي تنثره الفتاة ، وفي الماء الصافي كانت ترى وجه أبيها مليئا بالحيوية يرقص لها ولأمها رقصة غريبة تعلمها في احدى رحلاته البعيدة ، كان ينحني ويهز جذعه حتى يبدأ باللهاث ، ويقطع لهاثه ليزمجر قائلا ...

 - أن هذا المقطع من الرقصة يمثل صراع الا نسان من اجل أن يعيش ، ويسيح العرق الغزير فوق وجهه وعلى صدره العاري ، وتصرخ أمي به ضاحكة ، قائلة ...

 - كفى يا مروان .. كفى .. أنك تخيف الطفلة ...

 لكنه لا يتوقف أبدا ، تلتمع عيناه بألق غريب ويقفز على قدم واحدة ويصرخ ...

 - أنتبها ... ان هذه الرقصة تمثل كهولة الانسان والصراع غير المتكافىء بينه وبين المرض المؤدي الى الموت ... أنها رقصة أخرى معبرة ... كما ترين ...

 وكنت مع أمي أضحك بسذاجة وحميمية ، ويحمل الهواء أصوات سعادتنا القصيرة الى الجيران ، ونتخيل أبتساماتهم المتعاطفة مع أفراحنا الخجولة ، التي تستمر ليلة أو ليلتين ثم يحل الوجوم والصمت لشهور طويلة قاسية .

 نظرت صوب الساحل الطويل الممتد وهمست – يا للروعة .....-

 كانت الغيوم كنديف الثلج تعوم في زرقة آخاذة وفوق الأرض المزروعة بالشجيرات الواطئة التي امتلأت أغصانها بالورود الندية ، كان زملاؤها في الكلية يفترشون الأرض ويتناولون الشاي الأخضر ويضحكون .. قالت في نفسها جازمة ... انها أحسن رحلة طلابية أشتركت فيها هذه السنة ويبدو أن الجميع مثلي يستمتعون أيضا بوقتهم ، ولكنها بعد لحظات شحبت وأحست بوخزة في قلبها حينما سمعت صوت باخرة قادمة من بعيد .....

 أحست أنها لاتستطيع أن تسيطر على قدميها وقلبها يفر من مكانه وتجدد صوت صفير الباخرة.. –بم .. بم....بم ..ممممم –

ركضت بموازة الساحل ولم تهتم با لوحل الذي لطخ سروالها الرصاصي ، وأخذت ترفع يدها محيية الرجال القادمين والذين يبدون من مكانها البعيد مثل دمى صغيرة بيضاء ... ورأته .. أجل رأت هذه المرة أباها ... وأخذت تركض .. كان يلوح لها بيديه وشعرت بأنفاسها تتقطع وكانت الباخرة الكبيرة تتجاوزها باستمرار .. فتوقفت الفتاة وهي تلهث من التعب وشعور بالمرارة ينتابها وهي تشعر بعقم تخيلاتها .. ورددت من بين لهاثها ..

 - ليس هو أنني أعرفه جيدا ... أنهم متشابهون في ملابس البحارة وعن هذا البعد الكبير ....

جلست فوق الجرف الصخري وشعرت بالدموع تسيح على خديها والمرارة تغزو فمها ...

قال لها في يوم ما ...

 - سأصبح بحارا شيخا واترك البحر الى الأبد لأبقى قريبا منك ...

 قالت بلهفة ..

 - متى يا أبي ؟ متى ؟؟ ...

- عندما أصبح شيخا سأحصل على راتب تقاعدي ، ولكن هذا الأمر يستغرق وقتا طويلا .. هل ترغبين برؤيتي شيخا كثير السعال وأتكىء عل عكاز قصير فأميل الى اليسار أو اليمين حسب الجهة التي تحمل العصا ثقلي ...

- أنك في نظري لن تصبح شيخا أبدا ...

- لمه ؟ أني مثل الآخرين ولست جنيا ...

- لأنك أبي فلا أرغب برؤيتك تتكىء على عكاز قصير فيميل جسدك القوي للسقوط الى الأرض أبدا....

وكانت الصغيرة تؤمن ايمانا مطلقا بأن أباها لا يشبه الآخرين ، أنه يختلف عنهم ، ليس فوق هذه الأرض من يماثله وكانت تراه في أحلام يقظتها يصارع حيوانات ويصرعها ، تراه يعوم مثل فرس النهر الذي رأته في السينما ، وسط جبال الأمواج ويصارع أرواحا شريرة وساحرات شريرات وفرسانا بأسلحة مخيفة ، ولكنه في كل مرة يعرف كيف ينجو ليعود الى أبنته الصغيرة التي تركها عند المرفأ القديم تنتظر عودته مع أمها محملا كعادته بالهدايا فتمحو أبتسامته كل أحزان الشتاء الممضة ، وتنفتح في صدرها الصغير النابض ألاف الآمال الصغيرة عن الانسان وعن الأشياء التي يجب أن ينجزها قبل أن يغلب الى الأبد ...

 كانت في كل مرة تتعلم أشياء جديدة ، رائعة ، كان يحدثها قائلا ..

- عندما يغزو الضباب كل شيء ..أحس بسعادة عارمة .. أراك تنتقلين فوق الضباب مثل راقصة باليه رقيقة ... أجلس فوق سطحة السفينة ، وافكر بك بعمق الى درجة أشعر أنك قريبة جدا ... وأستطيع أن ألمسك لو أردت ، ولكنني كنت أخاف أن مددت يدي تتبخرين فجأة ولا يبقى من جمال البحر شيئا ... أحس بروحك تلوب قرب مؤخرة سفينتنا راكبة كل موجة تتحرك مدفوعة الى الامام بالرياح الشمالية ، وأحس بصدري العاري يختلج بالحرمان منك وكلما تطلعت بأتجاه البحر أشعر بعينيك تراقبانني من خلاله ، وأنا مع رفاقي ، أتحدى الخصم الكبير .. البحر ... أنه خصم مخيف يا حبيبتي لكنه وديع في لحظات صفائه وصديق ممراح لكنه حين يغضب وتجأر السماء بالبرق والرعد والمطر ، ويغيب كل شيء سوى أمواج بحجم الجبال تلصف فوق نهاياتها أضواء باخرتنا العائمة التي تبدو مثل علبة كبريت في سائل صخاب أحس انني أود لو أغني ، أو أبكي بصوت مرتفع ... لست جبانا ياأبنتي ، ولكنها رغبة عارمة في صدري ، تجتاحني وتشمل كل خلية من خلاياي ..هل ما تذكرته الفتاة من نسج خيالها أم من ذكرياتها الحقيقة عما قاله لها أبوها في يوم من الأيام ؟ لا تستطيع أن تتأكد من كل هذه الوقائع بعد هذا الزمن الطويل على فقدان أبيها في المحيط ...

 أخذت تنظر بأتجاه زملائها في الرحلة المدرسية باحثة عمن يشبه أباها .. ربما وجدته في هذا الزميل أو ذاك أنها تفكر وتقارن بين من تراه وصديقها العزيز الغائب ..كانت لحظتها تسترجع مراسم التشييع الرمزي الذي أقامته نقابة الصيادين لأبيها .....

 تتذكر بحسرة ان فرقة شعبية للموسيقى عزفت في ذلك الحفل الذي لم تصمد فيه أمها طويلا وفقدت وعيها مرتين أمام عينيها وكما عرفت بعد ذلك عن ا للحن الموسيقي- كان ذلك الرجل الجذاب صديقي – تتذكر الآن بشكل أكيد أنها كانت ترى أباها مع حركة الآلات الموسيقية وسط الحشد الكبير من المشيعين من اصدقائه البحارة والصيادين ... نعم كانت تراه فوق ظهر باخرة عظيمة تمخر عباب المحيط مسافرا الى مرافىء عديدة بعيدة جدا... رأته يلوح لها بيده أيضا ، وفوق شفتيه المتوترتين رأت تصميما على العودة من جديد الى أبنته الرائعة التي تنتظر عودته عند المرفأ القديم محملا بالهدايا كعادته في كل مرة يسافر فيها وتطول فيها فترة غيابه عنها كثيرا ...

 

  

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com