قصة قصيرة

 

بيت الامل

 

برهان الخطيب

alburhan@hotmail.com

رد الحاج سليمان جزعا على تحية زوجته حين دخل البيت، وبغضب:

- لا تكلميني. خليني في حالي.

خلع عباءته وعقاله وغترته وسلمها للشغالة التي هرعت لاستقباله، مضى إلى مكان راحته المعتاد، الديوان الوثير في حجرة الاستقبال الواسعة، تداعى وطرح رأسه على طرفه إلى الوراء مغمضا عينيه، وغاب..

وقفت زوجته حائرة قربه، يدها على اليد الأخرى، غارقة في عطف عليه..

 

 الحاج سليمان يرشح عرقا، لما يزل يلهث، يده الممسكة بالمسبحة مطروحة بلا حراك على مخمل الديوان..الفاتح الأخضرار كأحلامه المشتة..

اقتربت الشغالة إلى ربة البيت، سألتها متوجسة:

- أصب الغداء.. أو ننتظر وصول العم وعياله؟

صعرت زوجة الحاج وجهها، أومأت بيدها لتبتعد..

بعد قليل يأست من وقوفها صامتة قربه، تبعتها إلى المطبخ، تاركة زوجها يأخذ قسطا من راحة.

 

 أبحر الحاج سليمان في أفكاره المتموجة بهمومه...

 

 الثروة كانت حلم حياته، بها الأمان والاطمئنان إلى غد خال من مشاكل، كم كافح وشقي في توسيع رأسماله حدا كفل في النهاية عملا مستقرا ذا مردود سمح له ولعياله العيش في كرامة وسعادة أسوة بعالمين صالحين مطالبهم معقولة في الدنيا..

 سنوات شظفه باع الحاج سليمان ما عنده من ماشية، ودع والديه وأقاربه، وقذف نفسه إلى البلدة كما لو إلى نهر وهو لا يعرف السباحة.. تخلصا من وحش  طارده.. وفي أمل لوصول شاطئ أمان بطريقة ما..

 

 بعد أعوام من العوم ضد التيار حينا ومع التيار حينا بلغ الحاج سليمان شاطئه بصبر وجَلَد وإصرار على النجاح وإيمان أضاء قلبه ساعات الوحشة والخيبة والشك في القدرات واحتمال بلوغ المنى.

 

 باع واشترى، سمع وتكلم، عرف وتعلم، بل قرأ وكتب، انتقل من بسطة الطريق إلى محل صغير، ومن محل الطريق الفرعية إلى محل كبير على الشارع العام، ومن الطوابق الأرضية تحت البصر إلى الطوابق العليا المطلة على بشر..

 

 منهجُه في التقدم والنجاح واحد كلَّ مراحل العمر، الصدق في القول، المثابرة، والتوفير في الإنفاق للتوسع وتكامل العمل. لم يخل طريقه من منغصات في الطبع، من صراع حتى مع أقرب الناس أحيانا، مع أخيه سلمان مثلا الذي لحقه إلى البلدة وشاركه عمله، هكذا انتقلا من طور إلى طور، ومن مبنى إلى مبنى..

 

  غَرفَ أخوه المال كفاية لفتح مشروعه الخاص، وانفصل كما توقع الحاج سليمان طيلة عملهما سوية، حال ريّش وتعلم الطيران في سماء السوق..

 تأثر الحاج سليمان من تصرف أخيه، حل بينهما جفاء كاد يتحول قطيعة، لكن حكمة الحاج سليمان تداركت بالعطف والإصلاح ما حاول السوق زرعه بينهما فرقة وشقاق..

 

 بعد ذلك لم يعد الحاج سليمان وأخوه الأصغر سلمان قريبين حميمين مثلما كانا، لم ينفصلا نهائيا، فما زالت صلة الرحم وزيارات الأهل والأقارب والأصدقاء تجمعهما، تزيل من قلبيهما ما وغر، تقرب الواحد منهما إلى الآخر من جديد خاصة حين يلطف الكلام وتصفى النوايا ويتذكران أيامهما البعيدة الجميلة، آن كانا يجريان وراء الإبل ويصعدان الأسطح والسقوف ويرميان نفسيهما في الماء بجلبابيهما أو يركضان تحت المطر حافيين..

 

***

 

  تلك أيام مضت، بقاياها تمحى من ذاكرتيهما مع السعي الدؤوب وراء لقمة العيش وضمان المستقبل بتفريخ المال والبنين..

 

 اقترن سليمان مطلع شبابه بابنة عمه تونس، واقترن أخوه سلمان بابنة عمهما الأخرى جزائر، بينما انتظرت أخواتهما الأخريات وهن مسميات بأسماء الأقطار العربية كلها تقريبا حظهن في الزواج من آخرين..

 كانت تونس وجزائر نعم الاختيار لسليمان وسلمان. عاشت عائلتاهما في سعادة وهناء في بيتيهما المشيدين بخريطة رسمها سليمان لنفسه في البداية، نسخها سلمان بعد انفصاله لبناء بيته، وشيده على نفس طراز بيت أخيه مع اختصارات لضيق الوسائل حينه وتنوع الحاجات..

 

 معلوم كانت حياة هانئة سعيدة، رزق خلالها سليمان بولده نجاح وابنته سماح حين كانت والدته رحمها الله ما تزال قيد الحياة، بل وكُتب للوالدة رؤية ولدي سلمان أيضا وأعطتهما اسميهما نايف وعيفان، وعمرت طويلا حتى رأتهم جميعا يدخلون المدارس والجامعات..

 

 كانت والدة الحاج سليمان، حين تأتي إليهم للزيارة، تفضل قضاء الوقت في حديقة البيت فترة الظهر آن يشغلون المبردة الداوية ويقيلون، تفرش عباءتها آنذاك تحت النخلة وتتمدد، تتطلع إلى السماء بين السعف في عز الرضى. يذهب ابنه نجاح وابنته سماح إليها يرجوانها الدخول إلى البيت والاستمتاع بهواء الماكنة الرطيب، لكنها كانت ترفض وتقول:

- دعوني في هواء الله القلاب، هواء المكائن العاوي لا دفع ولا نفع فيه.

 

  وبينما كانوا هم يستيقظون العصارى مخدرين مسحوقين بالهواء الغريب عن وجوههم وجوّهم وأبدانهم تظل الجدة نشطة مثل سمكة في مائها أو عصفور في سمائه.. إيه... ربما لها حق رحمها الله.. حين ينفصل ابن آدم عن بيئته ماذا يبقى فيه؟ يصبح آدميا آخر. ها هو سليمان نفسه ماذا بقي فيه من ذاته القديمة مذ ترك أمداء وسماوات الطفولة والصبا..

 صحيح لما تزل ذكرياته ساكنة تلافيف دماغه، تعينه في البقاء متماسكا على قدميه كلما تعب بخور في الهمة، وجره حاضر صعب من ماض عذب إلى يوم يزداد صخبا وضراوة رغم ما فيه من تسهيلات وحلاوة لا تنسيه حلاوة تلك الأيام وذكرياتها المنثالة الآن مشوبة بأسف لفقدان شئ عزيز..

 

 ها هو لما يزل مغمض العينين، مطروح الرأس على طرف الديوان، يستعرض بخياله ما مر وقاية أو نتيجة ضربة خيانة تلقاها في مكتب سكرتارية شركته، كيف لا يأسف، كيف لا يساءل النفس عما كان وسوف يكون..

 أتستحق نتيجة مثبطة على منحدر العمر تعب القلب وحرق الأعصاب وركض الساقين وراء آمال وأحلام تتبدى من القمة تافهة، مثل أوهام أو كابوس في لحظة خادعة من الزمن؟! إيه، كيف يمكنه فهم ما حدث له في الشركة..

 

 إنه متداع في مكانه المريح على الديوان الوثير في بيته، مرخ بدنه المنهك من العمل المتوتر. بدن هو ابن هذا الوقت والعالم المحيط بتوتراته، أناه الحقيقية تكاد تكون منفية عن حاضره.. بل وعن بدنه.. وعن أفكاره الجارية هنا وهناك..

 يبحث سليمان عن أناه في رافد جانبي من أفكاره، يحس غائرة بعيدا في مكان ما، أين؟.. لا يدري تماما، في هذا البدن سابحة إلى منبع، على قباب ومنائر، في البادية، في البحر المالح العباب، في أعماق السماء، في أطراف المعمورة البعيدة، أين يا رب العباد؟!..

 

  أناه الحقيقية المألوفة منفية في منأى.. تطل عليه فلقة منها هناك.. في ذلك البلد البعيد حيث يرطن ولده نجاح بلغة غريبة، يحزّ ذلك فيه، يؤسيه، مرة أخرى تلوح فلقة منها أخرى هنا.. حيث تحوك ابنته سماح في عزلتها أناها الجديدة أيضا.. يأسف سليمان لضياع جزء من نفسه هنا وآخر هناك، تحت أو فوق أسطح أشياء ملموسة أو محسوسة.. يرغب في استعادة المفقود.. في الحفاظ في الأقل على الموجود.. وتأكيد أرثه الموعود..

  يتابع سليمان مجرى الفكرة في رأسه، يجدها نابعة من خوفه على تبدد المجتنى بعرق الجبين، فقدان ثروته، ظن أنها ضمانة ضد هوان وفقدان أمان، فإذا الحاضر مليء بتوقعات.. والمستقبل بشكوك..

 

 جهد حياته ليكسب زينة الدنيا والآخرة، ها هو المال أخيرا طوع البنان، لكن مثل زئبق يكاد لا يستقر على راحة وقرار. وها هم البنون قرة العين عند تأمل، لكن وشك فرار مثل غزلان في فلاة. ِبكرُه في طرف من الدنيا يَسأل ولا يُسأل. والأثيرة، إبنته، أميرة قلبه، قربه بل جواره في الشركة، لكنها الطير في قفص، قوى الجناح واستعد لطيران أيضا وراء وليف..

  لماذا صنع الثروة إذن، وكيف سيحفظ ذاته وأناه، وهل يعليهما حقا إذا كان ابنه وابنته، فسائل هذه الذات والأنا، ومعهما الجمار أي الثروة، يريدان الشتل في أرض غريبة، لا جوها ولا ترابها صالح لانتشار طلع سلالته ونضج ذريته بحلاوة البلح التي أراد..

 صباحا، أخبرته سماح عن ضياع المشروع الاستثماري من اليد، شغله مستقبل ذريته..

قرر التحرك لمواجهة الخطر..

 

***

 

رفع رأسه عن مسند الديوان، نظر إلى ساعته، صاح الشغالة لتبدأ إعداد المائدة، أضاف:

- عم الأولاد والخالات يكونون هنا بين دقيقة وأخرى..

هرعت الزوجة إليه، جلست جواره على الديوان، سألته في فضول واضعة باطن يدها بعطف على ظهر يده الممسكة بالمسبحة:

- أفرحتني والله دعوتك أخيك سلمان والخالات لتناول الغداء معنا. الجفوة ما لها لزوم. لكن خير.. فيه مناسبة؟!

- ابنه نايف خابرني مرة أخرى قبل مدة. سألني عن الأحوال.. عن سماح. قلت له نلتقي في يوم إنشاء الله على غداء أو عشاء ونتكلم. صباحا ضاقت روحي وقلت لنفسي خابر أخاك هذا وقتها..

بللت زوجته تونس شفتيها بلسانها، تغلبت على ترددها، وسألت:

- دعوت ابنه نايف معه؟

تبادل الأب والأم نظرة تفاهم، قال:

- البيت بيتهم ولا يحتاج أحد منهم دعوة رسمية لزيارتنا..

 

لما رأى الحاج سليمان زوجته تحوص في مكانها ابتسم واستأنف:

- دقي هاتف للشغل. أكدي على طلعة سماح من الشركة ووصولها إلينا مع مجيء الأقارب إلى هنا.

ابتسمت الحاجة تونس أيضا.. اعترفت لزوجها:

- تكلمت معها قبل قليل. شغلها كثير. تحاول الوصول بالوقت المطلوب.

 

 

 استراح الحاج سليمان قليلا، نشف عرقه، انتظمت أنفاسه، لانت ملامحه، عاد إلى التسبيح، لكن ظل مهموما بفكرة. حاولت زوجته التسرية عنه ومشاركته همه، سألته:

- ما لك يا حاج.. مراكبك غرقانة؟!

التفت الحاج سليمان إليها، تنهد وأفصح أخيرا:

- تذكرين المشروع الاستثماري الذي كلمتك عنه. حي جديد لأصحاب الدخل المحدود..

حركت تونس رأسها مؤيدة، مواصلة التطلع والاستماع، مراقبة الشغالة بطرف خفي. أضاف الحاج في مرارة:

- مشروع أردت المشاركة فيه لتوظيف استثمارة مربحة نافعة للأقارب والمعارف والذين يخابرون شركتنا طالبين شغل وتخافهم سماح عندما يطرقون بابنا لمعونة لظنها أنهم لصوص..

اكفهر الحاج مجددا، شجعته الحاجة تونس على البوح مبتسمة:

- فيه بركة وخير إنشاء الله..

نظر زوجها إليها جزعا وأعقب مهونا قهره:

- انتظرت.. انتظرت.. صباح اليوم سألت حضرة مديرة مكتبنا الست سماح سامحها الله على سهوها قالت: خلص. فات وقت المشاركة. وها أنا حائر أمامك. لا أدري ما الرأي والعمل. المال مثل الماء إذا ركد فسد..

عدلت الحاجة فوطتها حول رأسها كأنها وشك الذهاب في شغلة وقالت:

- ابنك نجاح هناك ينقصه مال إضافي لمشروعه لماذا لا ترسله إليه؟

رد الحاج حاكا صلعته اللامعة بسبابته بأناة كأنه يخشى العبث بترتيب أفكاره:

- أمور المحروس نجاح غير مستقرة تماما هناك، مشاكله مع الإفرنجية خاصته مستمرة، يفكر في إرسال صغاره إلينا. نسيتِ حين كنا العام الماضي عندهم كيف زهقتِ من الرطانة بكلام غير مفهوم وكلام ابننا عن التباسه في مَن هو في غربته..

تنهدت الحاجة تونس، خفضت رأسها وضربت يدا على يد متمتمة:

- قسمة!

أعقب الحاج:

- ما مر شهر على وجودنا هناك حتى طلبتِ بنفسك العودة إلى ديرتنا بأسرع وقت.. فلمن نوظف المال هناك..

 

 الموضوع الشائك المزعج يعود إلى حديثهما من جديد.. كانت الحاجة تركت لزوجها معالجة كل ما يخص الرزق من قريب وبعيد، أما وهو يسألها الآن في هذا ظنت عليها الاعتراف:

- أخشى أن يكون نايف لا يزال متأثرا منا ولا يحضر معهم للغداء..

التقت عينا الأب بعيني الأم مرة أخرى مشتبكة بنظرة ذات مغزى ومعنى. ابتسما في وقت واحد، كشف الأب:

- سألتُ سلمان عنه.. قال يأتي مع الأهل.. مصحوبا بصديق.. قلتُ مرحبا بالجميع.

تغلبت الحاجة على ترددها وسألت زوجها:

- صديق! داعما أو مدعوما يأتي معهم.. ما فهمتُ!

- يتضح المرام قبل الغداء.

- ورأيك لو فتحوا موضوع سماح مجددا وعاتبونا على الاستنكاف من أهل أفقر.. ها..

- رأيهم ذاك عن العقل أبعد من ضرورة تحسين الذرية حجة سماح.

- أنا وأنت وقعنا في الوسط مرجومين بعتبهم.

- أي عتب اغلقيه في الحال. هذه المرة نحل المشكلة بطريقة "عصرية" حسب ارادة نايف وحضرة الجيل الجديد. نتركهم في غرفة وليتجادلوا حتى الصباح. علينا بالنتيجة طالما يريدون الرسن. ولو أردتِ الحق أفضل لو تخلت سماح عن عنادها هذه المرة.

- كلام على الرأس والعين. لماذا رفضت ابن العم سابقا إذاً؟!

تململ الحاج سليمان في مكانه المريح كأن شيئا تحته يزعجه، اعترف:

- تصورته في البداية رغم القرابة طامعا حين كان مالي ناقصا ولما اكتمل.. طلب المال السند والعضد. ومَن يدري، قد تكون ابنتنا تعرف أكثر منا، الكومبيوتر يفتح عين الآدمي..

 

 

***

 

 

ظهرت سماح في البيت مثل الشمس في يوم غائم، أنارته بعنفوان روحها وكلامها المتدفق حول ما وقع وما لم يقع تحت نظرها. ألقت فوطتها البيضاء برمة على الشغالة، جرت إلى والدها، أشاح وجهه عنها إلى الشباك حين دخلت، جثت عند ركبتيه ملاطفة:

- كفى زعلا. ورقة الفاكس ضاعت في مكان ما ونسيت قضية المشروع الإنشائي. هذا يحدث. عدم حصولنا على المشروع لا يستحق حربا بيننا. شراؤنا مبنى بلومنغتن أكثر نفعا لنا صدقني.

هز الحاج سليمان رأسه رافضا اقتراحها وانتهرها بلطف نافد الصبر:

- تخلصي من هذه الفكرة لخاطر الله، أخوك نجاح هناك يذوب مثل فص ملح في ماء فإذا التحقتِ به وذبتِ معه في بلاد بره ما يبقى لنا أنا وأمك بالله عليك؟ ملابسك التي سنبكي عليها؟ أو رسائلك التي لن يكون فيها كرسائل أخيك غير التوجع على رائحة روث الديرة وطلع النخل والاشتياق لسماع صياح الأم وجرات الأب للأذن وجمعتنا حول المائدة؟!

- بابا اسمعني.. نكسب من توظيف مالنا هناك..

- كما تكسب القراقوزات المرقصة في هذه المحلة وتلك؟! ابنتي افهمي...

 

 نهضت سماح ومضت إلى المائدة العامرة أمامهم بالأطعمة، تناولت إصبع جزر وقضمته، بدت وهي تنظر إلى والدها وتمضغ بصوت مسموع في السكون كأنها تلوك فكرة، قالت:

- وأنت أيضا افهمني بابا، إذا حبست مالك في بلدك توسع في أفضل حال لا أكثر من حدود هذا البلد، أما إذا أطلقته إلى الخارج أصبح أفقه أعرض..

 الأم حائرة من تراشق الكلام بينهما، تمتمت مستاءة إلى حد:

- لا أنا ولا خالاتك جزائر ومغرب ولبنان وفلسطين نفهم كلامك هذا..

 رد الأب على ابنته في صبر وتأن:

- ابنتي. المسألة ليست في المال. بل فينا نحن. العام الماضي ما تمكنا الكلام مع أحفادنا. يجب أن يكون المال تابعا لنا لا نحن تابعين له. ونحن تابعين لهذه الأرض.. لا العكس..

 

ساد سكون. سمعوا خشخشة الجزر يتكسر بين أسنانها، سماح بعدوانية:

- هذه أرض جاحدة. جوها جحيم وباطنها سقيم. السنبلة فيها تصبح قنبلة!

نهض الحاج سليمان شاعرا إهانة.. كأنه صفع على وجهه.. لامتها الأم:

- لا تكفري يا سماح! الأرض جاحدة للجاحد. كان علينا تشغيلك بالأرض مثلنا لتعرفي طيبتها وقيمتها. الآن أعرف لماذا أنت برمة مختلفة عنا!

 

 على وجه سماح علامات تأنيب ضمير، بدت حائرة، لعلها أرادت التهرب من إحساس هوان، تساءلت عن سبب وجود المائدة الاحتفالية.. عما إذا كانوا ينتظرون ضيفا غير العم سلمان..

أجابت الأم متفحصة ابنتها بنظرة ذات معان:

- نايف ابن عمك.. مع صديق هذه المرة..

اضطربت نظرة سماح قليلا وترددت بين الأم والأب، سألت أباها:

- لهذا السبب أردتم حضوري مبكرا إلى هذه الوليمة؟

- الظفر لا يتبرأ من لحمه يا سماح!

- لكنه يعرف رأيي.. و.. رأيك..

- رأيي تغير يا ابنتي. نحن أقوى معا. ما أدراني رأيك أيضا ربما تغير!

 

لمعت عينا سماح معاتبة والدها:

- تطبّق فكرة الحديد يفل الحديد، ها؟ لكني أريد الالتحاق بأخي نجاح تعرف!

- خسرت توظيف المال صباحا يا ابنتي لا أريد خسران ذريتي مساءً..

أسى على وجه سماح، فتحت فمها لتقول شيئا، لكن ظلت في صمتها، دق جرس  الباب..

 

***

 

 

 تكررت كلمات الترحيب والسلام في المدخل، سُمع بين أصوات القادمين صوت نايف وصوت الخالة جزائر، والخالة لبنان، والخالة مغرب.. و.. و.. قالت سماح لنفسها: هذا مؤتمر قمة لا زيارة عادية!.. تفضلوا.. تفضلوا.. انزلقت نظرتها سريعا عن عمها "سكرتير" جامعة العائلة، تلبثت على الصديق المرافق، لعله المرشح الجديد لرآسة وزارتها، ما أدراها ما يحدث هاته الأيام...

 

أخيرا مر العم سلمان بمهابة في حجرة الاستقبال، متأرجح القامة الربعة، مصبوغ اللحية بالحناء، تتبعه الخالات، نايف، صديقه أبو عيون جريئة، خفق قلب سماح قليلا..

 

 اجتمع شمل العائلتين أخيرا حول المائدة، جيء بالطعام الساخن، تبادلوا التحيات والاستفسارات والابتسامات مرة أخرى. الجميع كان يسأل ويجيب، يضحك أو يبدي أسفا، إلاّ الضيف، صديق نايف ابن عمها، ركز في مقعده جوار العم سلمان صامتا، يرسل أحيانا نظرة حذرة قلقة، إلى طرف المائدة الآخر، حيث جلست سماح..

 

 سماح لم تشعر بكثير إحراج أو قلق، اعتراها غضب قليل، لإصرارهم على إتمام كل شئ كما يريدون، بالطبع تهرب الجميع في البداية من التكلم في ما جاءوا لأجله، ذلك كان واضحا لسماح من جلبة أقاربها واضطرابهم، تكلموا عن الكباب والشواء والكبة والدولمة والباذنجان.. و.. و.. كلام يصلح لإعداد أطروحة دكتوراه في الموضوع.. و.. أوف.. ما أطيبها.. عاشت أيدي مَن صنعها وطبخها، هذا بالطبع من بخت الذي تكون سماح من نصيبه.

 

 شيئا فشيئا اقتربوا إلى موضوع الزيارة، كانت سماح متوثبة، تعد نفسها للرد حين دق جرس التلفون دقته الخارجية.. فهرعت إليه في شوق قائلة:

- آخذ المكالمة من تلفون المطبخ...

المتكلم أخوها العزيز نجاح حتما.. من بلومنغتن..  ولها معه كلام طويل.. طويل..

 

لكن صوت أخيها وصلها فاترا هذه المرة. حاول نجاح التظاهر بمرح بالطبع.. بل وسألها كعادته:

- ما غداؤكم اليوم؟..

ليس إلاّ ليشعر نفسه ويشعرهم أنه معهم في البيت، كما سأل عن صحة الوالد والوالدة، نفس الكلام المعتاد تقريبا، لكنه لم يسأل هذه المرة: متى نراكم، ولم يعبر عن شوقه ويعترف بضجره هناك على ديدنه في الأشهر الأخيرة.. كان مترددا في قول شئ ما مهم.. جابهته سماح أخيرا:

- قل لي يا نجاح.. ماذا جرى عندكم.. أشعر أنك تخفي شيئا عني!

ضحك أخوها، لكن باردا، على الطرف الآخر من السماعة. اعترف أخيرا:

- لا أستطيع إخفاء شئ. خلص.. افترقنا.. كنا نتكلم ليس فقط بلغتين مختلفتين.. بل بقلبين مختلفين أيضا.. برأسين مختلفين...

- لا تجعل من خصام بصبصة على جارة متعرية في نافذة مشكلة حقيقية.

- خصامنا هذه المرة حقيقي. سوء الفهم تضاعف منذ سبتمبر..

فهمت سماح في الحال كل شئ امتد بينهما.. من هذا الطرف من الأرض إلى ذلك الطرف القصي الآخر.. الذي يقف عليه أخوها..

 لقد تم الطلاق بينه وبين زوجته أخيرا!.. 

سألته في حزن:

- والأطفال.. أين هم؟..

- أخذتهم أمهم بالطبع. أخذت كل شئ من البيت تقريبا. لكني غير متأسف ومتألم سوى للطريقة التي يتم بها لقائي مع الأطفال. كأنه لقاء مساجين. مرة كل أسبوعين..

 

 تراءى لسماح أمام عينيها الدامعتين كل ما بناه أخوها ينهار في لحظة، معه يتحطم ما بنته هي أيضا من أحلام وأوهام.. على أرض  بعيدة جميلة في خيالها.. فإذا بها تتبدى لها الآن مثل يباب وخراب..

والأرض  هذه.. المحترقة بالشمس.. التي تقف عليها.. التي كفرت بها قبل قليل.. تتجلى رغم سموم وهموم في الطريق جميلة.. مثلما كانت عهد الطفولة.. أجمل بكثير من بقعة مغطاة بسماء مكفهرة بغيوم وسحب..

 

وكأن سماح لم تصدق كل ما سمعته.. فأرادت التأكد بعينها، سألت أخاها:

- تريدني قربك هذه الأيام؟ أستطيع السفر إليك. والدي سيسمح لي حتما في هذا الحال..

لكن أخاها تنهد.. صمت.. بعد برهة قال:

- يا سماح.. أنا نفسي عائد إليكم قريبا.. بلغيهم تحياتي.. العم والخالات ونايف..

 

 

***

 

وضعت سماح سماعة التلفون وأطرقت في مكانها مفكرة.. هذا اليوم يا بنت الناس كما يقول والدك عادة، مليء بالأحداث الجسام، فإذا نقلتِ إلى والديك الآن.. خاصة الوالد.. ما وصلكِ من أخيك حولت غداءهم إلى زقوم.. هذا موضوع مؤجل اليوم وغدا.. يكفي والدك ما أصابه صباحا من لعبتك معه في إضاعة المشروع الإنشائي الاستثماري من يده وما كان سيصيبه الآن لو رفع هو السماعة وصح توقعكِ ورددتِ الخاطبين على أعقابهم ومعهم آماله وأحلامه في تعزيز عز العائلة...

 

 هيا، عليك الآن بشيء يزيل الهم والكرب.. قبلة واحدة على خده لن تكفي هذه المرة.. ولا على خدين.. عليك سقي حياته بأمل، حياة العائلة، بفكرة ملهمة كبيرة.. خاصة بعد الذي حدث مع أخيك..

 

 لا بأس من الاعتراف بعد حين بأنك أنت، لا غيرك في الشركة، مَن كان وراء إفشال حصوله على المشروع. وأنك فعلت ذلك لرغبتكما أنت ونجاح في شراء مبنى بلومنغتن وتحقيق مشروعكما هناك. سيفهم أبوك ويسامحك، خاصة إذا وضعتِ له تلك الأوراق التي أخفيتها عنه أمامه وعملتما معا على تدارك ما فات..

هيا إليهم.. أمامك كما يقول الراديو.. مسؤوليات كبيرة!..

 

عادت سماح إلى الأهل والضيوف المجتمعين حول مائدة الطعام الواسعة، شملتهم بنظرة خالية من كدر، مضمرة فرحا لاجتماعهم في بيت الأب، بيت الألفة و.. الأمل.. تلقوها بعيون مستطلعة متسائلة عما وراءها من أخبار وحكايات، تركت أيديهم ما كان فيها، فأشبعت فضولهم كلمات طيبة وهي تدور حولهم مغالبة حزنا طفيفا تماوج في محياها. لما أصبحت خلف مقعد عمها توقفت، كانت قد انتبهت أنه لم يمد يده إلى طبقه، لامست أصابعها كتفه برهافة طائر سعد، يحط أو يحلق دون انتباه بشر، لاطفته بطلب مهذب:

- طعامك يبرد يا عمي.. كل بالعافية..

رد العم في حمية كأنه انتظر ذلك الطلب وآن أوان إسماعهم صوته:

- لا أمد يدي إلى الطعام يا أهل البيت حتى يستجاب طلبنا..

 التفتت سماح إلى نايف تسأله عونا ومشورة، رأت في عينيه رحابة الصحراء. ساند والده:

- خسرتكِ يا سماح بالقرابة، بها أريد كسبك، صديقنا هذا خريج علم النفس، يفهم في القلوب والذرية أفضل مني، فما حجتك هذه المرة..

 تطلعت سماح إليه، ثم إلى صديقه طويلا.. وابتسمت من القلب ذلك اليوم أول مرة..

واطلقت الخالات جزائر ولبنان وفلسطين ومغرب و.. و.. زغاريد.. فجأة.. أشبه بسرب عصافير ملونة.. فرّ  وانتشر  في البيت كله..

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن الملحق الثقافي لصحيفة العرب عدد 7359

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com