قصة قصيرة

ليلة الخروج من النهر

ابراهيم سبتي / العراق

ibrahim_s2010@yahoo.com

لم تكن البيوت المطلة على النهر قد شعرت بشيء ما في فجر ذلك اليوم . لم يشعر أحد البتة بأن شيء قد حدث وبعثر سكون الماء .. في ذلك الفجر البعيد ثمة نهر وبيوت وأشجار متناثرة داخل البيوت وظلمة مرتحلة .. ليس ثمة أشياء أخرى .. زعق طائر وتبعه نعيق متقطع .. لم يسمع أحد من نائمي البيوت أي صوت .. الزعيق يتعالى ولكن النعيق ظل متقطعا خفيفا .. حفيف أشجار السدر والماكنوليا واليوكالبتوس والصفصاف يتوالى كل الليل ، تلك الأصوات تدخل كل البيوت .. كل الأزقة وتلتصق بالجدران وتمر من فوق الأشجار الملتفعة بورق ندي .. لكن ثمة صبي ينهض من أحشاء أحد البيوت ، ينهض على أصوات غريبة اقتحمت عليه هدأته وغفوته .. وقف وسط الدار المكشوفة تحت شجرة سدر عالية ، وكانت خيوط الفجر تسحب نفسها بعناء من بين كتل الغيوم الراحلة .. الصبي يسمع أصواتا .. تمالك نفسه بل أخذته قدماه نحو باب الدار الخشبية .. لم يشعر به أحد ولم تكن الأصوات قد عبثت بنوم أهل الدار .. الصبي يتحرك ببطء وكأنه يمشي فوق أنياب وحش .. لا يريد ان تسمع خطاه ، فتح مزلاج الباب بحذر شديد وألقى بنفسه الى الخارج بخفه قرد .. المكان خاليا تماما والأصوات صارت أكثر وضوحا .. حفيف أشجار البيوت وزعيق نعيق متقطع ، ماء النهر يتماوج بغنج .. سار خطوتين الى الأمام وتوقف محاذيا جدار بيت قريب .. كانت الأصوات تدخل إلى رأسه فتثير فيه رغبة رؤية النهر اكثر .. واصل المسير .. صبي يمشي وحيدا وسط بيوت نائمة كأنها مهجورة منذ سنين .. النهر يقترب .. الصبي ينظر الى الأعلى حيث الأشجار السامقة المنتصبة وسط وخارج البيوت ، ينقل بصره من شجرة الى أخرى ، يسير الى الأمام حيث النهر .. الزعيق اختفى بينما ظل النعيق متقطعا .. فجأة ظهر ثلاثة ملثمين رآهم رغم الدكنة .. اتجهوا نحو الصبي الملتصقة عيناه بالشجر يبحث عن مصدر النعيق وسط حفيف الأشجار . كانت الغيوم قد تبددت قليلا واخترقت خيوط الفجر صفحة السماء القاتمة .. اضطرب لمرأى الرجال الثلاثة ، لاذ بسياج أحد البيوت المغطى بالآس الكثيف .. كانوا يتقافزون كدمى ، يهمهمون بينهم ولم يفهم آية كلمة .. مروا في الطريق نفسه وتواروا في نقطة بعيدة .. خرج مواصلا سيره ولمح ثلاثة آخرين يخرجون من الجهة نفسها .. فزاد حذره وتوارى خلف شجرة سدر عالية . بعد لحظات أطمئن لابتعادهم ، خرج الطيور الزاعقة مواصلا سيره نحو النهر .. رفع بصره نحو الأشجار باحثا عن والناعقة ، لكنه توقف ثانية حالما رأى شخصا يخرج من جهة النهر ويتوجه نحو البيوت .. كان وجهه مظلم كالغراب حاسر الرأس يسير بعكاز .. لمحه تحت خيوط الضوء الخافت المتدلي من السماء .

قال الصبي في نفسه :

- كلهم يخرجون من النهر ! ما الذي يجري هناك ؟

جال بصره في أنحاء المكان وهو يتقدم نحو النهر .. لمح صاحب العكاز يقترب ، لمحه ، فزاغ عن الطريق وتوارى خلف كتلة حجرية جاثمة في جانب الطريق ، لكن الرجل المتعكز صال عليه صارخا مزمجرا ، هرب الصبي باتجاه النهر تماما فكان أسرع من الرجل عدوا وكاد ان يجهش بالبكاء .

صرخ المتعكز في صرامة :

- قف ؟ وإلا ستندم ؟

لم يبال الصبي بما أطلقه الرجل .. خيوط الفجر بدأت تطرد وحشة المكان ولسعة من البرد قد اخترقت جسد الصبي المرتعش . زمجر الرجل ثانية وراح يطلق صيحاته كالمجنون .. الصبي تصلب في مكانه ذاهلا وهو يرى ان الرجال قد عادوا الى النهر يسيرون ببطء وسحبوا معهم صاحب العكاز .

قال الصبي بتنهيدة حارقة :

- ما الذي يجري ؟

داهمته أفكارا غريبة .. غريبة الى حد انه قرر العودة الى داره .. لكنه فزّ على صيحة اصطدمت به من الخلف .

- توجه نحو المركب ! اصعد معنا ! سننطلق بعد قليل !

التفت لكنه لم ير أي شخص فزاد من قلقه .. لكنه رأى مركبا جاثما قرب الضفة وثمة رجال يقفون على سطحه ينظرون نحو البيوت النائمة .. تحرك المركب وتصاعدت ترترة محركه وفكر بالعودة لكنه رأى حصانا أبيض يخرج من الماء أو هكذا ترأى له .. ثم خرجت أربعة خيول أخرى .. الخيول الصاهلة بعنف هرعت نحو الصبي الخائف المتأهب للعودة ، لم ينبس بكلمة .. لم يتحرك لم يفكر بالهرب هذه المرة .. ظل ينظر الى الخيول المفزوعة وهي تنطلق نحوه .. اجتازته ، جفل في مكانه وجثا على الأرض ، ابتعدت عنه سائرة نحو البيوت .. هرع نحو الطريق المليء بالأشجار ، سقط أرضا فأصطدم بشجيرات الكاردينا والدفلة الصغيرة المتناثرة . نهض راكضا ، فوجئ بأن

عيون كثيرة ملتمعة تراقبه من بين أوراق الشجر الندية .. عيون تخترق الضوء الباهت .. وتلاحقه ، لا تفارقه .. المكان خاليا إلا منه ، سمع زعيقا قريبا ، نظر الى الأعلى .. لم يعثر على شيء .. فالعيون خفت بريقها فجأة .. استدار نحو النهر وقرر العودة .. لكنه رأى الخيول الصاهلة تعود مسرعة وتختفي في نقطة قريبة أمامه . حفيف الأشجار يتواصل وبرزت العيون ثانية تلاحقه ، عيون كثيرة لا تحصى .. وثمة طير أبيض رفرف فوق رأسه .. طير صغير راح يتبعه .. الصبي توقف عند النهر ينظر الى صفحة الماء .. فيما راح الطائر يرفرف مبتعدا الى وسط النهر ثم عاد مسرعا وحط على شجرة اليوكالبتوس القريبة .. ترترة المحرك عادت ثانية وتوقف المركب في الوسط ، حينها انتفض الطائر من مكانه متوجها نحو سقف المركب الخالي .

الصبي المذهول تساءل مع نفسه :

- لماذا يقفون وسط النهر ؟

صعد الرجال الى السطح وبدءوا يلوحون بهراواتهم نحو البيوت .. تعجب الصبي للمشهد .. كانوا ستة رجال وصاحب العكاز سابعهم .. طار الطائر محلقا فوقهم ، كان الرجل الأشعث صاحب العكاز يلوح بيده نحو الطائر الذي ابتعد هاربا الى عرض النهر . أدار الصبي نظره نحو البيوت الساكنة لا شيء خلفه سوى عيون ملتعمة تخترق أوراق الشجر و ثمة نعيب يتواصل .. جثا على التراب ينظر الى الرجال المتحركين مثل لعب شدت بخيوط .. فجأة تهادى المركب نحوه .. التفت باحثا عن ملاذ .. واصل المركب ترنحه ، ترجل الأشعث قافزا بعكازه في ماء الجرف .. ضحك ضحكة بلهاء وهو يرى الصبي يحاول الهرب .. أمسك به بعنف ولطمه على وجهه المندهش فسقط الصبي متألما باكيا ، رفعه وأوقفه رغما عنه وسدد له لطمة أخرى صرخ بعدها الصبي المتضرع ، فتوالت اللطمات واللكزات ، انهار الصبي وسقط مضرجا بدماء وجهه مفترشا التراب. حضر الطائر يرفرف مهتاجا وقد اختفى الزعيق والنعيب وسكنت الأشجار واختفت العيون . سحب الرجل الصبي المنتحب عنوة من ياقته متجها به صوب المركب الذي تحرك ببطء شديد واقفا وسط النهر .. صعد الرجال فوق سطحه يحملون الصبي يتقدمهم الأشعث الذي راح يلوح بعكازه نحو الطائر الذي يخفق بجناحيه حول المركب . بعد لحظات دوى ارتطام مروع في الماء احدث هزة في البيت الذي فزّ على صوت امرأة مذعورة من كابوس ثقيل أجهشت بعده ببكاء مر فأنتفض صبيا من فراشه ينظر إليها فاغرا فاه .. تحسست وجهه بأصابع مرتجفة وسط دهشتها المخلوطة بالذعر .

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com