|
قصة قصيرة دموع أمام امرأة كردية طلال النعيمي / كاتب وقاص عراقي - المانيا
ما إن تقدم بضع خطوات وئيدة , حتى تيقن انه أمام امرأة جالسة على العشب الأخضر , وأن ليس هناك خدعة نظر .. أو توهم فيما رأى .. توقف للحظات . وراح يحدق بإمعان في المرأة عن بعد ... وثمة تساؤلات عديدة قفزت إلى رأسه مشحونة بتعجب واستغراب شديدين .. لكنه لم يحاول التفكير بها ... بل تقدم خطوات أخرى , كانت أكثر بطأ .. وكأنه كان لا يرغب في أن تنتبه المرأة إلى حفيف خطواته , قبل أن يجد إجابة شافية لكل تساؤلاته لم يبق لقدوم الربيع إلا بضعة أيام , وقد استقبلته الأرض اليابسة بحلل خضراء جميلة , كان الهواء لطيفا للغاية .. والشمس ترسل أشعتها الدافئة إلى هذه الحقول والروابي - الخالية - ! فتزينها بصبغة ذهبية ساحرة .. كان كل شيء يغري بالجلوس في أحضان الطبيعة الغناء , والتمتع بسحرها الأخاذ . . إلا - الآن - , وفي هذا المكان بالذات ! ثم تساءل إن كانت هذه المرأة قد جاءت لتروي ظمأ روحها بهذا السحر والجمال .. لكنه ما لبث أن هز رأسه مستنكرا ومستبعدا ذلك وراحت الحيرة تطغى على ملامحه المنقبضة المتعبة تقدم نحوها ..
وفكر مليا فيما يمكن أن يتحدث به معها .. فلا بد له أن يحادثها .. وخاف أن ترميه بالفضول ..أو بأي صفة أخرى , قد تطلقها امرأة على شاب غريب اقترب منها مخترقا وحدتها وانسها .. ولا يدري لماذا تمنى لو تكون عجوزا .. ربما ليسهل الحديث معها ... لكن أمنيته ذهبت أدراج الرياح , فما أن اقترب منها أكثر , حتى أدرك انه أمام فتاة , قد لا يتجاوز عمرها العشرين عاما . عرف ذلك من خلال خصلات شعرها الأسود الطويل , والتي كانت قد نفرت من بين طيات الوشاح الذي كانت تلف به شعرها . والذي كان مزكرشاً وملونا بألوان الورد الزاهية .. وكذلك كان ثوبها الكردي الجذاب أيضا .. ولا يدري لماذا تسلل الخجل إلى داخله ,لكنه تحرك نحوها بخطوات هادئة متزنة , وضجر كثيرا حين باغتته نوبة من السعال .. ثم خاف بشدة من هذا السعال المفاجئ .. اضطرب , وتمتم لنفسه / - ( هل أصبت ب ......) ولم تطاوعه نفسه على إكمال الكلمة .. لكنه همس بثقة -كلا .. كلا .. لاشك انه البرد القارس .. فالليل في هذه المناطق الجبلية بارد جدا .. وقد شعرت ببرد (شديد في الليلة الماضية وانتبه إلى المرأة .. رآها مازالت جالسة لم تلتفت نحوه . . تعجب قليلا ,لكنه ما لبث أن فسر عدم انتباهها لوجوده بغرقها في بحر من الهموم , أنساها كل ما يدور حولها .
تقدم بضع خطوات أخرى .. باتت المسافة ما بينه وبينها لا تتجاوز العشر خطوات فقط .. توقف يتأملها .. ورآها تحتضن رضيعا , وقد ألقت برأسها على صدرها , بينما استلقى طفل خماسي أمامها وهو يغط في نوم عميق . سلم عليها ... فلم تجبه . وكرر السلام , وهو يتقدم خطوتين نحوها .. وابتسم بحنان , وهو يهمس لنفسه / - ( لعلها أرادت أن ترضع طفلها لينام , فنامت قبله , وهكذا الكثير من الأمهات ) لكنه كان مصمما على الحديث معها , فقال بصوت عال / - ( أختاه .. يا أختاه .. أنا صحفي , أتسمحين لي بالتكلم معك ؟) لا فائدة .. فان - سلطان - نومها قوي للغاية .. تقدم .. أصبح على بعد مترين منها .. ونظر إليها .. ولا يدري ما الذي أخافه في هذه اللحظة , وبعث رعدة في أعضائه . وسلم عدة مرات .. تكلم .. وأخيرا صرخ بها - ( انهضي يا أختاه .. النوم هنا سيجلب لك ولطفليك مرضا قاتلا .. لا بل موتا محققا . ! ) لا جواب .. لا حركة خفق قلبه بشدة .. لكنه اقترب منها أكثر .. وخجل أن يطأطئ رأسه لينظر إلى وجهها الغافي على صدرها , فحول وجهه إلى الطفل الراقد أمامها .. رآه نائما على بطنه .. فنظر بإمعان شديد إليه , وهو بلباسه الكردي الجميل .. وكاد أن يصعق وتنهار كل قواه , وهو يرى جوانب وجهه مسمخة .. تسارعت دقات قلبه .. أحس بدوار مفاجئ .. وكمن عثر على شيء مهم للغاية , استدار بسرعة خاطفة نحو المرأة , وطأ طأ رأسه .. و .. رأى وجهها .. وصرخ صرخة قوية من أعماقه ... كان وجهها خليطا من اللون الأسود والأزرق والأحمر , وكذلك رضيعها ..! كان وجها بشعا مخيفا .. مثله مثل آلاف الوجوه التي ماتت في هذه المدينة المنكوبة ؛ مختنقة بالغازات الكيمياوية التي أمطرها بها من ليس في قلبه ذرة من رحمة ..! استدار وهو يمسح دموعا ساخنة انحدرت رغما عنه , اخذ يجول في بقية الروابي والحقول وهو يلتقط صورا للموت المزروع في كل مكان .. للحيوانات .. للطيور .. ويدخل المدينة .. يدلف إلى بيوتها .. يسير في شوارعها .. بين آلاف الجثث ؛ ليكمل تحقيقه الصحفي عن فاجعة القرن التعس .. فاجعة حلبجة - الشهيدة -
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |