قصة قصيرة

الـهديـة

نجيب كعواشي / المغرب

Kaouachi_06@hotmail.com

أمامي مهلة كافية لتحط هديتي الرحال في علبتها البريدية, في آجال معقولة. فكرت كثيرا في الهدية التي تصب في خانة ما تستحسنه. عدة اختيارات تلعب معي لعبة الإغراء, وتشرأب بعنقها, وتقدم لي نفسها في أحسن الحلل: أشرطة غنائية كلاسيكية؟ حقيبة أم ساعة يدويتان؟.. ولم لا هاتفا متنقلا, وأساير روح العصر؟

فكرت في هدية مغايرة لما يتهادوه الناس في مثل هذه المناسبات أو غيرها.. وحتى أتخلص من حمى الاختيارات, وضعت نفسي مكانها, وفكرت في الهدية التي يمكن أن ترضيني.. هي تعشق القراءة والكتابة, وتكتب قصصا نالت حظها من النشر, أسلوبها ينم عن مستوى يعد بمبدعة, ستحفر مكانها الأدبي والإبداعي. أول ما تبادر إلى ذهني أن أهديها كتبا. دونت بعض عناوين الإصدارات الأخيرة, ونويت أن اشتري بعضا منها, وأضحي بقسط من راتبي الذي يسمح لي بالكاد أن أبقى محسوبا على الأحياء, لكن مصارف طارئة على ميزانيتي, أجبرتني على إقصاء هذا الاختيار.. تذكرت أنها أرسلت إلي آخر ما كتبت من قصص قصيرة, قلت لها بأنها تصلح لتكون أول مجموعة قصصية لها, واقترحت عليها أن تخوض التجربة, لكنها لم تجب عن اقتراحي, لا على المدى القريب ولا حتى البعيد, وبقي المشروع حبيس النوايا..

وجدتها.. لماذا لا أهديها بعضا من قصصي التي كتبتها؟ ستكون هدية غير مسبوقة, خصوصا وهي تجهل أنني أكتب قصصا, لم أخبرها من قبل, أتكتم على الآمر بل وأكتب بإسم مستعار, (للأمانة الأدبية, أنا كاتب هاو, وأحاول أن أخوض هذا البحر الخطير على سباح هاو مثلي). سبق لي أن نشرت في بعض الجرائد الوطنية, وقرأها بعض الزملاء, وعبروا لي عن إعجابهم بما أكتب, وشجعوني على المزيد من الكتابة.. راقتني الفكرة واطمأننت لها, وفي صباح الغد نفذتها. هاتفتها وأخبرتها أن شيئا ما سوف يصلها عبر البريد, لم أقل لها ما هو لكي لا أحرق المفاجأة, ولم أرى بدوري أي إلحاح منها على معرفة ما هو أو استباق الأمور.. مر الأسبوع الأول من السنة دون أن أتلقى منها ردا أو رنة. قلت في نفسي: لم تتوصل بعد بشيء, حاولت أن أتصل بها لكن هاتفها مطفأ, ربما لم ترد أن تتصل بي لكي لا تقول بأنها لم تتوصل بشيء, ممكن, هي عملية جدا, وتفكر بمنهجية. لكن الهدية إلى علبة بريدها لا يمكن أن تأخذ كل هذا الوقت, إذن, ما سبب هذا الصمت؟ هل يمكن أن تضيع الهدية أثناء النقل؟ كل شيء جائز, وسواس من نوع آخر يقول لي إنها لم تستحسن الهدية, هي لا تعرف أنني أكتب, هل يمكن أن تكون الغيرة؟ هل تستكثر علي هذا الجانب؟ هل تظن أن لها وحدها موهبة الخصوبة والإنتاج؟ هل تشعر أنني أقاسمها الخلق والإبداع؟ هواجس قبيحة استبدت بي وأنا أبحث من بينها, عما يمكن أن يكون وراء سياسة الصمت هاته, تابعت المنابر التي تنشر بها, لكن يظهر أنها توقفت عن النشر, لها أسبابها الخاصة, ولا يحق لي رغم الصداقة, أن أجبرها أن تبرر أفعالها, أو تعطيني كشفا بها. تركت المسألة للوقت, فهو كفيل بتبديد الهواجس. مرت مدة طويلة, وصممت ألا أشقي نفسي بالموضوع, وأعطيت الراحة البيولوجية لبنات أفكاري للدخول في بياتها الشتوي, ويختمر مخزونها, وتتخصب أكثر, وتطلع بالجديد..

وأنا أتصفح يوما جريدتي المفضلة, قرأت إعلانا عن مسابقة ثقافية في القصة القصيرة, تنظمها إحدى الجمعيات الثقافية, إيمانا منها باكتشاف وتشجيع المواهب المغمورة, وتمكينها من الوصول إلى القراء, عبر نشر إبداعاتها. قلت في نفسي: قصصي في حاجة إلى تقييم أصحاب الاختصاص, يتعاطف معها الأصدقاء والمقربون, وربما على سبيل المجاملة, يتكبدون مشاق قراءتها, لكن هذه المسابقة سوف تتيح لي, في حالة فوز قصتي اللقاء بنخبة مثقفة محايدة, وهي فرصة مهمة لاختبار مستواي. أرسلت قصة كتبتها منذ وقت طويل, أخذت الآن شكلها النهائي بعد المراجعة والتنقيح, وبعد شهور قليلة ظهرت النتيجة, وتوصلت برسالة تهنئني بحصول قصتي على مركز من المراكز الخمسة, التي تخول الحصول على جائزة. قصتي جاءت في المركز الثاني, وكنت في مستوى الحدث والرهان, ولم يبقى سوى السفر إلى مقر الجمعية لحضور حفل توزيع الجوائز, وهناك.. رأيتها. نعم.. رأيت صديقتي مع أطر الجمعية والفائزين, ألم أقل إن الوقت كفيل بحل الأسئلة؟ التقت نظراتنا فقرأت في عينيها ضيقا لم أستطع تأويله, ملامحها ملغزة, واستعصى علي سبر أغوارها. بعد التحيات والتهاني المتبادلة, سألتها عن هذا ا الغياب وعن أمور أخرى, فأجابت والاضطراب يكبلها, أنها كانت خارج أرض الوطن, هنأتها على رجوعها سالمة غانمة, وعبرت لها عن سروري الكبير بفوزها, لكن كلامها بدا لي باردا, وعباراتها بلا روح, ولا دفئ, وفي عينيها مازال متوهجا سؤال عزوته إلى أنها تفاجات بحضوري, تغيرت سحنتها, واحتقنت قسماتها, وكأنها تختنق, سألتها هل تحس بألم أو وعكة؟ أومأت لي أنها بخير, ولا داعي للقلق, ثم ومن دون استئذان, قامت وغادرت القاعة. خطر لي أن أتبعها, ولكن في هذه اللحظات أعطيت الكلمة لرئيس الجمعية, ثم لرئيس التصحيح النهائي للمسابقة, مبتدءا كلمته ببعض النصائح والتوجيهات للكتاب والمبدعين الشباب.. بعد ذلك بدأت قراءة النصوص الفائزة بأصوات أصحابها, وبترتيب تصاعدي. جاء دوري وقرأت قصتي, ولما انتهيت من قراءتها, قلت لمؤطري الحفل إن صديقتي تعتذر عن الحضور, وسأنوب عنها, وأقرأ قصتها على الحضور.. وما أن شرعت في القراءة حتى.. صعقت.. إنني لا أصدق ما أقرا, وما أرى.. انقشعت سحب الخدر, وانطفأ سحره لأفيق على هول المفاجأة.. أكاد أجن. أبراج من رأسي تطير الواحد تلو الآخر في سماء الصدمة والذهول. اخترقت سكاكين الغدر صدر فرحتي.. القصة الفائزة من تأليفي. وحده العنوان تغير..

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com