|
قصة قصيرة غريب الصابئي محمود يعقوب لا يجيء المساء إلا لأنه هنا .. هنا في هذا المكان وعلى هذا التخت ، كفه اليسرى مسترخية فوق رمانة المسند ، وأنامل يده الأخرى تداعب شعر شاربه الأصفر . هنا كل مساءٍ ، في هذا المقهى ، وعلى هذا التخت بالذات ، يجلس بين قوسين وعلى يساره نقطة فوق سطرٍ منفردٍ عن السطور الأخرى لاتخطأه السهام . ألقاه بوجهه الأبيض المدور كخواتم الفضة التي يبرع في صياغتها عند الصباح . ألقاه قديماً ، وحيداً ، ومهجوراً مثل التخت . اعبر الخط الأحمر نحو هذا الرجل الفاضل ، وأجالسه بمودةٍ خالصةٍ . وطالما انشغلت بقراءة صفحة وجهه المترعة بالعبارات الغامضة . احياناً اقترب من تكوين فكرٍ محددةٍ عنها لكنها سرعان ما تنهار اثر انفعالٍ طاريءٍ ينحشر بينها . عيناه الجامدتان تصبان زعلاً ، وتصران على تجاهل الكثير من الأشياء .. تجاهلاً نبيلاً مترفعاً . ابتسامته المبهمة الضائعة بين شفتيه الكبيرتين لم اتأكد إلى ألان منها أن كانت تهزأ أم تعاتب بسخريةٍ .. حول التخت كانت هناك خطوطاً متقطعةً حمراء تشبه الحدود المرسومة في الخرائط والأطالس ، كلما نظرت إليها تهيأت لي كانها دماءاً تقيأها رجل مصدور . اعبرها باشمئزاز ، وكان الرجل يسألني ، أو كنت أساله : هل هذه حدود فاصلة أم خطوط جفاءٍ ؟ منذ بضعة أيام رابني امره ، فقد ظل المساء يجيء ، لكنه لايجيء ، وظل تخته فارغاً ، واشتقت اليه كثيراً .. وفي مساء الجمعة الفائت كنت ذاهباً الى الصلاة في اوج حالاتي الايمانية حين صادفته خارجاً من السوق ، حييته بلهفةٍ ، ضممته الى صدري ، وأدخلته في قلبي . وحين كنت اخر راكعاً في صلاتي ، احس به يتمسك بجدران قلبي ويعتدل في جلسته، وحين استقيم واقفاً ، كان يسبقني لينهض حاملاً بكفه الضخم مشعل الإيمان وماشياً إلى الله .
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |