قصة قصيرة

كرابيت GRABEIT

محمود يعقوب

mahmood_534@yahoo.com

كرابيت : مهاجر ارمني وحيد، استوطن بلدة الشطرة، وعاش حتى مات فيها.

ليس في الحسبان، آن سبعة واربعين عاماً بأيامها الطويلة سترحم هذه الذكرى التي تاهت في صحراء الفكر الهرم وغمرة البال المشغول. حتى عادت مرة أخرى تبلل الذاكرة برفقٍ مثل وكف المطر. منذ ليالٍ قادتني تأملاتي حول وعورة الزمان وقحط المكان قوداً بطيئاً للقياها. قبل كل هذه السنين، كنت انئذٍ في الثامنة من عمري، صبي نجارٍ، اعمل في السوق. سرعان ما تفتحت مداركي، لاجد نفسي عالقاً في هذه الورطة الكبيرة التي نسميها الحياة.. لم يكن مكان عملنا مكاناً بالشكل الصحيح، إنما كان خاناً من خانات الحنطة والشعير، مفتوحاً من عدة جوانب على السوق القديم. وفي جهةٍ من هذه الجهات، كانت هنالك بضعة دكاكين، لا تجلب النظر، ولا تجلب الرزق الكثير. تغوص أطرافها السفلى في الأرض، فيما تدنت سقوفها، ورغم وفرة الضوء في ذلك المكان فقد كانت هذه الدكاكين تبدو معتمة على الدوام. وابهج ما يمكن أن يتاح للمرء رصده هنا هو منظر العشب الذي يغطي سطوحها في الربيع. في واحدٍ من هذه الدكاكين الشائخة في العمركنت اعمل بجوار دكان خمور، لا أستطيع أن اسميه حانة.. دكان وحسب.

يغص المكان بعشرات الحمالين، وعرباتهم وشجارهم الذي لا ينقطع، والحلف باغلظ الإيمان واتهاماتهم الزائفة. مثلما يغص بالروائح الغريبة المعربدة، التي لا تمتزج في رأسي أبداً.. تظل تفوح حرة وكريهةً.. ومن بينها جميعاً سأبقى محتفظاً برائحة أكياس الخيش التي تمنحني كثيراً من المعاني.. هذه الرائحة الطيبة والأليفة جداً والمشربة بالحنين العميق.

( كرابيت ) راعي دكان الخمور وصاحبه، مخلوق فاره القوام، ضخم الجثة كوحيد القرن. ولم يكن بمقدوري استساغة فكرة أن يكون رجلاً بمثل هذا الحجم رجل حانةٍ، بقدر ما يمكن أن يكون بحاراً مغامراً أفاقاً يجوب المرافيء تحت سحابة دخان غليونه الكبير.

كان وحيداً تماماً.. وحيداً بلا منافس. وكنت اعجب كيف فكر المهاجر في الوصول إلى هذه البلدة النائية.. ربما لانها يمكن ان تكون ملاذاً لغريب طيبٍ ونبيل مثله وتغمره بعطفها. ولم اره في يوم من الايام رجل حانةٍ هشاً مطاوعاً، او صاحب صنعةٍ فاتراً، بل كان رجل عملٍ حازماً، يعرف كيف يقفو احاديثه بابتسامةٍ او نظرةٍ صارمة.

ظل محافظاً طوال حياته على طريقته الغربية في الجلوس او الوقوف ببدلته الرمادية الجميلة وقميصة الأبيض النظيف، يده اليسرى في جيب السروال حاملةً جزءاً من ذيل السترة. وماكان يرفع رأسه بتعالٍ أو تحدٍ كما يفعل البعض، لكنما حركة رأسه الكبير، وعيناه الحمراوان الساكنتان، يوحيان بالشجاعة والإعتداد وبالثقة الراسخة.. يجلس في دكانه خلف دكةٍ عالية خالية من أي شي , سوى المذياع الخشبي الكبير ذي الصوت الخافت، الذي لا يرفع عقيرته عاليا إلا صوت نسائي خلاّب ينبثق من أعماق الأدغال، تاركا أوراق النبت تصطفق خلفة، ساعتها تهتز روح ( كرابيت )، ويصب الكأس تلو الكأس في جوفه، او يمتد مسترخيا على كرسيه، او يضع كفه فوق الدكة وينقر على خشبها مدندناً.. وحينها أسائل نفسي : كيف يمكن لهذه المطربة التي يطلقون عليها (اسمهان) أن تفعل كل هذا برجل ضخم مثل ( كرابيت ) لم يلحق به كسوف في يوم من الأيام.

قلت ان تاملاتي في الزمان والمكان أرشدتني إلى هذه الذكرى الطيبة، ذلك لان ( كرابيت ) كان بالنسبة الي رجلاً على شاكلة الرجال الحقيقيين الذين يصعب العثور عليهم هذه الايام، من ذلك النمط الذي يلوي عنق الزمان والمكان ويجعله طوع مزاج حياته وايماضها، فعاش كما لو انه هناك.. هناك في تلك البلاد البعيدة، طائراً منتشياً تحت غيومها السكرى !..

وقد ذهبت إلى القول أيضاً، انه رجل عملٍ حازم، تستطيع أن تمازحه بكل أشكال المزاح، ولكن اياك ان تمس عنوان مهنته، كان حساساً لهذا الامر الى درجة الهيجان. وتخيل اذا هاج وحيد القرن.. فلسوف تلقاه بالف قرنٍ..

وحدث عصر يومٍ قائظ، ساكنٍ، إن كان يوحي بشيءٍ، فلا يوحي الا بان الزمن مقفول قفلاً محكماً.. كان ( كرابيت ) يجلس على كرسيه الثقيل أمام دكانه، بلا سترةٍ، والتي نادراً ماكان يخلعها، ماداً ذراعيه على طول المسندين، ورامياً بكامل ثقله الى ظهر الكرسي الخشبي. وعيناه اصطبغتا بلونٍ احمر.. أثارتا الشك في نفسي انه افرط في الشرب..

يتعمد ان يناديني دائماً باسم أبي، رغم اعتراضي على ذلك وتنبيهي المتكرر له، وفي الحقيقة لم تكن لهذا الرجل طلبات كثيرة. وكما اعتاد صاح بي بصوت متحشرج : يعقوب.. تعال.. اغسل يديك جيداً.. واجلب طاسة ماء فيها فص ثلج كبير وقدح شاي. وهكذا مثل كل مرة اقصد مقهى الحمالين القريب..

جلبت له هذه الأشياء، ووضعتها أمامه على منضدةٍ صغيرةٍ جداً مطلي سطحها بالفورميكا البيضاء. وقد لاحظت إن بعض الشاي انسكب من بين يديه على المنضدة، وهذا ماأكد ظنوني بان الرجل قد عبّ الكثير من الخمر. حدث هذا قبل المساء بقليل، وصادف إن مرّ شاب أحمق كثير المزاح ضرب ( كرابيت ) على قفاه، ضربة مزاح، وقال له : ماالذي تفعله أيها السافل ؟.. وقبل ان يخطو بضع خطواتٍ نهض ( كرابيت ) منفعلاً وصرخ به ان يتوقف، فتسمر في مكانه بشيءٍ من الخوف وكثير من الإرتباك. مدّ (كربيت ) ذراعه الى الامام واخذ يشير بطرف سبابته، يأمر الشاب ويطمئنه : تعال.. لاتخف.. تعال. توقفت عن عملي ورحت اطيل النظر الى ذلك الاحمق الذي تغمره الرغبة في الهرب، ولم يكن قادراً على فعل ذلك أمام انظارنا.. وحاول ا لشاب ان يعتذر..الا ان (كرابيت ) لم يعر لذلك بالاً، سوى انه طمأنه اكثر وطلب منه التقدم نحوه..

كنت اعتقد إن صاحب الحظ العاثر هذا قد وقع بين حافر (كرابيت ) الخشن ونعله الحديدي، وكنت واثقا انه إذا تقدم خطوات سوف يتحطم حتما 0لكن شيئا من هذا لم يحدث، إذ تقدم الشاب متردداً نحوه، بينما تحرك ( كرابيت ) عن كرسيه موسعاً له المجال، وطلب منه برزانةٍ أن يجلس محله، بقي الشاب متردداً، ثم اضطر تحت ضغط الإلحاح أن يجلس أخيراً. رفع ( كرابيت ) طاسة الماء وقدح الشاي عن المنضدة ووضعهما فوق دكة الدكان، وردد بعبارة آسف (( أنا سافل ؟.. أنا سافل ؟.. ماذا تضنون ببائع الخمر ؟ )). أسرف الشاب بتقديم الإعتذار، ولكن يبدو ان الامر ليس أمر الإعتذار. وقف ( كرابيت ) فوق رأسه مثل المعلم الصارم واشار اليه برجاءٍ متكرر ان يكتب تلك الكلمة التي نعته بها على المنضدة الصغيرة، غير ان الشاب لم يتجرأ على فعل ذلك.. واستمر هذا الأمر بضعة دقائق حتى وضع الشاب اخيراً إصبعه في بقايا الشاي المسكوب على سطح الفورميكا وكتب ( سافل ). اما ( كرابيت ) فقد هز رأسه هزات خفيفة، ودخل دكانه وخرج حاملاً اناءً مملوءاً بالنقود، التي كانت يومها نقوداً معدنيةً، من مختلف الفئات، ثم انحنى وسكب هذه النقود فوق تلك الكلمة وقال للشاب : هذا عرق جبيني.. اقرأ ما مكتوب تحته. نظر الشاب إلى النقود باستغراب وقال : لا أرى شيئاً تحتها. وظل يحدق بالنقود صامتاً، واكد كرابيت طلبه قائلاً : إلام تنظر.. اقرأ إن كنت ترى شيئاً مما كتبته.. وعاد الشاب هو الآخر يؤكد قائلاً : لا أرى شيئاً مطلقاً.. هز كرابيت رأسه مجدداً، متمتماً بضع كلماتٍ مبهمةٍ، اعتقد اليوم إنها عباراتٍ من لغته ألام. بينما ظل الشاب غائصاً في الكرسي والدهشة ترتسم على وجهه الأبله وذراعاه على المنضدة الصغيرة تلتفان حول بقايا كلمته..

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com