قصة قصيرة

رائحة الاب

 علي حسين عبيد

alihubeid@yahoo.com

استلقى الطفل على البساط المستطيل الذي غطى جزء صغيرا من ارض الغرفة الواسعة والقى براسه في حضن امه وراح يحدق بصور الكبيرة المعلقة على الجدار المواجه له بعد لحظات من استغراقه في الصور احس بكف رقيقة حانية تتسلل الى شعر راسه كانت كف امه دافئة واحيانا يلم بها برد قارس ولكن هي مع ذلك تمشي بتان فوق راس الطفل كانت تشعره بحالة من الصفاء التام لدرجة انه كان يخلو من الصورة التي تتوهج امام عينيه فيبدا يتمعن ملامحها ثم يحدثها عن اشياء كثيرة حدث في السابق كان الطفل يستغرب صمت الصورة برغم من انها علقت بهذا المكان منذ اعوام ومع ذلك في لحظات الصمت والتركيز كان يراها تتحرك كما لو ان حرارة الحياة قد دبت في اواصالها فجاة العينان الكبيرتان كانتا تنظران اليه برافة عميقة وكانتا قويتين لدرجة ان الطفل كان يرى فيهما بريقا وامضا يؤكد ان الموت بعيد عنهما الشفتان كانتا تبدوان ساكنتين ولكن بعد لحظات تتغيران فيلمح الطفل فيها ارتعاشا ولونا احمر شفيفا ما يلبث يتكاثف ثم تبداى الشفتان بالتحرك لتخرج منهما كلمات واضحة سخية حتى ان الطفل كان يكركر فجاة فتضحك امه معه كانت الشفتان تضحكان وحينها تتغير ملامح الصورة ليبدو الوجه جميلا قويا برغم من انه محاصر باطار مربع صغير من الخشب المزخرف ويبقى الطفل على حالته هذه حتى وقت متاخر من الليل اذ كانت انامل الكف الرقيقة تتباطا ثم تغفو فوق شعر الراس كانت امه بين الحين والاخر تغمض عينيها وتنام ولكنها برغم ذلك لاتبعد راسه عن حضنها وحين تستلقي على البساط وتضع راسها على وسادة لينه تحرص على ان يبقى راس الطفل بين يديها في هذه الليلة وفي لحظات الصمت التي اطبقت على البيت بدا الطفل يحدث اباه ساله لماذا تاخرت يا ابي اعوام وانت تطل من خلف زجاجة صغيرة بلا صوت او حركة لكن الطفل بوغت بالعينين وهما تتحركان وحينما فتح الطفل عينيه فتح الطفل عينيه على وسعهما وشرع يحدق بالصورة التي بدات تضحك وتتحدث معه ثم توميء اليه فحاول لطفل ان ينهض من حضن امه كان يود لو ان الصورة تتقدم اليه تفتح له ذراعيها وتحتضنه انه لايمكن ان ينسى تلكما الذراعين القويتين اللتين كانتا ترفعانه من الارض وتشد انه الى صدر عريض واسع وحين يلتصق بالصدر يستنشق رائحة مميزة لايجدها في الاجساد الاخرى في البدء كانت تغزو انفه ثم تتشرب الى رئتاه انه لايطلب اكثر من هذه الرائحة الزكية ففي اوقات كثيرة مضت كان يركض الى ابيه ليجد ذراعين مشرعتين تتلقفانه وما ان يجد ان جسمه الناحل ملتصقا تذكر رائحة الاب تمنى لو يستنشق طيبها مرة اخرى مرة واحدة وينتهي كل شيء تخلص من امه برفق نهض واقفا حملق بالصورة كانت على مسافة قريبة منه تاكد انه مازالت تبتسم اليه وتفتح ذراعيها افرد الطفل يديه لم يتردد كانت فرصة ربما لاتتكرر مرة اخرى ركض بخطى لاهثة سريعة وحين اصطدم بالجدار كانت الصورة تتعلق فوق راسه بعيد عالية صامتة مد يدها اليها حاول ان يمسك بها لكنه لم يصلها تراجع الى الخلف قليلا نظر الى الصورة فلم يرى فيها غير الصمت كانت الابتسامة قد انطفات فجاة والروح التي مشت في ملامح الوجه قد تجمدت فعادت الصورة الى ما كانت عليه شعر الطفل بخيبة كبيرة واستدار الى الخلف ليرى امه تقف خلفه بكامل قامتها افردت ذراعيها له فركض اليها وتعلق بصدراها وراح يشم فيها رائحة نقية عزيزة لكنها لم تكنم تشبه رائحة الاب .  

وفي الصباح اشرقت الشمس بابهى صورة لها ونفذت عبر النافذة الى الغرفة الواسعة فاضفت عليها ضوء محببا الى النفس كان الطفل قد تم ارتداء ملابسه وتناول الفطور الذي اعدته الام حمل حقيبته المدرسية وخطا نحو الباب الخارجي للبيت وقبل ان يخرج ركضت امه وراءه وامسكت به تذكرت احداث الليلة الماضية ودت ان تبقيه معها في البيت لكنها لم تفعل دست رغيف الخبز اللين وبيضة مسلوقة في جيب حقيبه وقالت له ولدي اذا بدا القصف اترك الصف واختبيء في أي ملجا قريب نظر الطفل اليها بدهشة توزعت مساحة وجهه ثم تبسم لها وغادر البيت.  

كان اسفلت الشارع يلتمع تحت اشعة الشمس وعلى جانبيه ترتفع بنايات عالية وفي الطابق الاسفل منها المتاجر والدكاكين قد بدات تفرد ابوابها وثمة اطفال يتقافزون ويركضون الى مدارسهم واجسادهم كثيرة لرجال نساء كانت تتجه الى اماكن متفرقة وسيارات كبيرة وصغيرة معباة بالناس كانت تتخاطف فوق اسفلت الشارع وعلى الرصيف الايمن كان الطفل يخطو هادئا رائقا الى مدراسته لقد نسي وهو في لجة اللغط المتواصل والحركة التي لاتتوقف احداث الليلة الماضية وحين وصل الى المدرسة راى اجساد التلاميذ الصغار تتدفا تحت اشعة الشمس في ساحة المدرسة واذ اعلن الجرس عن بدء الحصة الاولى ركض الطفل الى صفوفهم كانت مقاعد الصف الخامس قد امتلات بالاجساد الصغيرة سوى مقعد الطفل الذي وصل قبل قليل فقد كان جسده مكورا ملموما في ملجا ارضي بعد لحظات غص الملجا بالاجساد الصغيرة التي بدات تتكدس فوق بعضها كان الدوي في باديء الامر بعيدا واهنا لكنه مع مرور الوقت بدا يشتد حتى ان الملجا كان يهتز مع حدوث الانفجار فتختض معه اجساد الطلاب وترتطم بعضها ببعض كان القصف يقترب شيا فشيا من المدرسة يتفجر يتعالى الازيز اما الطفل فكان يدفع بجسمه الى الاجساد الصغيرة وهي ترتجف في لحظة دوي انفجار قريب صاخب فتهشمت نوافذ الصفوف وتشظى الزالى قطع صغيرة وبدات تعلو من فوق المدرسة سويرة غبار مالبث ان تحولت بعد ذلك الى ذيل دخاني بدا يتصاعد يتلاشى في الفضاء وقتها كانت الاجساد تلتق ببعضها وحين هدا القصف وخمن المدير انه سكت تماما تركت الاجساد ملاجئها وراحت تنفض عنها الغبار الذي علق بها دخل الاجساد صفوفهم كالعادة لكن الطفل ظل في ملجئه بجسم قصير مرتعش تذكر كلمات امه قبل ان يترك البيت ثمة فرحة مفاجئة اخذت تحتوي راسه الصغير انه مازال حيا سيرجع الى البيت سيرى امه مرة اخرى وقبل ان ينهض غزة انعه رائحة ندية طيبة انها رائحة التراب الندي البارد في داخل الملجا انتصبت امام عينيه صورة الاب تمثلها تذكر احداث الليلة الماضية فاستقام في الملجا ليرى الشمس تنثر ضوئها فوق الاشجار ترك الملجا نسي حقيبته في المدرسة ولهث نحو البيت كان يركض بذراعين مفتوحتين وحين تتعب ذراعيه يسدهما الى جانبيه لكن سرعان ما كان يرفعهما مرة اخرى كجناحين صغيرين وهو يركض لاهثا نحو البيت   

عند رأس الزقاق توقف الطفل صفعت عينيه تلك الاجساد الكثيرة التي تكدست وسط الزقاق تفحص البيوت واحد اثر اخر ربما توهم فبيتهم ليس الزقاق خطا الى الزقاق الاخر تفحص البيوت التي تتقابل على جانبيه فلم يعثر على بيتهم عاد الى الزقاق الاول تنبهت له امراة مسنة كان يعرفها ركض اليها سالها عن هذا الحشد الذي يتكون قرب بيتهم اخذته المراة العجوز بين يديها تلفت الطفل قال العجوز:

ـ اريد ان اذهب الى البيت  

نشجت العجوز فجاة وشدت على جسمها النحيل حاول ان ينهض لكنها تشبت به واعطته قليلا من الماء لم يشرب لم يكن بحاجة الى الماء تحدثت معه لكنه ظل صامتا وفي لحظة تملص منها وهرب نحو بيتهم وقف امامه مذهولا صامتا ركض الى الباب المتهاوي على الارض واذ ولج الباب كانت ثمة اجساد طويلة تعتلي الطابوق المتكوم فوق بعضه تراجع الطفل ربما لم يكن بيتهم لكنه في لحظة لمح الصورة الكبيرة وهي تنظر اليه من خلال الغبار الذي علا زجاجتها تسمر في مكانه تذكر امه بحث عنها سال عنها فراى صورتها تجلس الى جانب ابيه بحلة جديدة بيضاء تحركت العينان الكبيرتان تفتت الاطار الخشبي المزخرف وانفردت ذراعان قويتان ركض الطفل نحو ابيه تعلق بصدره وراح يستنشق رائحة عزيزة مميزة.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com