قصة قصيرة

شراع لمركب ألخريف

محمود يعقوب

mahmood_534@yahoo.com

من اول ساعة يوم اكتحلت عيوني بها,شدتني اليها تلك الابتسامة الملائكية الغامضة, التي لاتغيب عنها ابداً,لقد اجزمت لها امام الجميع بأن الله ,وفي مراسيم سماوية حافلة,رسم لها تلك الابتسامة ثم علم دافنشي,بعد ذلك ,كيف يرسم مثلها للموناليزا!..

لم تكن غمامة التراب التي رمت بي الى باحة المدرسة تدري إنها أفضت بي الى حافة الجليد ,ولم تكن تلك السيارة الروسية الصدئة التي حملتني مثل كيس من اكياس الريفيين لتعرف إنها أودعتني ألى اجمل طائر بطريق في الدنيا كلها..بل انني ألاخر لم يدر في خلدي وأنا الج تلك ألمدرسة ألريفية ألبعيدة حاملا أمر تعييني إنني سأجلس تحت ألوان الشفق القطبي ألساحرة واطيافه البهيجة..

كانت معلمة كبيرة السن,مرت بضع سنين على وجودها هنا قبل مجيئي.تنضح طيبا وبراءة بلا حدود.. عاشت معنا بعيدا عن المسرح والتمثيل ,هكذا كما اطلق الله الروح في طينتها ألطاهرة .كنت اراقبها كثيراً وهي تمضي الى قاعات الحصص الدراسية,سمينة وقصيرة,تنزلق ببطءٍ شديدٍ أمامي في حركة تشبه الى حد كبير البطريق .وطالما ارى الصبية يحاكون سيرتها ببراءة .كانت ملاكاًبهيئة بطريق.

تقاربت بسرعة عجيبة منها وعملنا معاً فترة طويلة فاتت مضمخة بالجهد والتعب أورثتنا علاقه صميمية لاتنسى .وقد فاجئتني في يوم ما,حين أعدت طلبا تلتمس فيه إحالتها الى المعاش, متذرعة بكبر سنها ومرض زوجها!.. وبمثل تلك الابتسامة السماوية الغراء ودعتني ألبطريقة.

مرت سنوات على ذلك انقلب فيها حال الدنيا ,ولم نعد نرى بعضنا,إن لم نكن قد نسينا .. حتى أثارت غمامة تراب كثيفة مسرعة نحو بوابة المدرسة إنتباهي عبر شباك الصف ..ولم اصدق عيناي حين فتح باب السيارة وترجلت منه البطريقة بصعوبة .وألاغرب من كل ذلك إنها وحين هرعت لآستقبالها بادرتني بورقة كانت تحملها ,ولم تكن سوى امر اداري بأعادتها الى الخدمة في نفس المدرسة!..

اّذهلني ذلك الى حد السكوت,فقد وجتها إمرأة ذاوية كمساء شتوي قارص ووحيد .. وقفت قبالتها اتفرس ضعفها ..امرأة لفضت همتها وعزيمتها وأحرقت كل خزينها لتدفيء نفسها في ذلك العراء القاحل الممتد عبر سنين الجدب والحرمان.أدركت هي حرجي فتحاملت علي قائلة:

-تذكر انك قلت يوماً \"إن ترك الخدمة في ألحكومة ,صعب مثل الانخراط فيها \"*.

كان حالها رثا, غام بريق عيونها تحت سحاب رمادي خفيف وكئيب,فيما زحفت الصفرة من أسفل عينيها مكتسحة اللون الوردي لوجهها .وجلست قبالتها ابحث بأستغراب عن تلك الابتسامة..تأملتها طويلاً وطويلاً,غابت هذه الابتسامه بعد كر الايام عليها,وأثقلت روحهها وأسكتت قلب زوجها وتركتها وحيدة ..كانت مجللة بالسواد,في حين لفت رأسها ومعظم وجهها بفوطة بيضاء يتدلى طرفاها ألطويلان على صدرها ,وصارت تسير ببطئ اثقل ,لقد عادت بشكل او بأخر انثى بطريق ميت مفردة في صحاري ألثلج!.. كنت متيقناً من ان الفاقة والعوز هو الذي عاد بها مجددا ,ولكن أنى لهذا الحطام من الصمود طويلا..

اخذ مزيج من مشاعر شتى يعتمل في صدري اثر عودة بطريقتي العجوز , مشاعر متباينة إضطمرت في داخلي بحدة, ربما لرفاهة حسي ,او ميلي الى المبالغة العاطفية اغلب ألاحيان .

مشاعر من التذمر والغيض والحزن والحنق,تركت في نفسي احساسا عارماً بالضيق.. ضيق راح يدفعني دفعا حثيثاًلكي أتناول ورقة حررت فيها طلباً لاحالتي الى المعاش!..

وهكذا,بعد ان تمت الموافقة على طلبي,ودعت بطريقتي.. وقد حرصت ان اودعها بثبات ,فليس من الحكمة ان اكتب سطراً أخراً في دفتر حزنها وأمضي... لذا أشرقت عيوني وشفتاي بأبتسامة زائفة وانا امد لها كف الوداع ,فيما كان جسدي من اسفل ربطة العنق وحتى جواربي ينز دمعاً خفياً.

خطر في بالي ذلك التأريخ كله في لحظات وأنا جالس هذا المساء امام شاشة التلفاز ,الذي كان يستعرض فلماً تسجيلياً عن سفينة شحن نفط جانحة,تسرب نفطها ملوثا السواحل الباردة في اقصى الشمال .رأيت اناساً يحملون طيور البطريق الملوثة ويغسلونها في أنية كبيرة كالاطفال,ثم يعيدونها معافاة الى الساحل ,وقد افعمت نفوسها إطمئنأناً وقلوبها دفئاً بين أولئك الحماة الطيبين ..ثم راحت الكاميرا تبتعد عن الساحل على مهل كاشفة عن فلاة أخذت تتسع أمام ناظري يشع ثلجها بلون رمادي شفيف ,والريح تعوي في هذا العراء الذي ينث ثلجاً يضيف الى هذا المنظر ضبابية .

وفي خضم هذه اللوحة الثلجية الكئيبة تهيء لي انني ارى بطريقتي العجوز تدب بخطى مترنحة مخلفة على الجليد وراءها أثرا بالنفط الاسود.

تفاقم شجني وهزني الآسى فصرخت من اعماقي منادياً بأسمها فدار صوتي مدوياً في تلك الاصقاع المثلجة حتى اوقف بطريقتي, فألتفتت وراحت تدنو بوجهها حتى ملآ شاشة التلفاز, وحيتني بحركة رقيقة من اصابعها وهي تبتسم لي وللمرة الاخيرة بتلك الابتسامة الملائكية, ثم دارت ودرجت تنأى حتى غابت الى الابد!..

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com