|
قصة قصيرة تاريخ منقوع بالخل محمود يعقوب مرة أخرى..تناهى لسمعي طرق خافت على الباب,في جوف ليل بارد مظلم,مداهن,اسدل ستائره وأقفرت طرقاته وغاصت مقاعده بالوحشة والصمت الثقيل.نهضت محترسا متوفزا..وخلف الباب الموصد تساءلت بشيء من التردد:-من؟ورد علي صوت جاهر مترع بالبساطة:-صديق.فتحت الباب بحذر مستلطعا هذا الزائر..اية لحظة ملوكوتية كانت تلك اللحظة!..وأي زائر طواه جنح الليل وحطه عند بابي ..تسمرت إزاء هذا البهاء العجيب,والوقار السماوي الذي يطل علي من فرجة الباب,ويسكب علي سيلا من الدهشة,ويلفني بصمت مربك,وفيض من الاسئلة يتنامنى في داخلي ويموت,ثم لايلبث ان يتنامى مرة أخرى!.. كان الشخص بهي الطلعة,ذو وقار مهيب..يحمل تاجه الذهبي بين يديه,وقف يتفرسني بطيب كأنه صديق حميم اشرق وجهه بابتسامة ودودة وقال\"مرحبا سيدي.وكان طويلا ضخما,يرتدي جلبابا ذا رونق بهيي,ولحية مسرحة بشكل عجيب وبعناية فائقة,يلف شعره حول رأسه ثم يطويه الى الخلف بتسريحة جميلة.. كنت اتامله مأخذوا به,ولاادري ان كنت قد اجبته ام لا..فقد جف حلقي وكان صخرة تلجمة..واردف يعرفني بنفسه:-\"انا ملك (لارسا)وسيدها المقدس\". توسعت حدقتا عيني وتقطب جبيني ورفعت راسي وخفضته بضع مرات,ولم أكد انبس بشيء ما.\"ارتد ملابسك أيها السيد وتعال معي فالامر خطير جدا\"..ودون ان يترك لي فسحة من التفكير غبت عنه لدقائق وعدت اليه بثياب الشرطة.وما أن راني بهذا الزي حتى ابتسم تقديرا لفطنتي.ووجدت نفسي منقادا لهذا الموكب الملكي.فقد كانت هناك عربة اركنت قرب البيت,ما ان دنوت منها حتى طلب مني جلالة الملك ان اصعد اليها واجلس الى جنبه.كانت العربة مجللة بالذهب والفضة بينما وقف خلفنا حارسان يحملان رمحين طويلين.وجلست جنبه تداهمني الهواجس وشتى الفكر,وأصابع يدي تعصر بعضها البعض.. انزلقت العربة في الظلام مبتعدة عن المدينة..في حركة ترتج لها الاجساد,وتجعل كل منا يميل باتجاه صاحبه تارة,وتقذف بجسده الى الجهة المعاكسة تارة اخرى.كان جالسا جنبي بجلبابه ذو الألوان الخريفية الغني بالأهداب والطرز الذهبية.بثقة ملكية مطلقة وهدوء عميق ينبعث من داخله.وباتت المدينة تنأى عنا ونحن ننحدر جنوبا..سالكين طريقا بريا خاليا من كل شيء..وفي السماء كانت قطع كبيرة من الغيوم تتراصف ببطء..ولم نعدنسمع سوى جلجلة العربة ووقع السنابك..بينما كان عبق البرية يملأ صدورنا. وبالرغم من ان الحكومة خلقتني بانياب حادة ومخالب طويلة,متوخية همتي,ولكنما وريد يصعد بالدم الى قلبي وشريان ينزل به,قيداني وافسدا علي شهوة الافتراس,فعشت رجلا عشبيا طوال خدمتي عندها.سلكت في الشرطة ثلاثون عاما..امي لاافك حرفا عربيا كان ام سومريا.شر طي بكل ماتحمله الشرطة من نخوة وخلق رفيع..وكنت الشرطي الوحيد في بلادي الذي رفض كنية (ابو اسماعيل) وبقيت مصرا على اسمي الحقيقي وكنيتي..في السنوات الاخيرة..صرت واحدا من أحد عشر شرطيا تم انتدابهم بغباء سافر لحماية اطلال (لارسا)من لصوص الآثار وتجارها.وفور اصطفاؤنا لهذا الأمر اكتشفت اننا زمرة صغيرة من كبار السن غير قادرين على حماية هذا الموقع فعلا.ومع الايام صار الجميع يعي ذلك جيدا..حتى اذا مادب اليأس في همتنا,انقسمنا إلى فريقين..واحد ينام عند اهله والآخر في الأطلال!.. ولا ادعي أننا قد تنصلنا عن شرف الواجب..لكنما جدوى عملنا لم يكن ذا نفع..حتى تفشت الشائعات الظالمة على أننا شركاء اللصوص أنفسهم. بهدوء ضغط الملك على ركبتي التي تجاوره ليفك اسار شرودي وقال\"قريبا سوف نصل..وتعرف جيدا لماذا جئنا بك الى هنا.ومرة أخرى يطوف القلق في داخلي وانا أتساءل:ما الأمر الخطير الذي جائني من اجله هذا الملك الجليل؟..والى أية أقدار يحملني موكبه المهيب ؟.بعد مضي زهاء ساعتين من الوقت شارفت العربة على أطلال (لارسا)وقد أخذت بالانعطاف نحو تلال صغيرة سرعان ما عرفت ان هناك منفذ سري وقف عنده حشد من الجنود يحملون مشاعلهم وقد أخذوا يحيطون بالعربة التي راحت تتوغل في أحشاء هذه المدينة.وأمام قصره الجميل,توقف الموكب,وتلفت الي جلالة وربت على كتفي وطلب مني الترجل قبله.وعند باب القصر التف حوله نفر من الجنود عرفت انهم قادته الابطال.وبعد أن تحدثوا أليه قليلا أشار الي وقال:هل تسمع شيئا فوقنا؟رفعت رأسي الى الأعلى مرهفا السمع وقلت له على الفور:نعم:نعم اسمع اصوات المعاول والرفوش.قال:نعم نسمعها جيدا كل يوم وبحسرة أردف:لقد وصلت معاولهم الى لحومنا وعظامنا.سوف تكون شاهدي وشريكي.وبدهشة تساءلت :أنا سيدي؟فاجاب بسرعة نعم انت..ولم لا؟اولم اراك تحمل تمثالا هشمه اللصوص وانت تبكي حرقة واسى.. وتحضنه كتمثال ابيك ؟قلت :بلى سيدي .اليوم يومك ايها الشرطي المجيد.قال ذلك واشار الى قائد بهيئة جبروتية وأمره بصرامة:\"قد جيشك وأبدا صولتك حالا وليكن هذا الشرطي الى جنبك.لم يتسن للقول والرد أية فسحة..فسرعان ما وجدت نفسي محشورا الى جنب هذا القائد في عربته الحربية التي انطلقت بسرعة صوب لصوص الاثار . وبصولة حاسمة فاصلة دمرت تلك الزمر واسرنا أكثرهم..واقتدناهم الى داخل الأطلال بموكب تاريخي مذهل لم ار مثله الا في مسلاتنا الخالدة.. فقد جردناهم من كامل ثيابهم وكبلوا بالأغلال وربطوا الواحد الى الاخر,وكنت أتقدمهم أقودهم خلفي بخيلاء وانا سابح بامطار النشوة الغامرة. واثر هذا النصر الأكيد..عدت لا أذوق حتى طعم النوم لفرط نشوتي وسعادتي.لقد عم الخبر,وعرف الناس جميعا أمر اختفاء السراق ومقتل بعضهم واقبلوا علي إقبال الظافر المنتصر حتى صار اسمي لايذكر الا مقرونا بالتبجيل.ووحدها الحكومة المحلية شككت بهذا الامر,بل كذبته علنا معتبرة ان ذلك محض هراء,مدعية أن مجرد وجود الشرطة عند تخوم(لارسا)من شأنه ان يحول بينها وبين اللصوص ابدا.. مضت على هذا الحادث عشرة ايام بالتمام,حين قرع بابي قرعا سريعا في اول الصباح ليوقظني أحد أقاربي الذي هرع الي ملهوفا وقادني بثياب النوم الى وسط المدينة,ليوقفني امام نصب حجري كبير..كان عبارة عن مسلة نحتت بإبداع على الطراز السومري الأصيل تصور اولئك السراق والتجار وهم مصفدين عراة مدحورين وانا اقودهم,كان تمثالي قد صور جانبيا وفيه انفي يبدوا بارزا بشكل مبالغ فيه نوعا ما..وقد اخذ الناس يحتشدون متطلعين الى النصب وساخرين من اولئك السراق الذين كانوا يعرفونهم تماما.لقد ادهشني وجود المسلة في هذه الساحة أيما دهشة ورحت اتساءل كثيرا حتى عرفت من بعض الناس انهم شاهدوا رجالا بملابس واسلحة غريبة قدموا في جوف الليل من جهة(لارسا)واتموا وضع النصب هذا في الساحة ليلا.توج النصب مجدي الزاهي هذا,وصرت أزوره كل يوم أتفحصه باعتزاز.وحين كنت اتامله كنت اتذكر أولئك الشياطين وكيف كانوا يأكلون التاريخ بتلذذ واستمراء. ولم يمض على ذلك سوى بضعة ايام اخرى حتى,فاجئني قريبي ذلك بقرعه الباب مرة اخرى.جاءني بغاية الاضطراب ليصطحبني الى مكان النصب لأجده قد سرق بكامله,لقد اختفت التماثيل كلها ومعها تمثالي,ولم يتبقى منها سوى قاعد النصب.والأدهى من ذلك ان الناس كانوا يعرفون من الذي سرقها بل لقد جزم بعضهم بعد أيام قليلة بان التماثيل قد عبرت الحدود الى خارج البلاد.وقد انقبضت أسارير الناس لهذا الحادث القاتم. وتبرعم احساس في داخلي سرعان ما اوقد مشاعري ورج دمائي,فدب النشاط في جسدي وصرت أتسكع في شوارع المدينة على غير هدى حتى عدت متأخرا الى بيتي بمزاج رائق تماما. ومرة أخرى..تناهى لسمعي طرق خافت على الباب,في جوف ليل بارد مظلم مداهن,اسدل ستائره واقفرت طرقاته وغاصت مقاعده بالوحشة والصمت الثقيل...نهضت محترسا وفتحت الباب لأرى جلالة الملك قد عاد الي متجهما حزينا متسائلا بإحباط:ارايت ما فعلوا؟..كانت المشاعر لم تزل تجيش في روحي الطافحة بالبشر,حتى لم اعد قادرا على كتمان فرط سعادتي ,فقلت له وانا اوسع الباب ليمرق منه :سيدي ..ان روحي تغرق بالزهو وأنا أرى أولئك الذئاب عراة مصفدين تستعرضهم الأقطار..مزهوا بتمثالي الشامخ وانفي السومري الكبير وهو يعبر الحدود حدا حدا.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |