قصة قصيرة

الاصبع الخامسة

محمود يعقوب

mahmood_534@yahoo.com

اعتقد ان مسحة خفية من السحر الشرقي تموه دكة باب البيت عندنا,فعلى مقعدها تشف الالغاز وتتهلل الاسرار,وعلى مقعدها يصفو المزاج ويروق كثيرا!وعصر هذا اليوم افترشتها مع طفلي الصغير الذي انهمك في أكل الذرة المطبوخة...وبعد أن أتم ذلك ناولني الكيس فارغا.في لحظة صفاء...فألفيته كيسا ورقيا,بدائيا,مصنوعا من الورق التالف,وملصوقا بنوع من الصمغ الواهن...

تأملته أكثر وأكثر...كانت ورقته مكتوبة بالحبر الجاف.ورقة على مايبدو هي جزء من دراسة تربوية,كتبت بخط جميل منور...مرصوف على الأسطر بقوة وبثقة عالية.ولأني أعيش في مدينة صغيرة..بحجم الحبة...فسرعان ماتذكرت كاتب هذا الخط,ذلك لأنه كان صاحبي وزميلي في العمل...عملنا معا في مدرسة واحدة بضع سنين,صارفيها محط اعجابي ومثار اهتمامي...كان رجلا يعد معد عشرة,حيويا لايكل,كرست حياته للعمل بتفان..وقدعرفته بجدية بحوثه وميله الى النشر والمتابعة...غير ان زحمة الفقر,وشدة العوز,خلال سنوات الحصارالمضنية كانت قد باعدت بيننا كثيرا ..وكان أخر عهد لي به عندما تقاعد وترك العمل بعد ان وجد نفسه عاجزا عن اعالة اسرته...واثر تأملاتي هذه..وضعت الكيس بين راحتي وفركته حسرة..فإذا بدخان شفاف جعل يتصاعد من الكيس!وما لبث حتى تكاثف وانتشر أكثر...دخان أبيض مزرق,راح يدور حول نفسه دورة لولبية تسارعت تدريجيا وزادت قوة وانتشارا!

ومن خلال سجف هذا الدخان,بدأت صورة شخص تتبلور وتتضح امام ناظري شيئا فشيئا!صرت وصغيري حجرين بعيون شاخصة, مذعورة,مذهولة...وحين تفشى الدخان وتصاعد بعيدا وانقشعت ظلمته,طار علينا من ثناياه جني بقامته المديدة وصلعته الكبيرة,تقدم نحوي وحياني بابتسامته العريضة,فإذاهو صاحبي هذا نفسه!وإزاءهذا المشهد الخيالي الرهيب, كان طفلي ممسكا بي مرتعشا ودافنا رأسه في خاصرتي.

بينما كنت مرتعدا لم أفق حتى على تحيته.وسرعان ما أوسع له مجلسا على الدكة جنبي,وجاذبني الحديث وهو يهدئ روعي, بينما كانت يده تمتد من خلفي مداعبه طفلي وهو يسائله بلاطفة وحلاوة.وبعد دقائق ليست طويلة عدت الى هدوئي وامسكت زمام أموري...وصرت ألتفت اليه وأحدق فيه مليا...فقدشاب بوضوح وتنازل عن زيه الرسمي وبات يلبس الثوب والنعل الشعبي,في الوقت الذي تدلت من يده مسبحة كبيرة صفراء,تسمع طقات عالية لحبات خرزها المندقلة من بين اصابعه..استجوبته عن وقته الثمين وكيف يتصرف فيه..فألتفت الي وصب ماء الدهشة باردا على هامتي,لجوابه:\"لم يعد للوقت ثمن..أستهلك وقتي برمته في مقهى عتيق..قرب سوق الصفارين,أحتسي الشاي وأجتر أحاديثا تافهة...\"قال ذلك ووجهه اللطيف يشرق بابتسامة خافتة.قلت مستفهما:\"والعمل الذي تقاعدت من أجله؟\"

\"أي عمل؟..جربت أمورا كثيرة...ماذا بوسع الفقير ان يفعل؟\"سكن سكونا يغمره الهم,وأدركت اني أثقل روحه بهذه الأ سئلة,فعدت أتصفح الماضي معه...نهضنا, بعد ان أستأنسنا وقتا,وعدنا باتجاه بيته,وكان الغروب اخذ يظلل الطرقات,حتى إذا شارفنا البيت أصر وأنا أحاول أن أودعه ان ادخل معه.وحين دلفت صالة البيت, استوقفني كدس ورق مطروح في وسطها,والى جوارها قدر متسخ تبعثرت حوله قصاصات كثيرة..وكان أبناؤه منهمكين في العمل...وهنا عرفت انهم يصنعون الأكياس الورقية...تساءلت باستغراب:\"هل تكسبكم هذه الحرفة؟..\"فأجاب بنوع من الغموض:\"يعني..\" فقلت:\"ماذا تقصد بيعني؟..\" فقال:\"انها توفر لنا بعض الغذاء..\" قال: \"انتهت ياأخي...انتهت..لم تعد لي أية أوراق..كل شيء صار أكياسا..الكتب,المجلات..البحوث والدراسات..لم يعد أحد يشتري ذلك...ان الناس تشتري مايلصف من الاسماء ويبرق...وداوم في كلامه طويلا وقال أشياء كثيرة,فهمت منها انه شأن الكثيرين غيره منسي ومغيب...منسي الى الحد الذي نسي هو فيه نفسه..قال اشياءا كثيرة الى الحد الذي رسمت فيه السخرية ظل ابتسامة تحت شاربيه المهملين.تلك المرارة كانت دفقة قيء صبها,فتوقدت في احاسيس الغثيان ومشاعر الظلم!..وعقب العشاء البسيط ودعني عند الباب,وعدت ادرإجي,وفيما انا أقطع الزقاق المظلم الطويل,أحسست بحركة خفيفة في جيب قميصي,لم أعبأ لها أول الأمر ولم أكد اسير طويلا حتى عاد وانتفض جيب القميص بقوة,فمددت يدي برهبة وأخرجت منها الكيس الورقي,وحين وقفت أفضه اذا بزوبعة الدخان ذاك تنزل نحوي من السماء كالإعصار وتخبئ في الكيس خلال لحظات خاطفة,ثم ما لبث حتى هدأ كل شيء!..أما أنا فقد أضطرب في كل شيء..

وقفت حائرا..ويدي المرتعشة تمسك بطرف الكيس...عاجزا لا ألوي على شيء وفي لحظات الخوف ارتخت أصابع يدي وسمحت للكيس أن يفلت ويهوي الى الأرض,ثم انطلقت مسرعا وأنا أندب حظي...يالهذا الحظ النكد...لقد غمني ذلك الجني المتفاني غما...اذا أطفأ الضوء خلفه ونام في كيس من ورق!

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com