|
قصة قصيرة مرآة الطفولة مامند محمد قادر / كاتب وشاعر عراقي كوردي بعد 15 سنة كاملة من تخرّجنا مِن الكلية، رأيتها يوماً في قاعة للمؤتمرات وهي جالسة الى طاولة قبالتي تماماً ولم تبعدني سوى أربعة أمتار. كانت هي نفسها، تلك الفتاة التي أحببتها أربع سنوات أيام الدراسة ثمّ غابت عني طيلة هذه السنين لتأتي الآن وتجلس قبالتي. لم تتغير أبداً، فقد كانت كما في سابق عهدها بعينيها الدعجاوين، شفتيها المتورّدتين ووجنتيها الطريتين حين كانت تجلس قبل سنين قد مضت بجواري في قاعة المحاضرات وهي ترمقني بنظرات تهزّ كياني وتشعل في صدري نيراناً. تلك الفتاة التي لم تغِب عن ذاكرتي للحظة واحدة، أتمرغ في حبها ولم أستطع التفوه بكلمة صريحة معبّراً عن مشاعري تجــاهها، بل كنت حينئذ أحدّثها فقط بنظراتي الخلجة وأشعِرها بخلجاتي بصمتي العنيد والتغيّب الذي كنت أصطنعه أحياناً لأتجلى بعد أيام كي آثر في شوقها. تلك الفتاة التي عانت من تصرفاتي الغريبة تلك طوال أربع سنوات، فقد كنت لدافع لا أدري كنهه أتهرّب منها أحياناً وقد كنت أثير شكوكها فيّ، أنا الذي كنت أتعامل معها في أحيان أخرى كالمصابين بأزدواجية الشخصية. في حين كان حبها في صدري بركاناً يلتهم احشائي، ولن يتفجر، اِلا عندما كنت أسهر ليالٍ في شرفة غرفتي وأنا أتلوّى وأتدحرج الى قعري لأداعب طيفها على ايقاع موسيقى مونا مور، وكنت أنكبّ على طاولة في زاوية مظلمة في بارات بغداد مستعيداً كل حركاتها وسكناتها الى مخيلتي، عندها كنت أئِنّ مع رشفاة الخمر وأجهش ببكاء مرير، ولم يخرج من ثغري سوى اسمها. تلك الفتاة التي أخفيت عنها حبي وأبقيته لآخر ساعات أيام الدراسة الخوالي حين كان لنا آخر امتحان نهائي، كانت جالسة مع قريناتها وهي تبادلني نظراتها المعبرة عن خيبة أملها وتتصفح أوراق المحاضرات بعينين نعستين. استعدت قواي كي أصارح بحبي لها، كي أحدّثها عن أمور طالما اختنقت وتغبرت في ثنايا فؤادي، ولم أتجرأ. انتهى الأمتحان، خرجت نحو الشارع وأنا أتبعها كلِصّ أتعقّب خطواتها. وغادرت كما تغادر سفينة رجلاً في المنفى، لتبقى حسرة في حياتي. انقطعت أخبارها عني طيلة هذه السنوات، وقد حضر ذلك الخيال ليتجسّد مرة أخرى بدمها ولحمها أمامي. لم ترني، فقد أخفيت عنها نفسي وأنا أسترق نظراتها من وراء رؤوس الجالسيـن، مميزاً صوتها المألوف من بين عشرات الأصوات، ملتقطاً ضحكاتها من بين أمواج من الضحكـــات. أنا الخائب، لا أستطيع التجرد منها ولا التقرّب منها. انتهت ساعات المؤتمر لتتركني كخراب خلّفتها المعارك. حاولتُ معرفة عنوان بريدها الألكتروني في سجل الحضور لامطرها لاحقاً بوابل من الجروح، لأجتاحها بأمواج من الحنين. ولم أستطع. خرج الضيوف الى خارج القاعة وأنا أتبع خطواتها بنظراتي، متلصّصاً وراء شجيرات الحديقة محاولاً ألا تراني. زعقت السيارات بأبواقها معلنة المغادرة. اشتدّت حنجرتي حزناً، وأغرورقت عيناي بالدموع. غادرت السيارات. توجه الجميع نحو بيوتهم، ولم يعد لأحد ايّ أثر. بينما بقيت في سري كلمات كثيرة كان ينبغي التصريح بها، كلمات أسيرة منذ سنين، لكنها طرية وجميلة كما هي الآن حبيبتي.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |