|
قصة قصيرة اليابس والأخضر * برهان الخطيب " العصي اليابسة لن تستعيد خضرتها ونضارتها فلنمش على الطريق متكئين على هذه العصي بكل ما لدينا من قوة " الكتاب المقدس 1 لا يدري، مات حقا وروحه محلقة فوق ماضيه وحاضره؟ أو أنه في غيبوبة، قد يستيقظ بعد قليل ويعود للكلام والضحك معها، سيارة الإسعاف لمن جاءت، الضجة هناك، الحركة البطيئة للناس، شئ صار؟.. أعد للرحلة عشرين عاما تقريبا. خلال سعيه إلى نور في الغربة رنا وراء منعطف وآخر إلى ديرته، هجرها نعم، خيبة في حب ورزق وتفاهم مع القريب والبعيد، لكن، ما تمكن الإظفر، ولو شاء، التبرؤ من لحمه.. أيامه هناك فيلم صامت، صالة وسعها بلاد، لا لون عطف على الذاكرة رغم البهرج الصارخ، لا رائحة أذكت القلب، رغم العطور والزهور، أرصفة وغابات وقصور. مَن يدري، آخر غيره، سقط أرضا ربما بضربات الشوق والحنين إلى فيافي الصبا، توالت دون رحمة، مذ حطت قدماه على تلك الأرض البعيدة الآن، حتى ساعة الغياب والفقدان.. "أنا أبوك يا أمل" قال متشجعا في حمية نابذا نقمة، لو تسرب خور إلى الهمة، أو لاح يأس في بلوغ قمة.. بالجهد، بالمثابرة، بشئ من حظ، بشحذ الباصرة والبصيرة، بحسن تدبير وتوفير، تمكن صعود السوق درجة درجة، استقر مالكا محله في مدينة سانت لويس، حي متوسط الحال، ضاج بملونين ومهاجرين ولاجئين، مثرثرين على عتبات البيوت أوقات الراحة والعمل، حالمين بلوغ شأنه وما بلغوا، أحلام اليقظة تقطف بصعود الصعاب، خلاف أحلام المنام، ننحدر إليها في استرخاء وتهويم. بيوت الحي طابوق احمر، ضخمة متلاصقة من الجانبين، ذات طابقين غالبا، سقوف عالية، غرف رحبة، النوافذ كبيرة بيضاء واسعة، سعة أحلام المهاجرين، تنادي أماسي وأواخر الليل نساء متعبات، يمضي أطفال وأزواج إلى بيوتهم، إلى محله، لجلب هذه السلعة أو تلك، حي كان له شأن زمنا، غادره أهله المقتدرون إلى أحياء جديدة بعيدة، بضغط من فقر وثراء، رافق موجات المسسيبي على المنطقة، فاض بشرّه أو خيره عليهم. واجهة محله مضيئة بداية المساء، إلى متأخر من الليل، تنحسر فسحة الأنوار، خافتة ذائبة في ظلال الأشجار، الرصيف المجاور، إسفلت الطريق، وجوه المارة المتمشين، ضحكات، كلمات، دخان، أغان، ينشط البيع.. إتس غووود.. مان.. ماش الحال، يرد مع ابتسامة على استفسارات المعارف والمستطرقين.. ثلاجة المحل كبرت، ملأت جدارا كاملا، أفراد العائلة دخلوا فيها من مخزن صغير متصل من الخلف، لترتيب وتعويض البضائع.. ولداه، ابنته أمل، زوجته أيضا، ساعدوه في تمشية الأشغال، ازدهرت، مد جسور تجارة إلى ديرة الأهل، أبعد إلى ديار الجيران، استورد صدّر مع أخيه، أفاد واستفاد. بمساعدة البنك حصل على الشقة فوق محله، وسّع أخوه أبو سيف في ديرته محله الصغير، رتبه لبيع أدوات كهربائية. تيسرت الأمور باختصار بالحظ والتوفيق والجهد، كاد أبو أمل يثق في القدرة على بلوغ سعادة منشودة، يمد اليد إلى بوابة غير مرئية، تفتح على المصراعين، عريضا، يدخل صحبة عياله الأمان والاطمئنان. السير في دنياه ارتقاء جبل، منعطفات مزروعة مفاجآت، تعبر إحدى الشعاب يصدك مرتفع، تصعده أمامك آخر، قمة أخرى، شئتَ إطلالة على العالمين غذ السير إذن، إلى قمة أخرى، أخرى، لا تصل ذروة عليا، وراء كل ذروة ذروة أعظم، هذا لو ما تقطعت الأنفاس منتصف الطريق بقصور في القدرة، بزلل في صدفة، وكفاك الزاد والصبر. العائلة اجتمعت أماسي حول مائدة الطعام، قرب التلفزيون، نزلوا إلى وسط المدينة، المتنزه العام محاذاة النهر، التمشي تحت الأشجار، التفرج على عوامات القمار، القوس المعدني وهامته فوق الغيوم، تسرقه الذكرى بعيدا عنهم، إلى فيافي الطفولة والصبا، إلى الحب الأول، بيت الجيران، اشتياق، التياع، عزم لزيارة الأهل حال الخلاص من شغلة في اليد، تنجز تظهر أخرى، حلقة حلقة، سلسلة حرير، فولاذ، بنعومة وقوة قيد ربطته إلى المحل والشقة أيام الغربة. مؤجل تحقيق الحلم، رحلة موفقة لزيارة ديرة الأحبة بين الغيب والعلم، ما بنى لغد مهدد بتلاش وهدم، آن أوان شد الحقائب أو تمدد تحت الهم لردم، ذئاب الطريق هاجت منذ انهيار البرج إلى حفلة دم، امامك التخطيط والتنفيذ في روية وحزم، لم يقلق كثيرا بشأن ابنته، استحق عمرها الزواج نعم، والتلفزيون والشارع يعرضان صورا لحال اهتز فيه الأمن والفهم، لابنته عقل راجح، إرادة صلبة، حصانة ضد شطط، وعمره على منحدر، والشوق كبير إلى خاتمة خالية من ندم، فيها بداية موفقة لابنة أثيرة، تواصل المشوار المجافي للعدم، هكذا قرر اصطحابها في الرحلة المنشودة، عسى تتحقق امنيات على الحب معقودة. استقبال أخيه وبقية الأقرباء في المطار كاد يبكيه لفرط الانفعال، أبو سيف في عافيته، أولاده كبروا كأمل وفي عمر الدخول إلى القفص، جلابيبهم بيضاء ناصعة، لحاهم شواربهم على المودة مشذبة باعتناء، سمرة أبيهم أدكن، قامتهم أمتن، الباقي كما تركه أبو أمل قبل عقدين. ما اختلف عن أخيه سوى بالبدلة، أبرزت امتلاء لو طرح بعضه أصبح انعكاسا له في مرآة، وتخلص في آن من نبض قطع أنفاسه، الوجيب إلى سقف الحلق من فرحة اللقاء، وأكثر من طعام دسم عن عادات سيئة وحسنة في الغربة. أولاد أخيه حول ابنته فرسان وأميرة، أسئلة وأجوبة عن الصحة والأحوال، ضحكات فوق الرؤوس نثار ملبس نزل غفلة، تلفتت محرجة، عيون محدقة بها عن غبطة، استياؤها طفيف، الصخب في إبداء حفاوة غريب، أبعدت كتفها حين مستها يد أكبرهم مرحبا، في تلقائية وامتعاض: لا تلمسني رجاءً. إكزكوز موا بنت العم، اعتذر، ما عرفتك شمع عسل. حملوا الحقائب إلى السيارات، انطلق الركب في تزمير وتهليل، أسئلة بلا نهاية، لم تحتمل أمل، صاحت بابن عمها الغارق بفرحه سائقا السيارة: - ستوب إت ! كبح سيف جماح السيارة، أوقفها جوار الرصيف التفت إلى أمل مذعورا: - خير إنشاء الله؟ نسيت شيئا في المطار؟ أوضح أبو أمل ضاحكا في ارتباك إن الخاتون ابنته قصدت إيقاف التزمير والصياح لا السيارة.. سكون. انفجر الأخوة مقهقهين، وارى سيف خجله بابتسامة: - كوني معلمتي بالإنكريزي أكون معلمك بالعربي يا بنت العم غود ديل؟ عربية أمل مكسرة، تداركت انفعالها: - تدفع الفرق لي إذن. درس الإنكليزي عندكم أغلى من العربي.. أو كي؟ نظر سيف من وراء المقود إلى عمه في المرآة وبنبرة خوف تمثيلية: - ويلي ويلي. تطعموا يا ناس ضد وباء المحاسبة الوافد من بره. 2 انقضت الأيام الأولى من الزيارة كحلم ماتع. أماسي تمشى أبو أمل وأخيه على طرقات الطفولة والصبا، تغيرت والبيوت، ناس عرفهم أبو أمل قديما كبروا شاخوا، مراوحين في المكان، في الزمان، حنين جارف إلى ملامح مندرسة، بيوت الجيران، درب المحلة القديم، حفر وحزوز في الذاكرة، غائبة الآن، تواثبت على أرشيف القلب، قصيدة في دفتر منسي ممسوحة هنا وهناك، بقاياها هشاشة، سطوة، مكبل بذكريات، بأخطاء، بإخفاق ونجاح، ماضية آتية، تلك الروح لما تزل في الهواء العذب رغم حرارة، في كائنات طيبة رغم نسيان، باقية ما بحث عنها في دأب وغفران. البيت القديم، أغنية فيروز.. بيت الحبيب ما أجمله.. خضر الغصون تظلله... بيت الحبيب خال من ساكنيه الأوَل، خضر الغصون لا تظلله، اقتطعت، أقيمت أسوار، جدران، طرقات.. لماذا هي ضيقة؟! هذي البيوت ما لها منكمشة! مال إلى الرصيف، يده موضع القلب، مهد الهوى الأول، ابتسم أبو سيف، استعاد ذكرى الأمس الجميلة المضنية: - ما نسيتها.. ها؟ لو عدلت دنياك ووافق أهلها سعدتَ وكنتَ بلا وجع القلب هذا! - البركة في أبنائنا. لا أشكو. عجبا كان أهلنا على صواب؟! تطلع أبو سيف إلى أخيه في إشفاق، قال: - المهم لا يعاني أبناؤنا معاناتنا. عرق أبو أمل، غرق في الذكرى، أضاف أبو سيف: - اذكر كيف طرتَ من الفرح حين سلَّمت، حزنك حين منعوها من الوقوف عند الباب. لو رأيتَها الآن قد لا تعرفها. استند أبو أمل على كتف أخيه، سأل في لهفة: - بعد سفري مرت بطريقك؟.. عندك خبر عن ذاك الدهر؟.. تطلع أبو سيف إلى نهاية الطريق، أجاب: - بعد انتقال أهلها ما وقعت عيني عليها سنين، ثم ظهرت مع صبي في محلي، سلّمتْ وفهمتُ تزوجت ورزقت الصبي معها. تذكرنا شقاوات الطفولة. سألتْ عنك... - بربك.. ماذا سألت؟ - لا وجود لماض عندهن. غالبيتهن بنات يومهن. الواحد يزوج ابنته ولا يراها إلاّ مناسبات. حبيبة قلبك والشهادة لله ذات أصل راجحة عقل كما كانت. ما تنكرت ولا تكبرت. ضحكت وقالت لابنها ان أخا الأسطه، قصدتني، وقع في هواها يوما من أول نظرة، ذبابة في عسل، أضافت.. والدك يعرفه. - من هو والد الصبي؟ - لا ادري. محبوبة أيام زمان كلمته حتما وقتَ سمر عن إلحاحك عليها. المسكينة فقدته بانفجار. سكت أبو سيف. سكت أخوه، تساءل متحسرا: - ما ذكرتَ هذا بمكتوب. - بقيتَ هناك سجين حكايتك؟! تزوجتَ وخلفت وقريبا حفيد! - نعم الزوجة والخلفة لكن هذا القلب ما هجع، نسيم، رائحة، ظل، طيف، عصريات كهذه، سكون، سماء حلوة، فإذا الروح أمام النفس القديمة، مرآة مكسورة، تسألها، تسألك، ما جرى، ما ضاع، ما تريد.. - ابتعدت عن البلد وانشقيت نصفين. - شيء من الماضي في أي منا. - هي أو ابنها في محلي كل راس شهر لدفع قسط الثلاجة. - بربك! كيف هي الآن؟! شاخت مثلي؟ سمنت؟.. تجعد وجهها؟ - سجادة قاشان ما تعتق. - قل تقرأ الملوّح وغيره، مثلي، الشعر يبقي شبابنا. - رحلة العمر لربط ابنتك بواحد من آلنا أو لربط نفسك بالحبوبة المضاعة وقت صعوبة. إعترف أحسن لك. توقف أبو أمل، رفع نظره إلى السماء: - كد وعيشة شظف وفضيلة تساوي بحسابي مال ومحل. أولادي جواري بالشغل يعني أفكر. الحكمة إذن. حكمة تبرر ما تبرر. ما اقتنعت ولا عدت إلى شظف. لذلك قررت المجيء مع أمل إلى هنا. فهمتني؟ ابتسم أبو سيف، نظر إليه سابرا المجهول: - لا ما فهمتك. ليتك تجد المطلوب والمرغوب. 3 حمل أبو سيف إلى أخيه جلابية جديدة، البيضاء القديمة ساعدت في طرح إحساس الغربة عنه، بقايا رائحة فيها تشبه رائحة جدهم هدّأت أعصابه، ضيقة قليلا نعم، لكن تنعم أبو أمل فيها، جلد الطفولة عاد، الآدمي كالأفعى يبدل جلده، حين يضيق. أمل ما نزعت بنطلون الجنز حتى أوقات الراحة في البيت، عبثا إقنعوها لارتداء فستان إحدى العمات، أصرت أيضا على عادة نشاز، الكلام بصوت مرتفع، كأنها كاوبوي، تناول الطعام بسرعة أمام التلفزيون، النوم في بيجاما، أحيانا شبه عارية.. دهش أبناء عمها لخلوها من خجل ووجل، عدم تراجعها عن رأيها، الصغير عاب ذلك، سيف اعجب بها، لم يبخل في التعبير عن ذلك في مناسبة وأخرى، دون ظفر كلمة طيبة ولو في المقابل.. ردها لأبيها، على رغبة سيف في الاقتران بها، واضح: لا تفكر بهذا. حوقل ضاربا يده بالأخرى: - يا ابنتي التكبر عيب، ما نقصه! - بابا النهر يختار مجراه، لو تكبر حقا وفاض حق لك إعادته لمجراه. - أمولة أريد المجرى يصب في ارضنا لا كيفما اتفق. - الأنهار تصب في بحار بابا.. لا في ارض فلان وعلان. وضحكت لا مبالية لدهشته المستمرة.. قوية حجة وعين، تفحمه باعتراضاتها، يستسلم، تتجمع أسباب جديدة للقلق، يجدد حملاته عليها لإقناعها بما يراه صحيحا، من اختيار طعامها وملابسها إلى اختيار شريك العمر هذه المرة. سكت، عسى يتمكن سيف بعقل وشطارة وشباب فياض كسر عنادها، ربطها بعاطفة سامية، عرفها الأب حين كان شابا مثلهما، وعانى من غيابها بابتعاد عن الأهل. استغفر أبو أمل بعد مغادرتها الغرفة، اشتباك أخر في الصالة، مزاح مع ابناء العم، تغير العالم بين عشية وضحاها، تصرم العمر ذرات ساعة رملية.. * من أول نظرة، مفعمة بأحلام وأمان، اشتبك القلبان الأخضران، رباط غامض ما زال سحره فيه، رغم التنائي الطويل، رغم المشاغل، الذوائب شابت وتيبست بعصف الدهر الخؤون، ونظرتها باقية في الذاكرة، وها نظرة ابنته إلى مَن حولها، وهي من صلب ظهره، باردة، لا مبالية، صادرة من عين حديد إلى عالم حديد. حدثها عن العاطفة السامية، غناها في دنيا تزداد فقرا وحاجة لها، ابتسمت أمل في إشفاق، الصادر والوارد من نظرة أولى إلى أشياء وكائنات مدعاة شك. سكت الأب. مساء رنا إليها قرب التلفزيون: أتظل هذه الابنة الحرون غير عابئة لنداء الدم، نافرة من أشياء لا تزعج سواها، أو لعلها تلين، تستكين للطف ابن العم، لبؤتي الغالية متى تهدأ! * ذلك الصباح طلع الأَخَوان في الجلابية والغترة إلى المحل، تقاطع السوق بالشارع العام، الأخ الأصغر وراء منضدة الحساب، راجع دفتر حساباته، المستحق له وعليه، ساعده أبو أمل في ترتيب الأجهزة والأدوات الكهربائية على الرفوف وفي الواجهة. شربا قهوة حملها صبي المقهى المجاور، ثرثرا مفاضلين بين عالمين، أبو سيف هنا، الآخر هناك، عرفه أبو أمل بتفاصيله.. مزايا تمتع بها الكبير هددتها ضربات حنين إلى ديرة الأمس، ضياع، باعتداء شقاة، عبث أقدار، وراء المنصة استلم أبو أمل سلّم منتظرا إشهار مسدس بوجهه، مطالبته بفتح الصندوق. لا ضمان يا أخي. أبو سيف راض، تشنف أذنيه سلامات، ضحكات المارة، الكلام الطلي، أغاني الراديو العذبة، يأخذ ويعطي المال عشرات مئات بلا ضمان غير كلمة شرف.. اتفقا قيمة الشئ كامنة فيه، اعترض أبو أمل عجلة لا تنفع من غير سيارة، أعقب أبو سيف ضاحكا: - وسيارة لا تنفع دون عجلة. هكذا اتفقا كل شئ في حاجة لشيء آخر. انتصف النهار، استأذن أبو سيف للذهاب في مشوار، جلس أخوه وراء منضدة الحساب، غاب في كلمات الجريدة. دهش للمساحات الفارغة الواسعة، قضايا كبيرة، خلاصات صغيرة، أوشك يطبق الجريدة ويرميها إلى مكانها على الخزانة الحديد، دخل شاب وسيم، نظارة قاتمة، بنطلون ابيض، قميص اسود، سلم، اخرج من جيبه مبلغا وضعه على المنضدة، مزح: حرارة يد محاسب الشركة ما زالت على الأوراق، في ذمتهم قسطان بقى بحساب الوالدة.. تهيأ لانصراف، سأله أبو أمل مبتسما بدوره: - ما تكرمتَ بتبيان مَن حضرتك؟ الشاب في عجلة، ارتبك قليلا، تاركا عتبة المحل: - خل مزاحك لوقت آخر. أو كي. راجع إلى الشركة قبل اكتشاف غيابي. يا لغرابة الشبان، حين يثقون يرمون أموالهم في الطريق، ويضربون رؤوسهم بحائط حين يشكّون, لعله نسي مطالبته بوصل، يعود بعد قليل، يرطن بأوكي، مثلهم تحت القوس الكبير هناك.. الخزانة مغلقة، مفتاحها مع أبى سيف، أنزل القسط إلى درج المنضدة. الصبي ثرثر فجأة في الفرق بين فنجان النفط والقهوة، حمل فنجانيه وعاد إلى المقهى. أخرج أبو أمل القسط من الدرج، حفظه في جيبه، عاد إلى الجريدة.. وظائف. أشغال. مناقصات. مزايدات. مكابدات. تهان. تبريكات. تعاز. أراض. شقق للبيع والإيجار. قبل حزم حقائب العودة إلى ديرة الغربة عليه ضمان قطعة أو بيت، موضع لعائلته في ديرة الأهل، الأولاد يحتاجون هذا وأكثر، عناد ابنته ودلالها ما إلى الأبد، ابن الحلال أخيرا وتشق المصون حسب رغبتها مجرى النهر الخالد، دون تدخل من الأب الإمبريالي، لا خوف على بنات اليوم، العكس، سيف ابن عمها استنجد بلا نجدة: ويلي من بنات اليوم ويلي. العياذ بالله. ساعة حائط المحل تهمس أشياء كثيرة. وصول المصون مع الغداء وشيك. سماوات الحلم بلا حدود. عاد أخوه من مشواره: - زقزقة العصافير في الجامع سينما اليوم، مَن سيزورنا وأنتَ هنا! - إذا استمرت في حضوري الزائر لكلينا. ومضى أبو أمل بدوره إلى الجامع. عاد أبو سيف إلى عرشه وراء المنضدة، التلفزيونات والراديوات والثلاجات وبقية أدوات عصر الحديد، الجريدة، الإعلانات، سرح أبو سيف، غط في نومة.. رنين ساعة الحائط، سيدة على كرسي الضيوف على الجانب الآخر من المنضدة، تنظر مبتسمة، عذلته مقدمة له وردة صفراء: - صح النوم، خلي الحيوانة في ماء قبل أن تذبل. - من أين لك هذي الوردة الحلوة مثلك؟ - أعطيت فقيرا صدقة فأعطانيها قال مَن يشمها مكانه الجنة إنشاء الله فهي من جوار الجامع. ابتسم أبو سيف، لمعت عيناه، تناول الوردة شاكرا: - العصافير لا زالت تزقزق، واضح الآن. لاطفته الزائرة: - ابني عمر قال سمنتَ درجة أنسته المهم، ما ذكر عصافير بطنك تزقزق. - عصافير الجامع أختي. خليني ارحب بك أولا.. شاي.. قهوة؟ - شهوة.. أو ما أريد.. وضحكت الزائرة، فضحك أبو سيف ومزح: الشاي والقهوة إذن.. كماان قنينة فاتحتنا. وكما حدث سوء فهم حول العصافير، لماذا تزقزق، أين تزقزق، أية مناسبة جعلت العصافير مركز كلامهما، حدث سوء فهم آخر، اكثر جدية، حين أنكر أبو سيف استلام قسط الشهر من ابنها، عن الثلاجة المشتراة! فشل تأكيدها المبلغ وصله، ابنها لا يكذب، حثها بالتلفون للذهاب واستلام وصل الدفع من المتعافي المتخافي المتظاهر لا يعرفه، لاطفه بكلام أنساه الاستلام، عمر مشغول في دائرته، لكن هي في المحل الآن، لا تفهم مثله ما جرى في يوم عجيب، ربما ما زال أبو سيف يمزح وعصافيره تلتقط الزبيب! فشل أبو سيف أيضا في الفهم والتأكيد، لم ير ابنها ولا كلمه اليوم، نقّب في أدراج المنضدة خشية النسيان لو استلم من ابنها وخانه اللسان.. لا شئ.. سلّم أمره لرب العالمين وكتب إرضاء لها وصلا باستلام القسط من ابنها السرحان، اختلط حاله حقا بأخبار الجريدة وعبث الزمان، ربما وضع المبلغ مع آخر ونسى، يعرف زائرته جيدا، لا يشك فيها ولا في ابنها عمر. - كل شئ جائز.. كل شئ. باعد يديه نافضا عنه وعن زائرته ما علق من عنت. السيدة أصرت على الاتصال تلفونيا بابنها، أعطت السماعة إلى أبي سيف، تكلما، لم يفهما، قرر الابن القدوم لايضاح المعلوم. 4 عاد أبو أمل إلى المحل.. توقف في المدخل إذ وقعت عيناه على السيدة أم عمر. وضع يده على صدره مكان القلب، اغمض، غاب. امتقعت أم عمر. النسخة الحقيقية للرجل الغائب طويلا في لحم ودم أخيرا، تحلم أو ماذا يا رب العباد! غائبها في كبره يشبه أخاه هذا، تزوره بين حين وحين وما انتبهت، اسمن قليلا، نسخة مكبرة بعض الشيء، عجبا، تمر على محله وما استلفتها كهذا الآتي من المجهول! خضتها ذكرى، أطلقت صورا مبعثرة، حافلة اصطدمت بمنعطف على قمة، تناثر ما فيها في هرج إلى منحدر، هرب مَن بقت فيه أنفاس بعيدا، خوف احتراق، تدحرج إلى هاوية. يجب استدعاء إطفائية، إسعاف، ابتسمت أم عمر، عاتبت القادم هاربة من أفكارها: - لم أر من أخيك غير الخير حتى التبس قسط سلمه ابني اليوم، ألا أراك دون مشاكل.. اخرج أبو أمل المبلغ من جيبه، وضعه على المنضدة، تمتم من غيابه: - قلبي قال ابنك. ألا أراك من غير لوم وتعنيف، كبرنا حاجة ومازلتِ صبية تخاصميني. عيونهما مشتبكة عمق مسافة باعدتهما، سعة عمر احترق هباء. قطعتْ الصمت: - عاد الحجر المقذوف إلى أرضه.. ها.. أو زيارة بطران؟ مال أبو أمل على الكرسي المقابل لها متلاحق الأنفاس: - زيارة عمر ينقضي.. ليته ينقضي هنا. تبادلت أم عمر وأبو سيف نظرة سريعة. مهمومة: - عمر طويل إنشاء الله. سقطت بتلة من الوردة الصفراء في قدح الماء القريب من السيدة. تنهد: - طار الزمن بآلاف الأجنحة... كأنما ودعتك أمس! أومأت أم عمر برأسها في حكمة: - الزمن لا يطير عندنا حاج، يحترق.. ومعه العمر. ألم يخزه، ضربات مخيط في صدره، مزح مهونا على الحاضرين: - دخيلك أبو سيف استدع الإطفائية، قريبا نحترق كليا. أشار أخوه إلى السيدة قبالتهما، الوجه مضطرم، أسيل، الشعر ناري، فوطة بيضاء، تضاحك مضطربا: - أمامك هي.. علام الاستدعاء! أبو أمل معاتبا، ظلام جره إلى ماض بعيد: - من هنا شبّ الحريق يا ناس.. من هنا.. ضحكت أم عمر عصبية، تراجعت إلى ظهر الكرسي: - أية نار ظلت فينا يا حاج ونحن بها العمر. لا تتشبه بأهل السكس والبوكس في بلاد بره عياذي بالله. ألق الشباب وشكسه أشرق على وجهه، رد أبو أمل: - استغفر الله أم عمر. قصدي نار الأزل والأبد. نار المحبة السامية يا توأم روحي. 5 ضحكوا، ارتوت أرواحهم ألفة.. ظهر عمر في مدخل المحل، أبيض، أسود، نظارته تلفزيون مطفأ، سلامه أدب. اعتذر أبو سيف عن سوء الفهم، دعاه إلى الجلوس لحين وصول الخاتون بالطعام، شكرته الأم، أوضحت لابنها باسمة مشيرة في زهو إلى أبي أمل: - الآدمي الذي كلمتك عنه، غنى تحت شباكي في الأمسيات عبد الوهاب، حب أول نظرة، سخرتَ وأبوك المرحوم مني، ها هو أمامك، لا يشبه جيمس بوند، لكن معدنه ألمع من ذهب الدنيا، صار معلوم الآن؟ شارك عمر في الكلام والضحك مكررا أوكي أوكي، تيك إت إيزي، لحظة وضع أطراف أصابعه على كتف أبي أمل في مودة، انحنى يقول شيئا له فإذا به خدر الأجفان، يده نحو الوردة الصفراء، تمتم في رجاء: - اعطنيها أشمها، في الجوري رائحة الجنة.. القدح قريب من أم عمر، انتشلت الوردة، قربتها إلى جارها القديم، تلامست الأصابع بانتقال الوردة من يد ليد، سقطت بتلة أخرى، وريقة حب ألقاها صبي عبر سياج، فر هاربا. تكتكت الساعة مسموعة.. صمت. التكتكة عالية. أبو أمل مبتسما في خور: - يقولون الأصفر لون العزلة.. ليتها حمراء. قرّبها إلى شفتيه، مغمضا، تعبا، استرجع ذكرى، التكتكة عارمة، تحت الصمت اعترف: - ثلاثون عاما مرت على رؤيتي لكِ أول مرة.. مَن يصدق.. تلاحقت الأنفاس. أم عمر تخفف عبئا: - طيف و مَر. - اللحظة تلامست أصابعنا أول مرة، ربما آخر مرة، عمر اسمع.. تك!...تك!.. تك!.. أمل أخيرا، حضورها فرحة، أريج طغى على الوردة في يد أبيها، ذوت التكتكة وهدير الشارع. هي وعمر وجها لوجه لحظة طويلة، سلام خافت، كلام ناعم، كأنهما معرفة كل الوقت، سكون، التكتكة عادت. العيون أحاطت الشابين غبطة ومودة، شئ صار، الألفة صدفة، قدر محتوم، أو اختيار غير مفهوم؟! قوة خفية قادت خطى الحاضرين إلى هنا، كما تقاد نطف المرجان في البحر في آن معلوم، إلى مكان مرسوم! برواح وغدو أقدام هنا كتبت سطور غير مرئية، لو بانت ظهر سر من أسرار الوجود. أمل وعمر يتكلمان، غرقا في إحساس جديد، موحد لكائنات اختلفت أو تشابهت. تدلت ذراع أبيها إلى جانبه، الوردة باقية في يده، كأنها نابتة هناك. هرعوا لإعادته من غيابه.. سيارة الإسعاف أخيرا.. صاخبة النذير.. حملت الرجل.. تبعته ابنته ماسحة دموعها.. هوان على مقعد الأسعاف الطويل، جاورها عمر دون اعتراض، في صمت تطلعا إلى الساكن المسجى أمامهما، اهتز بحركة السيارة. الوردة في يده. الابتسامة الحزينة على شفتيه. واساها عمر: - شدي حيلك، يوم غريب، ما كنت اصدق ما حدث لو ما كنت الشاهد. أمل متفكرة: - ولا أنا! التفت عمر إليها، تغلب على تردده، أبعد نظارته عن عينيه: - اقصد تأثير عاطفة في آدمي هكذا. أمل، بصوت رخيم، غارقة في عينيه، مثله فيها: - ذلك قصدي أيضا. هذا أغرب. وحطت يده على يدها يطمئنها، فاستكانت اليدان إلى حنان ومودة.. والعيون إلى ما في الأعماق من صخب صامت.. وشقت السيارة طريقها في الزحام. ـــــــــــــــــــــــــ * عن صحيفة (العرب) اللندنية العدد 7557
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |