ولأنها شاعرة لا تملك فصيلة سوى
الإحساس، عَبَّـرت عن هذا اليوم
بدموعها وهي ترى بعينيها الجميلتين
ترانيم المغنين وأدخنة البخور ومجون
الراقصات، وصوت الدفوف. غطتْ فرحة
المدعوين اختفاء بسمتها وأثارت عجبها،
وتهادتْ إلى أسماعها تهانٍ أثْرت بها
عجز اللسان: "بالرفاء والبنين".
بدا الجميع حولها في بهجة وسرور، وهي
لا تشعر بشيءٍ سوى الخوف والرعب،
كأنها تريد أن تصرخ ...أن ترفض ... أن
تهرب من هذا الواقع المفروض عليها
فرضاً، كلما نظرت لأبيها وعريسها الذي
يحدجها كذئب جائع، لا تقوَ ى على أنْ
تتغلب على محيطها، وتكتم دموعاً في
عينيها تحاول أن تجري.. لا شيء يلفت
نظرها سوى حركة التمثال الشمعي القابع
أمامها، يبدو وكأنه إلهٌ للجمال
متكامل التقاطيع فاتن العود مشتدّ..
رأته يتلاشى في النار، خُيِّلَ إليها
أنه يبكي بُعدَه المكاني عنها لا
يقصيه كثيراً عن كونه آلةً للخنق تجثم
على صدرها، كانت مشاعرها تزف نفسها
إليه كياناً مُدمَّراً معقوفَ الجذع،
وفجأة يظهر وجهه في النار فتراه ذئبها
الجالس إلى جانبها، تصفُر بين أضلاعها
ريح التوجس الذئبية، تئنُّ وتـثور من
الداخل وتختنق فيسمع صدى أنّاتها
شياطين الأرض لتنتابهم الرهبة.
بينما، وهو يتلاشى، ترى دموع حبيبها
في خطوط تلاشيه، وكأنه يبكي تجسُّدَ
عذابه، هذا التمثال الشمعي الذي لفت
نظرها في ليلة زفافها، حتى تلاشى
تماماً وكأنه لم يكن.. أفاقت على صوت
الزغاريد التي استحالتْ في أذنيها إلى
صوت صراخ، وكأن اليوم هو يوم حدادها.
وبعد لحظات وجدت نفسها قد أصبحت مع
هذا الرجل تحت سقف واحد. تجيلُ النظر
حولها فتجد كل شيء مُحكَم الإغلاق
عليهما، وكأن كل شيء حولها تحوَّل إلى
أسوار منيعة. أصبحت منهكة الجسد..
أسيرة الأفكار، عيناها سليبتان
متمردتان ومياه الحيرة تُنديهما.
تلعن حُسنها الباهر، تحتار في أمرها،
وهي مجبرة على ارتداء ثوبها الأبيض
المتناقض مع عينيها..
يحتار فيها ذلك المتزين بما راقَ من
طيبٍ وملبس، وقد تبدَّى لها كأي قناصٍ
يخرج باحثاً عن فريسة، وهي فريسته
التي لا تقوى على الفرار، فهي موثوقةٌ
بوثاقٍ باركته الجن والإنس.
هو ينظر إليها كذئبٍ حبيسٍ قد يؤذي أي
كائنٍ يقترب، بينما تقف هي بين يديه
كجريح مذعور، لا يعرف العدّو من
الصديق.
أخذ يُسمعها كلمات وعبارات يصف فيها
جمالها الباهر، كأنه يقول لها شعراً
... تعجبت!!، أيرقُّ خافقُها لـهُ أم
هي مخدوعة؟ أيمكن أن يكون بهذه
البراءة.. أم إنها براعةٌ في أداء دور
البراءة؟.
هُنيهات حتى احتوت مضمون كلماته عن
جمالها وجسدها.. إنها كلمات تنطقُ عن
شهوته ورغبته، أما هي فقد رأت في
وسامته شكلاً آخر، وهو يخلع ملابسه
وينظر إليها نظرات شهوانية تخيلت معها
أنه ذلك الذئب، وأخذ يحتضنها ويقبلها
بشدة وهي ترد عليه بعبارات ضنىً ودموع
تَعاسة.
قيَّدها كالذئب وبكل عنف نضا عنها
ثيابها البيض، وأخذ يلتهم جسدها كذئب
مسعور.. شهوته كانت بالنسبة إليها
مناورة حربٍ باردةٍ تكويها دون سلاحٍ
محسوس، بينما يتراءى لها عَدوّاً، وهي
تحاولُ أن تزرع جسدها شوكاً أملاً في
حماية ما. و تبقى تحت جسده الثقيل
جليداً وعيونها جماراً.. نظراتها
ثابتة على العكس مِن أفكارها. خيوط
المعاناة تنسج شبكاتٍ واهنةً في
عينيها، يتبدل لون مقلتيها لتصطبغا
بألوان التعاسة وضروب الحقد... أيصير
الرجال جميعهم في عينيها سواء؟.
لم تستطع التعبير عمّا يواجهها، كلما
تذكرت أن هذه الليلة هي ليلة دخلتها،
وأن هذا الرجل مفروض عليها، أحست بأنه
ذئب يفترسها ليحولها في لحظات إلى
امرأة شابَها دنسٌ عميقٌ تستحيلُ معه
إلى ذئبة هي أيضاً.. فقدتْ عذوبتها..
براءتها.. شاعريتها.. دون أن تفقد
عذريتها بعد. وهي تقاومه بكل ما
أوتيتْ من قوة، تتوسل إليه أن يعفو
عنها.. تصرخُ.. تُردد "أكرهك ..
أكرهك"، وهو لا يسمع إلا نداء شهوته
وهو مطروح على جسد كالحرير الناعم،
وفي أحضانه امرأة مِن الحور العِين،
أخذت تقاوم وتقاوم وصرامة ملامحها
تتناقض مع ضعفها البادي.
أضناها عبء المقاومة لكن ذعراً
انتابها، ونفدتْ قدرتها على التحمّل
فباتت بلا طاقةٍ.
لا تشعر اتجاهه بأي شعور فتظل دون
حراك. يشغلهُ الكر والفر وهي تغرق في
غيبوبة إرهاق.
أخذت مشاهد من الحياة تتراءى في
ذاكرتها، في هذا المشهد الوحشي، الذي
هو أجمل يوم في حياة فتيات أخريات،
ألحَّ على ذاكرتها مشهد توديعها
لحبيبها في زمن لا يعترف بالحب،
ووالدها يرغمها على الزواج من هذا
الرجل الثري لأنه من الطبقة
الاجتماعية نفسها، يلقي اللومَ على
حبها وعلى شاعريتها، وعندما تصرخ في
وجهه تُفاجَأ بصفعةٍ على وجهها، تذرف
الدموع وتصاب بالخرس، تمشي ميتةً
تحثُّ السير في ذهول، لا تنصت إلى
ثورة أبيها، بل تنصت إلى ثورة قلبها،
وهو في نظر الجميع كأي أبٍ تُرجَى منه
الحماية، ويُنتظَر العطف.. وكأنها من
هنا ولدت لتكون خرساء.
رنَّ الهاتف وسمعت صوت حبيبها
المرتجف، وهو يتألم بينما مازلت هي
مصابة بالخرس، ارتعشت السماعة في يدها
وصوت بكائه المبحوح يعزف على أوتار
مشاعرها الممزقة، تـئنُّ وتصرخ..
تنهار في أعماقها.. تسرع إلى نافذتها
لتتنفس ضوءاً، ولكنَّ نور الشمس
تشتَّـتَ ليرسم في الأفق أطيافاً لا
لون لها، فغدا الحق محْقاً، والصدق
عقماً والذُّلُّ حلاً.
وتعود لتُفيق وهي تفقد عذريتها على يد
هذا الجبار، الذي نهش جسدها والتهمَهُ
كقطعة سكر ذابت في ماء شهوته، تُحدّثُ
نفسها في ذهول، كيف سيجمعها مع هذا
الذئب سقف واحد باقي عمرها، كرهت
نفسها وجمالها وجسدها. لعنت الزمن
الذي رماها بين النار والهشيم، نظرت
إلى حالها وهي عارية في عيون ذئب،
أخذت تلملم نفسها بذعر وخوف وقد فقد
كل شيءٍ قيمته في عينيها، أما هو فبعد
أن ألتهم جسدها جلس َ أمامها يقضم
تفاحة وعيناها شاخصتان إليه تمتلئان
صراخاً، جرّها القدر إلى مصيرٍ ما
كانت تتمناه. هي الآن تجمعها مع الدنس
أنفاسٌ واحدة، لو كان الموت درباً
سالكاً لسلكته..كانت هذه ليلة العمر
التي تحلم بها مع حبيبها، لكنها تتحول
اليوم مع هذا الرجل إلى كابوسٍ تجدُ
نفسها فيه وقد غرقتْ في بئر هَلَعٍ.
منذ هذه الليلة ما عادت تثق بأحدٍ...
فقد تلاشتْ كل مشاعرها في هذه الليلة
التي فقدت فيها نفسها.