|
قصة قصيرة الليل اذا سجى (الى ماركريت حسن) محمود يعقوب استأذنت الارض والسماء، كما استأذنت الملائكة فأصغ اليّ بخلقك الندي وسماحة كرمك، سأروي لكِ حلم الليلة البارحة. ليلتي تلك كانت ليلة عصيبة، هاجت عليّ فيها فتوقي وآلمتني كثيراً، فقد اعتصر (فتق الريح) احشائي، ومسني لظى (فتق الهموم) التي تدلت على صدري كالاغصان الاستوائة بأوراقها المرة العريضة.. بعد عناء هجعت في سبات عميق، ليداهمني حلم طويل. وغالباً ما كنت استلطفت تلك الاحلام المسرحية الطويلة التي ترعى في نومي الثقيل كالماعز، احلام من النوع الذي يضفي عليها الناس الواناً من الوصف والاسماء الفضة ويعمدون الى كشفها وتفسيرها بشتى السبل، تلك الاحلام تطيب لي لانها تهزني، وتهزني، وتقذف بي الى الجحيم!.. حين رقدت غافياً على جنبي الايمن، فاض من تحت جفوني حلم قاتم، سال على وجناتي وسال على مخدتي وحصيرتي وغطى الافق رمادياً كالغمام.. (اراد الشيطان ان يقضي حاجته، فأتمننى على عباءته ومخلاته وعصاه العوجاء، ثم عصف غائراً الى مكان ناء.. وفور عودته وجدني عارياً مرتجفاً الوذ بنفسي، ولاته الشيطان فقد ادرك بلمح البصر كل شيء وعرف ان قومي سلبوا اشياءه وسلبوا كل ما علي وتركوني قطعة زجاج في العراء البارد. بدا مظهره مرعباً، الغضب الارعن يتصبب من قسماته وعيناه الحمراوان الخارقتان تتماوجان كالبركان. وحين توسلته ان يسرني ببعض ما عليه صرخ في وجهي مشرعاً مخالبه بين عيوني: - لم تحرص على امانتي، وتريد ستر عورتك؟.. - ولا ادري ما الذي انتفخ فيه حتى صار كالقط ينتصب شعره في لحظة غضب. كان نافد الصبر لم يطق البقاء قربي. عدت ادراجي في درب موحش، مقفر يصطحبني الغضب والحياء، الاول يدفعني قدماً الى الامام والثاني يجرني الى الخلف، فكنت اقدم خطوة وأُؤخر التالية، حتى فاجئني الشيطان مجدداً يخطر امامي، وسرعان ما قال لي ساخراً وهو يشير باصبعه الى الارض: - استر نفسك ان اردت فعل ذلك.. - نظرت الى الارض فوجدت يقعة موحلة، وادركت ما يعنيه، وبعد تردد رميت بنفسي الى الوحل ولطخت نصفي الاسفل بهذا الستر الواهي!.. - وبعد ذاك تحركت على وجل، فباغتني رجل في مقتبل العمر، وقف مشدوها يحدق بي على نحو غريب. كان يتفحصني وكأنه يقيسني بعينيه. ثم جعل يمازحني ببعض الكلمات الساخرة متصوراً إنني معتوه. تقدمت نحوه وحييته بلطف. وكلمته بحصافة، فملكته الحيرة والارتباك وانعقد لسانه باديء ذي بدء.. ولكنه مالبث حتى راح يسأل بتردد: - معذرة، ما الذي دهاك؟.. كان طيباً واليفاً تلهف بكل اسف لمعرفة امري ونجدتي. كنت واقفاً امامه خجلاً، مرتجفاً، وسرعان ما خلع سترته عليّ ليسترني ويقيني البرد. وقادني نحو بيته وانا اوري له كل ما جرى. واحسن ذلك النبيل استضافتي. ولان الحكاية تجر الحكاية، فقد انشغل يروي لي الوانا نادرة من قصص السلب والنهب حتى وقف اخيراً عند حكايته هذه التي تهيأ لسردها بعد ان اعتدل في جلسته. انه ليحز في نفسي ان انقل لك تلك القصةالمريرة، ولكن يمكنك القول ان ذلك مجرد اضغاث احلام فلا بأس من سماعها.. يقول هذا الشاب الطيب: (بعد ان اتم فريقك تشييد احد المستشفيات والذي كان يعمل فيه هو نفسه، يقول: عدنا الى العمل بمزاج حسن ونفس متفتحة شهية. لكن لم يمض على هذا العسل اكثر من شهر حتى اخذت المس ان شيئاً من السخف الذي شاب بعض النفوس فيما مضى، دب اليها مجدداً، كالصرصار المتسلل خلسة بين الاقدام الى سطح طاولة ليعبث في صحن فاكهة طازجة.. بانكسار رحت ارى البعض يعمد الى التقاط الدواء وبيعه في السوق، ودعني اقل بلا تردد.. انهم كانوا يسرقون فعلاً!.. فالصحف والحقائب اليدوية كانت تخبّىء هذا الظلم كل يوم. وكان احد هؤلاء صديقي.. هكذا كان يقول هذا الشاب بحسرة ثم تابع راوياً: كان صديقي هذا يمضي اغلب وقته، عصراً، في دكاني الصغير الذي اتخذته محلاً للتداوي. وفي احد الايام بعد ان باع (بضاعته) وعاد من السوق، جلس خلف مكتبي، بينما قصدت المقهى المجاور لأجلب له قدح شاي كما اعتدت، وفور عودتي وفيما كنت اهم بعبور المياه الآسنة التي تمتد مع الشارع راعني منظره وهو يغرز يده بأضطراب في درج مكتبي ويسرق مدخولي، انه كان يسرقتي!.. فارت روحي واضطربت بشدة، كأنني كنت السارق لا هو، وتعرق جسدي وأحسست بجمر القدح يكوي اصابعي، فارتخت يدي لينزلق منها منكسراً بين قدميّ. منذ تلك الساعة اغلقت دكاني ولم اعد اليه ثانية كالهارب من شبح الفضيحة، لقد فطر قلبي صديقي هذا وخلفني فاتر الهمة، واهن الامل. بعد ان فرغ ذلك التعيس من روايته، انسللت مرة اخرى الى ذلك الدرب المظلم متباطئاً. كنت مترنحاً في حلمي وانا اشعر ان وطني راح يضيق عليّ ويصير بضيق جلدي الذي يحكم الطوق على عظامي. مازلت في نومي حين اضطجعت على جنبي الايسر، وطرفت عيني وإنساب من تحت جفوني حلمي مجدداً، سال على خدي غمام ابيض، اخذ يملأ الافق امامي ويشف على مهل بنور وردي وضاء. (كنت واقفاً تحت السماء لوحدي، ارقب ومضاً غريباً، بعيداً جداً، تبينته بعد لحظات فإذا به دفق من النور البهيج اندلق من دورق زمردي سكبته ملائكة طاووسية الالوان!.. راح يقترب نحوي متلألئاً، باهراً وخلاباً، حتى صار فوقي تماماً. لم يكن ذلك الألق السماوي الا انت ايتها الشهيدة، لقد هبطت اليّ على صقالة البناة الاحرار، ولم يتملكني الذعر والارتباك بقدر ما استثار في روحي العزة والعظمة، فهتفت بكل قلبي محيياً وانا ارنو الى وجهك الذي تود على صفحاته الورد، مبهوراً بهذه الطهارة والرقة مثلما هي صلاة الفجر. ارتفعت هامتي وتراصفت اقدامي وانا اؤدي لك تحية العسكر، وكان صدري يرعد وقلبي يقرع بعنف احدى وعشرين دقة كالهزيم اجلاجلاً لمقدمك وروحك انشد لك نشيد الخلود، وقد اصطفت خلفي الملائكة جوقة منشدة بنشوة طاغية. وبعد إتمامي مراسيمي، قلت لي بصوت مهموس: - الله يساعدك.. وباشرت اقص عليك قصة ذلك الشاب الطيب وانت تصغين بألم. حتى اذا ما انتهيت اشرق وجهك بابتسامة امل وحياة وقلت لي: ان ذلك سهل يا اخي. فأجبتك حائراً: - وكيف يكون ذلك سهلاً ياأختاه؟.. رايتك تنحنين رافعة اشياءً رحت ترمين بها امامي، رأيتها اشياءً غريبة – معول ، فأس، رفش، وممسحة.... وقلت لي: خذ واذهب رمم ذلك الانسان، واحرث في روحه اينما تلاقى بقعة بكراً، ولسوف ترى. وفيما انت ترمين اليّ بكل هذه الاشياء، لكزني احدهم بكوعه، التفت اليه لأجد الشيطان نفسه واقفاً جنبي يرنو اليك بابتسامة ماكرة تتكئ على شفتيه.. تقدمت قليلاً والتقطت المعول واطبقت عليه بكفي، وقد استدرت قليلاًَ نحو الشيطان وانا لم ازل محدقاً بك وانت اتودعينني بكلمات عذبة، في الوقت الذي راحت فيه الملائكة تسمو بك الى مقامك المحمود. بعد ان غبت عن ناظري في السماء البعيدة، التفت وانا ممسك بالمعول صوب الشيطان فوجدته قد ولى بعيداً، فقلت في سري: ياللشيطنة.. كيف ادرك مقصدي؟.. كنت منشرحا تمام الانشراح، شاعراً ان جلدي الضيق قد اتسع وصار فضفاضاً، وتفتق وطني وساح مالئاً الافاق المترامية عراقاً. وبعد ان فرغت من حلمي، طرفت جفوني وفتحت عيوني، وجلست في فراشي مسمياً باسم ربي وناظراً الى السماء يتطلع ، كمن يبحث عن شيء ما، فلم اجد سوى القمر يصبغ بفضته سكون الليل الغامر، ولم يكن القمر كاملاً، كان نصف قمر. نصف قمر معلق لوحده في السماء يشع ببسالة كما لو انه قمر كامل، ناثراً السكون وموحياً اليّ بكل ثقة بأن منهوب النصف ليس منهوباً.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |