|
قصة قصيرة سعاد وعرائس القطن عقيلة آل حريز "سعاد"، فتاة صغيرة تحمل حلماً بعرائسها القطنية، تتكئ على أحلامها حين يحضرها الحزن، تختصره عندما تمر بها أطيافه الضبابية، في لعبة تراقصها،أو قصة تختلقها،أو دمية تبكي معها وتغني لها أشعارها. هي تعيش في مكان منعزل، بارد بلا ملامح، مع زوجة أب فاترة، وأسرة لا تكاد تعترف بوجودها بينهم إلا في المناسبات. وتقيم "سعاد" في كوخ صغير في زاوية بعيدة من الأرض، حدوده صغيرة مغلقة وإن كان محط أنظار الكثيرين إلا أنه ممتلئ بالخضرة التي تحب وهذا يبهج نفسها فيشعرها بالألفة، ورغم بساطة المعيشة هناك فالمكان هادئ وصاخب في ذات الوقت، بحيث لا يتسنى لسعاد أن تختزله كله في عالمها الصغير. زوجة أبيها سيدة مهيبة ربتها على الخوف والصمت، تحنو عليها أمام الآخرين، لذا يُهمها أن تعطي انطباعاً جيداً عن عدالتها وحكمتها في علاج الأمور، وفي تربية طفلة يتيمة فقدت والديها وبقيت في عهدتها لترعاها. لا شيء حتى الآن واضح الرؤية لدى سعاد، فالأمور تكاد تختلط عليها.. الجرأة تعد تهمة في هذا المنزل إن أقدمت على سؤال لا يعنيها.. والصمت أيضاً يعتبر إدانة..!! والقبول عجز الضعفاء.. يُمنع عنها أن تفكر وأن تحاور، أن تتحدث وأن تلاعب عرائسها بما حدثت عنه نفسها، أن تتسلق مرتفعات المعرفة لتقول شيئاً يسمعه من حولها، وحين ترغب بأن تتعلم.. أن تُقلد الآخرين على الأقل لتعرف، فهي تختار ما سهل فعله وما خفت تكاليفه.. عرائس من قطن متهرئ كانت قد صنعتها أمها ذات يوم، ولا يسمح لها أن تحظى بالكثير، فزوجة الأب لا تبدي نحوها أي تجاوب أو اهتمام، ولا ترغب بأن تتعلم حتى في الخيال، فإن أصرت "سعاد" على معرفة شيء، راقبتها عيون زوجة الأب المتحفزة بحذر يشي بالتهديد الواضح والعقاب. وسعاد كالأخريات تماماً من أخواتها غير الشقيقات، لها تطلعات كثيرة وإن كانت بسيطة، فآمالها تشبه حلم لم يولد بعد، يحوي وجعا وفرحاً في آن معاً، وتناقضات كثيرة تربكها وتغير سير حياتها معه، فتهمس بشيء منها لنفسها أحياناً، وتترك للأمل نافذة صغيرة تتسلق النور بين زواياها، لتنفذ منها أشعة الشمس. حين تسوء الأمور معها فإن روحها تتقد بالأرق فتوقظ عرائس القطن التي تمتلكها تضيئها بالنور، تنفخ فيها صور من أرواح تفتقدها، وتتمنى أن تكون معها، لتعلمها وتبصر الدنيا من خلالها، تصنع منها عالماً لحياة لم تعرفها، لذا فهي كثيراً ما تُقبلها، تُسرح شعرها، تُمسدها... وعلى أجسادها اللينة تنقش ملامح لهيئات البشر وبشخصيات مختلفة تصنعها.. هبطت عليها فكرة ذات يوم وهي تلاعب عرائسها القطنية فقررت أن تنجزها، حاولت أن تقرأ وحدها من خزانة الكتب القديمة وأن تتعلم بنفسها، فلا أحد يمكنه أن يُعلمها شيئاً هنا غير ذاتها.. اعتلتها وحدها ذات مساء خلسة، وبمشقة وصلت لبعض الكتب، فقرأت في التاريخ والفكر والسياسة والأدب والعقائد والفنون، لكنها لم تستوعب الكثير مما قرأته، فمازالت الأسئلة تنقش باتساع أكبر في ذاكرتها العريضة كلما وقفت على أمر جديد.. عندها قررت أن تصنع شيئاً بعرائسها القطنية، شيئاً يمثلها، يتحدث عنها، ينطق بأفكارها.. وفعلاً دربت نفسها، أعدت عرائسها، رتبت لها متكئاً صغيراً أعدته مسرحاً لها... تهامسن أخواتها حول أمرها مراهنات على فشلها، فحدثن أنفسهن بحصد الكثير من الضحكات العالية حين يبدأ وقت العرض. لم تعبأ بسخريتهن منها، وإن شكرت في سرها صمتهن عن الوشاية بها، لكنها استمرت تصنع مسرحها الصغير، وتوزع أدواره على عرائسها الواحدة تلو الأخرى. كانت "سعاد" تعمل بحذر، و تخاف أن تخرج منها عفواً ضحكاتها فتلتفت إليها زوجة الأب.. لذا كانت تبتلع إهاناتها المتواصلة حين تغيب طويلاً.. مع عرائسها تحلم بغد جميل واعد، يعبرها الحلم كل مساء فتستظل بقطعة غيم تحملها فوقها، تحلق بها عالياً نحو أفق بعيد فلا ترجع إلا وجه الصباح، حين تنبهها عليه العصافير الصغيرة لتنقر واقعها المؤلم. تحاول انجاز عملها بسرعة، تخشى من العقاب، وتدرك "سعاد" ماذا يعني العقاب من زوجة أبيها القاسية، ففيه تفرقع أصابعها بشدة.. وتقرع أطرافها بقسوة العصا، وتترك وحيدة بالخارج في شتاء بارد كهذا، يجلدها البرد فينتفض جسمها الصغير كفرخ مبلل، ولا يكاد يلتفت لها أحد، بينما الدفء يملأ أنفاسهم بالداخل في تخمة لا توقظ فيهم نحوها أي حس!! لم يطل أمرها طويلاً لينبهها الواقع من غفلتها سريعاً،كشفت إحدى أخواتها سرها وفضحت حُلمها لأمها ذات مساء.. جاءتها تصيح فجأة، غاضبة مزمجرة كريح عاتية تصفر في أحلامها، سكنتها بلا مقدمات فنسفت كل آمالها. جفلت منها "سعاد" مذعورة حين باغتتها زوجة الأب فجأة.. أخذت منها عرائسها عنوة، مزقتها بيديها، داست قماشها اللين بحذائها ولطختها بالطين.. ثم ألقتها خارج الكوخ، ودفعت الصغيرة خلفها بلا رحمة لتقف في العراء، وسط البرد !!... ظلت سعاد واقفة بالخارج والبرد يلف جسدها الصغير، ينهش فيه بلا رحمة، فتجهش بالبكاء. فاض صراخها على عرائسها وانتصب الحزن مخيماً على بوابة قلبها الصغير، رجمها البرد وأنذرها بالمرض الذي تخشاه.. فبقت معالم الفرحة منكسرة داخلها بملامح موءودة، إذ لم يخبرها أحد عن السبب، ولا تعرف ما الذي أزعج زوجة الأب في لعبها بعرائسها، وظلت نظراتها تتساقط على جثث الحلم الممزق أمامها ملقى على وجه الأرض.. ملوث بطين من حذاء زوجة الأب القاسية.. تفحصتهم الصغيرة بألم متسائلة ودمعة حائرة تنسكب من ضياء عينيها : - "ماذا كان جرمي معها ؟!" كل ما ارتكبته سعاد فقط أنها كانت تحلم، والحلم ضريبته الوأد، القتل، النسف !.. كانت تحلم بدفء يقترب، وبعرائس ترقص وتضطرب، وبعالم تقول فيه ما لا يقوله الكبار، حين تحادث دمُاها من خلاله. وبالرغم من كل ما حصل فإن ثمة فكرة أصبحت تسكنها الآن، وثمة أمل رغم الدموع التي أغرقتها تقودها إلى حياة أُخرى غير ما فرضته زوجة الأب عليها، تجعلها رغم الرجفة.. رغم الخوف الذي ساكن روحها.. ورغم الألم.. تنطلق في أفكارها وتغريها بتأمل العالم من حولها، وتعتنق قبائل الوجع بشعاع من ضوء أزرق، أولدته لحظات الألم.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |