|
قصة قصيرة الصوت البعيد علي حسين عبيد / رئيس اتحاد ادباء وكتب كربلاء مقيم حاليا في المغرب سمعت صوت استغاثة لطفل محاصر في مكان مقفل الابواب والنوافذ .. ضغطت على كابح السيارة ، ونظرت الى زوجتي بجانبي واخبرتها بما حدث لكنها اخفت وجهها بكفيها واطلقت كلمات غامضة ممتعضة وفي لحظات ولت نوبة السهو وعدت الى صحوي لكن انا على يقين من ان الصوت كان يقصدني وهو ليس غريباًعني توجهت بسيارتي الى دائرة البريد التي تعمل بها زوجتي كانت متعبة جداً وددت ان اخفف من حدة قلقها . قلت لها هذه الغفلة المباغتة لن تتكرر وفعلاً هدأت وهي تستمع الى القرآن من مذياع السيارة . لكنها ما زالت تنظر بدقة الى الامام خشية مفاجآت السير . كنت اقود سيارتي وبقايا من طنين عالق في سمعي يشوش تركيزي على الطريق . نظرت الى اليمين هناك اطفال يلعبون في حديقة عامة كان كمال يلعب معهم بحيوية طفل معافى شديد الذكاء رأيته يتقافز بين الاطفال تحت شمس صباح بديع . اوقفت سيارتي ونزلت الى الحديقة . توجهت الى ولدي مباشرة استقبلني الاطفال بتوجس . صحت على كمال لكن لا احد يجيب . نظرت الى الاطفال واحداً واحداً وتحدثت معهم . ثم دهشت حقاً اذ لم يكن ابني بينهم عدت الى سيارتي ورأيت عدداً من المارة يتجمهرون حول زوجتي التي تجلس في صدر السيارة صامتة لا تنظر الى احد سرت مرة اخرى نحو دائرة البريد . مرت ثلاث ساعات على بداية الدوام .. كانت شمس الصيف متقدة والعرق يطفح من مسامات جلدي .دققت النظر في الشارع فلربما اعرض حياتي وحياة زوجتي الى الخطر قالت بصوت متوسل عليك ان تتخلص من هذه السياراة التي ستقتلك في يوم ما . كنت انظر الى المقعد الامامي المغلف بجلد اسود . وكنت في احيان كثيرة ارى كمال يجلس او يتمدد على هذا المقعد ، وكنت اجيبها كالمعتاد ( في المرة القادمة لا تصعدي معي) لكن في صباح اليوم التالي تسبقني الى الجلوس في صدر السيارة ، فأنطلق بها الى دائرة البريد في رحلة يومية بدأت منذ عشرة اعوام لم اتعب منها ولن املها ، خصوصاً وان ولدي كان يحتل صدر السيارة قبل غيابه المفاجئ … فحين كان طفلاً يرافق امه الى عملها . وفي السادسة من عمره دخل مدرسة الشهداء . في رحلتنا اليومية يصل هو اولاً . ثم زوجتي . وبعدها اذهب الى عملي في ثانوية الوحدة . اليوم هو العاشر على غيابه . امه تحتل مكانه في صدر السيارة امرأة مكسورة القلب . تتشح بالسواد ، وجهها منطفئ ، وقلبها واهن . وانا رجل مكبل بالغفلات المفاجئة والتصورات الطارئة . انطلق بسيارتي وزوجتي الى جانبي هدفي الوصول الى العمل . لكن السيارة اصبحت تأخذني في طرق لا اعرفها ولا تصل بزوجتي الى دائرتها . لا ادري كيف يحدث هذا فجأة . اجد نفسي واقفاً في باب مدرسة ابني واشير اليه بالنزول بعد قبلة يومية بديعة بدرجة تجعلني اتحمل عناء ساعات طويلة مع الطلاب ومتاعبهم .. كل شيء يبدو هادئاً ومقبولاً . وما ان يدخل المدرسة حتى يطمئن قلبي وادعو زوجتي للجلوس الى جانبي . لكنها ترفض احياناً وتقول ان المكان الخلفي مخصص لجلوس الشخصيات المرموقة وتضحك بسرور كبير . انطلق نحو دائرة البريد تنزل زوجتي بعد كلمات توديع معتادة ، ولكنها مطمئنة ظهراً اعود الى ابني كمال ، احياناً اجده ينتظرني قبل وصولي اليه ، واخرى انا الذي انتظر ظهوره من المدرسة . اليوم يبدو انني بكرت بالمجيء اليه عليّ ان انتظره كما كان يحدث سابقاً ، خرج الطلاب جوقات وفرادى . وبصري يرصد الوجوه المتعبة تحت وقد الظهيرة ووطأة الامتحانات الثقيلة . تعاقبت اجساد الصغار ، ونظرت في وجوههم واحداً تلو آخر . ولكن اين ولدي ؟ انه لم يطل بعد . مضت ساعة وانا انتظر . خلت المدرسة من طلابها ومعلميها غمرني اليأس والقلق . وفي اللحظة التي قررت ان اذهب فيها الى زوجتي سمعت صوت طفل مكتوم ، خليط من صراخ ونداءات ملحة تعلو وتخفت ركضت الى المدرسة ورأيت ظل احد ما في أحد الصفوف يلوب ويتلوى خلف قضبان النافذة التي صرت الآن لصق زجاجها فرأيت ولدي وحيداً في الصف جالساً على رحلته يبكي بحرقة ثم ينهض ويتجه نحو الباب المقفل يضربه بقبضة كفه الصغيرة . ركضت الى الباب حاولت ان افتحه ناديت على كمال . انا ابوك يا كمال لا تخف سافتح لك الباب . لكن الصراخ ازداد حشرجة ويأساً فأتيت بصخرة وصدمت خشب الباب لكن لا جدوى . عدت الى النافذة فرأيت دموع ولدي تتطافر من عينيه لكن العجيب انه لم يرني ولم ينتبه لي برغم ان الزجاج كان شفيفاً بحثت عن الصخرة من جديد وهشمت زجاج النافذة بالكامل فهيمن على الصف صمت مريب . وباغتني صوت رجل مسن كان يقف خلفي . التفت اليه كان حارس المدرسة الذي يعرفني ، قلت له اين كمال ؟ اين ولدي ؟ جميع الطلاب غادروا إلا هو . وعدت انظر الى فضاء الصف الميت بلونه الباهت ورحلاته الساكنة وسبورته السوداء .. ظل الحارس صامتاً . وانا امور في اتون حيرة قاسية . وماذا افعل الآن خطوت باتجاه الباب الخارجي للمدرسة في هذه اللحظات سمعت كلمات لم تكن واضحة لكن فهمت قليلاً منها ( ربما ستجده في البيت ) التفت الى الحارس الذي كان يرمقني باستغراب صعدت سيارتي ولم تزل الحيرة تكبلني هدأت قليلاً وادرت محرك السيارة وسمعت مرة اخرى صوت طفل من داخل المدرسة . كنت يائساً لكن نظرت خطفاً فرأيت كمال يركض نحوي مفرداً ذراعيه كطائر متلهف . تركت سيارتي وتأكدت من انه ما زال يركض الي افردت له ذراعي حملته الى صدري ودفنت انفاسي في عنقه البارد . جلس في مكانه في صدر السيارة وانطلقنا الى دائرة البريد كان ولدي ينظر الي بفرح وكان وجه الحارس يلوح لي ضاحكاً قلت لكمال لماذا تأخرت ؟ المدرسة خلت من طلابها منذ ساعة . لقد خشيت عليك حقاً ضحك الولد وهو يقول : هكذا انت يا ابي متعجل في كل شيء . كنت اوزع بصري بين ولدي والطريق . واصبحت احسب بدقة لمفاجآت السير . خصوصاً وان كمال يجلس الى جانبي هدأت روحي وانا انظر لهذا الطفل فلم اعد اشعر بنقص ما ، وبدوت رجلاً متزناً اشعر بالاكتفاء التام وصلنا الى دائرة البريد صعدت امه في مكانها الخلفي وبدت متعبة من ساعات العمل وحرارة الشمس .. لم تر ابنها انها مجهدة والا فكيف لا تنتبه لوجود كمال بعد عشرة ايام متواصلة من الغياب . كنت انظر اليها بالمرآة ثم انظر للولد الذي مدد جسمه على المقعد الاسفنج ووجهه الى سقف السيارة وعيناه مصوبتان نحوي كان يبتسم بين لحظة واخرى وانا اكاد انفجر ضاحكاً . لكن وجهها كان حزيناً ومتعباً انها ستفرح كثيراً حين نصل الى البيت . قلت عندي مفاجآة ستسرك .. لم تعبأ بكلامي وربما لم تسمعني . وقعت عيناي على جسد كمال المسجى على الاسفنج كانت البرودة تسري في اوصاله واللون الاصفر الباهت طلى وجهه وكل شيء ظاهر من جسمه . وطفحت اورام مباغته عند رقبته البيضاء وقرب رمانة كتفه الايمن . وثمة تغضنات ملأت جبينه وخديه ورأيت يد الدكتور تتحسس هذه الاورام الخبيثة ورأيت وجهه الذي ضج بالاسف وسمعت كلماته المخنوقة ( ابنك مصاب بالسرطان ) صرخت زوجتي برعب شديد حين انحرفت السيارة فجأة نحو عمود الكهرباء كانت الصدمة قوية ومفاجئة اخرجت زوجتي الغائبة عن الوعي من النافذة الخلفية وقفت قربها وانا انظر الى المقعد الامامي الفارغ حملتها بين يدي وخطوت على الاسفلت وانا افتش بذهن مشوش عن اقرب مستشفى وثمة صوت استغاثة ما زال يأتيني من مكان مغلق الابواب والنوافذ.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |