|
قصة قصيرة مربط الفرس (1) .. الغريب مزهر بن مدلول كل مساء، بعد غروب الشمس، حيث تترك خلفها الالوان الذهبية الجميلة، ويرتفع الى اعماق السماء، صدى ثغاء الاغنام وخوارالابقارالعائدة للتو من مراعيها، ويهبط منها، اسراب من الحمام والعصافير، على سطوح المنازل والاشجار، فيبدو ذلك الفضاء الدائري، كبانوراما موسيقية هادئة ورائعة .. كل يوم ولبضع دقائق قليلة، اراه واقفا على سطح ( السوباط )، روحه تناجي ذلك الجمال، الذي ينتشر في كل ركن من حوله .. عاشورة .. اجمل فتيات القرية، تلبس فستان مزركش، ضفائرها طويلة مثل ظفائر فتاة غجرية، تقف في هذا الوقت بالتحديد، عند عتبة الباب، تنظر اليه نظرة حالمة، نظرة مخادعة كمخادعة السراب، تمنت لو انه ترجّل من سوباطه وعانقها ولو لمرة واحدة .. لكن شيخ حسين الذي تجاوز الثلاثين من عمره، كان مسحورا بطريقة حياته الزاهدة، مشغولا عنها بتأليف الردات الحسينية والهوسات الريفية وبعض من ابيات شعرية، يرثي فيها حاله واحواله، انه في هذا الوقت الضيق والمحدود، لم يعد يستخدم حواسه بطريقة عادية، انها تجتمع في روحه، ليعيش لذاته منفردا، منعزلا، ويعود متصوفا .. لا احد في القرية يعرف شيئا عنه .. من اي مكان هو، اين اهله وعشيرته ماحسبه ومانسبه، وما السر في حياته ..؟؟، وليس من احد مهتم لذلك، فمنذ سنوات وهو يعيش معهم، ينام على سطح السوباط في ليالي الصيف وفي مضيف الشيخ ايام الشتاء .. كل البيوت مشرعة الابواب لشيخ حسين، يدخلها دون حرج، يأكل مايأكلون ويلبس مثلهم وكأنه واحدا منهم .. حين يجتمع اهل القرية وفي كل ليلة، في مضيف الشيخ، يشربون القهوة المرة، ويتبادلون اكياس التبغ من واحد لآخر، وحين يمتلأ المكان بالدخان ويرتفع سعال كبار السن والمرضى، كان شيخ حسين هو الاخر يستمتع بفنجان القهوة المرة ويمتص دخان غليونه بنهم .. يبدأ بقص الحكايا الغريبة على اسماع الفلاحين، وغالبا ماتكون من نسج خياله، لكنهم يحبون الاستماع الى قصصه ويطالبون بالمزيد منها .. وما ان يفرغ من سرد حكايته، حتى ينتقل الى الغناء، له صوت جميل، ناعم وعذب، يغني الالوان الريفية كلها وخاصة الابوذية، التي يكتب بعض ابياتها بنفسه، وعادة مايضمنها بعض الكلمات، التي تسخر من بعض شخصيات القرية، او تصف شيئا من حياتهم وسلوكهم بطريقة هزلية تثير دهشة واعجاب المستمعين، وتضفي جمالا على مجلسه .. يتحول شيخ حسين الى طبيب قادر عندما يرى مريضا، ولم يتردد في اظهار امكانياته في معالجته، خاصة اولئك الذين يتعرضون الى لدغات الافاعي ومااكثرهم هناك، وفي مناسبات ختان الاطفال السنوية يقوم بالاشراف على تطبيب جروحهم، ويسكن معهم في مخيم يقيموه بعيدا عن القرية .. في حوزته كتاب واحد ضخم، تآكل غلافه، اصفرت صفحاته، وضاعت كلماته، اوراقه تتطاير متناثرة، حتى انه يجد صعوبة احيانا في اعادتها الى مكانها، وربما اختفى بعضها عن انظاره، كتابه الوحيد تراكمت فوقه السنون .. في هذا الكتاب جميع الردات الحسينية التي يقوم بترديدها في شهر محرم، وكذلك القصة الكاملة لمقتل الامام الحسين -ع - .. انه ممثل بارع حين يتقمص شخصية العباس .. شخصية الشجاع المحارب في المسرحية ( التشابيه )، والتي يقوم باخراجها وبتوزيع الادوار على الممثلين فيها .. في صباح اليوم العاشر من محرم، اجتمع اهل القرية جميعا .. انحشر الرجال والاطفال في داخل المضيف، حتى ضاقت بهم باحته، وتجمهرت النسوة خارجه، جئن ليسمعن قصة مقتل الامام الحسين .. استعد شيخ حسين كعادته مبكرا لهذا اليوم الاليم .. بدا بالدعاء والصلاة، ثم اخذ يتدرج في سرد الاحداث .. كلما اقتربت القصة من نهايتها، كلما اشتد الحماس، وزاد الانفعال لدى شيخ حسين .. حرارة المضيف، والدخان الكثيف، ورائحة التبغ وعرق الرجال، كانت لاتطاق .. اختلطت دموع شيخ حسين بعرق جسده الغزير، تيبست شفتاه وتعثرت كلماته .. حين وصل الى ذروة انفعاله، نهض واقفا وصاح .. ( وا إماما وا حسينا )، فضج المكان بالعويل والصراخ، وتعالت اصوات ضرب الأكف على الصدور العارية، وكان شيخ حسين يتوسط الجميع يبحث عن نسمة هواء من ثقبٍ لايراه .. فخرَّ الى الارض، توقف نبضه، ومات في الحال !!..
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |