قصة قصيرة

سأبنيه يوماً!

بتول سيد محمد

 كان كغيره من المسافرين ينتظر الوصول بفارغ الصبر .. فأخذ يردد بعض القصائد التي يحفظها عن ظهر قلب , فصمت الجميع يصغون إلى عذوبة صوته ..

بالرغم من صغر سنّه – فهو لم يكمل السابعة من عمره – إلا أنه كان يمتلك موهبةً رائعة تبهر الجميع , فبالإضافة إلى صوته الشجي كان يجيد الأطوار الحسينية إجادة الكبار والمتعلّمين , وكان يحفظ العديد منها ويرددها في كثير من الأوقات ...

لقد تعلّق بأهل البيت عليهم السلام منذ نعومة أظافره , فكان يصر على الحضور في جميع المناسبات , ويشارك بالبكاء أيضاً ... لم يكن يتظاهر بالبكاء كبقية الأطفال , كان يبكي حقاً , فربما وصلت قضية أهل البيت (ع) إلى أحشاءه لتلهبها لوعة وحسرة ... فكثيراً ما سقطت قطرات من دمعه الندي وهو يلطم أثناء مراسم العزاء ..

كان والداه يشجعانه على ذلك , وعملا على أن يطوفا به حول مراقد أهل البيت في أنحاء العالم , لتطهّر روحه وتبعث في نفسه نور الهداية ومواصلة طريق العترة المستقيم , وبعد زيارتهم للعراق والأضرحة هناك , وضريح السيدة زينب والسيدة رقية عليهما سلام الله في سوريا عزما على حج بيت الله الحرام وزيارة النبي (ص) وقبور البقيع برفقته .. وهكذا كانا بتوفيق الله تعالى معه هنا في الباص الذي يسير بهم إلى مدينة رسول الله صلّى الله عليه وآله .

 وصلت القافلة ليلاً ففضوا رحالهم في أحد الفنادق وعزموا على أخذ قسط من الراحة على أن يتوجهوا إلى الحرم المقدّس بعد صلاة الفجر .. ولولا أنه كان مرهقاً لما استطاع النوم , فقد كان ينتظر الغد بقلب مشتاق , كان قد زار حرم الإمام الحسين (ع) قبل أشهر وسأل أباه ببراءة : أبي , أين قبر الإمام الحسن (ع) ؟ ألا يجب أن يكون بجانب أخاه ؟ ألا يحبان بعضهما ؟ .. لقد أخبره أباه أن الله قد قدّر أن يجعلهما بعيدان عن بعضهما وأن قبر الإمام الحسن في البقيع في المدينة المنورة ...بدأت المنارتان والقبّة الذهبية تلمعان في مخيلته قبل أن يخلد إلى النوم ويكمل زيارته في حلمه ...

في الصباح , صلى مع والده واتجها إلى الحرم النبوي , حيث دخلا إلى الحرم وزارا وصليا صلاة الزيارة , وكان محمد يلح على والده بالإسراع لزيارة الإمام الحسن (ع) : أبي , لقد وعدت الإمام الحسين أني سأزور أخاه نيابة عنه وسأوصل سلامه إليه .. هيا يا أبي أسرع فالحسين ينتظر ..

وبعد إلحاح محمد اتجه معه والده إلى مقبرة البقيع وبدأا يصعدان السلّم حيث البوابة التي تؤدي إلى القبور .. سئل أباه : هل سنمشي كثيراً ؟

- لا لقد وصلنا ... بضع خطوات فقط ..

- ( ارتسمت على وجهه علامات الدهشة ) ألن نقبّل البوابة الذهبية قبل أن ندخل ؟ أنا لا أرى القبّة ؟ أبي لماذا تمزح معي ..

- عزيزي .. الإمام الحسن (ع) ليس له حرم كباقي الأئمة .. إنه هناك في البقيع مع الإمام السجاد والباقر والصادق عليهم جميعاً سلام الله ..

بدأ الحزن يرتسم على محياه .. إلا أنّه آثر أن يرى بعينيه ليصدّق , فأكمل السير مع والده , ومن حسن حظه أن البوابة كانت مفتوحة فدخلا واتجها إلى قبور الأئمة حيث دلّه أبوه إلى قبر الإمام الحسن (ع) :

- بني هذا قبر الإمام الحسن (ع) ... هيا أدِّ أمانتك .

لم يجب محمد .. كانت الصدمة قد طغت عليه , المفاجئة جعلته صنماً لا يتحرك , أين المنارتان الشاهقتان ؟! أين القبة الذهبية البراقة ؟! أين البلاط اللامع ؟! أين الجموع الهائلة من الزائرين ؟! هل هو حقاً أمام قبر سبط النبي وسيد شباب أهل الجنة ؟! ..

رمى بنفسه على القبر وبدأ يبكي بصوت عالٍ يحرق القلب : سيدي ... هل جعلوك قبراً بلا حرم .. سيدي .. لدي أمانة من أخيك الحسين ... لك سلامٌ منه ... سيدي ... لأخيك حرم عامر وأنت هنا في أرض قاحلة ! سيدي يا حسيــــن .. أدرك أخاك فقبره في حرّ الشمس !!...

حاول أبوه تهدئته قليلاً علّ صوته لا يصل إلى مسامع الحرس المرابطين عند البوابة , واضعاً يده على فمه الصغير ليكتم آهاته التي ستفجّر غضبهم وحقدهم على أهل بيت العصمة إلا أن صوت الحق اخترق أنامله ليسري مع هواء البقيع.

وقف محمد فجأة وتوجّه إلى قبّة النبي الخضراء وقال : مولاي أشكو إليك ما يفعل هؤلاء بسبطك وحبيبك وريحانتك ! .. ولو كان الأمر بيدي لبنيت بساعديّ قبراً يليق به ...سيدي ألهمني الصبر ..

 توجه اثنان منهم إلى محمد ووالده وبدأا يأمرانهم بالخروج بحجة انتهاء وقت الزيارة , وهنا علا صوت محمد في الأجواء وبدأ يرفس الأرض بقدمه معلناً رفضه ودموعه تجري أنهاراً على خديه الورديين : اتركوني ... لن يدعكم رسول الله ! سأبينيه يوماً ... سأبنيــه يوماً !! .

 كانت دموعه تأبى التوقف كلما زار البقيع خلال رحلتهم, وحتى في طريق العودة ... إلى أن وصل إلى وطنه سالماً , ومضى يقصّ على أقرانه قصّة الحزن التي عاشها في رحاب الحسن , ووعدٌ صادق منه أن يبني له حرماً شامخاً يوماً ما ..

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com