|
قصة قصيرة عروس لا تجيد الرقص فيصل عبد الحسن / كاتب عراقي يقيم بالمغرب قالت مراقبة الإنتاج في المعمل الكبير، وهي تضع في فمها لقمة صغيرة أثناء فترة استراحة تناول الفطور: - يوم الخميس لا أجد رغبة حقيقية في الذهاب إلى البيت !... ضحكت سندس وهي تنظر بطرف عينها صوب المهندس الشاب الجديد : - وأنا كذلك..غداً العطلة ما أحلاه من يوم ! .. لن نذهب اليوم عند انتهاء العمل إلى البيت ... ما رأيكما ؟!... قاطعتها العاملة الثالثة وقد بان وجهها أكثر جمالا بالنمش الخفيف، الذي حاولت معه من قبل بمساحيق دوائية كثيرة من دون أن تنجح في إزالته، وبدت بعينيها الواسعتين، واستدارة وجهها وأنفها الدقيق المرسل في استقامة أكثر أنوثة من الآخر تين. كان المهندس الشاب يقارن بين نوعين من الإنتاج أمامه، وبين الفينة والفينة يلقي نظرة على ساحة القسم المملوءة بالعاملين والعاملات وينظر بشكل محدد صوب وجه سندس الذي أستلطفه أكثر من أي وجه آخر في حياته: - وأين نذهب يا مجنونة ؟! صمتت سندس لحظات قبل أن تجيبها : - إلى أي مكان آخر غير بيوتنا ... نظرتا صوب زميلتهما مراقبة الإنتاج ، التي كانت تلوك طعامها ببطء من دون شهية حقيقية .. سمعتاها تقول ببطء كما لو كانت تكز على أسنانها : - سنعود إلى بيوتنا مثل كل يوم..سنبقى نتحدث حول أفضل الأمكنة التي سنذهب إليها.. سنتحدث كثيراً ونختلف وربما نتشاجر وحين تجيء لحظة الانصراف ونسمع جرس المعمل الكبير يرن سنهرع كفئران التجارب معصوبات العيون إلى دورنا: إلى الغسيل المؤجل طيلة الأسبوع، إلى الطعام الذي علينا أعداده للأيام المقبلة لنحفظه في مجمدة الأطعمة، إلى الشجارات المؤجلة مع الأهل والأخوة والأزواج.. سنعود إلى هناك كأنما يربطنا شيء لا نراه ويلصق بأقدامنا ويقودنا إلى عتبات البيوت..قالت لها صديقتها ذات النمش: - كل هذه الأفكار لأنك تقرأين روايات وكتباً أكثر بكثير من مستوى تفكير أي عاملة مثلك.. - آه لو تقرأن قليلاً لعرفتن كيف يعيش الناس.. - أننا نراهم حولنا ولا نحتاج أن نراهم على الورق.. - القراءة شيء آخر.. وابتسمت حين تتوقف ماكنة الإنتاج لفترة طويلة بسبب تكدس الإنتاج أو لعطل طارىء، أو لانقطاع التيار الكهربائي و عدم دوران مولدات الطاقة الكهربائية لسبب أو لآخر و يبقى التوقف لحين قيام المهندس الخافر بتشغيل مولدات الديزل الضخمة. تتجمع العاملات إلى منضدة صغيرة تصف فوقها عينة من الإنتاج اليومي، و بالرغم من ضجيج المكائن الأخرى تحت السقيفة المضاءة بصفين من النيونات إلا إن العاملات الثلاث يتبادلن النكات و التعليقات أو يتحدثن في موضوع ما أو يجلسن صامتات يحدقن بعربة مخلفات الإنتاج التي يدفعها المنظف ذهابا وجيئة على طول أرض الممر المحصور بين صفي المكائن المسرعة في دورانها، الضاجة بأصواتها، مثل متسول يجمع العطيات من الآخرين، و حين يمر مسؤول المعمل عبر الممر المؤدي إلى سقيفة المكائن ينتقل خبر مروره بإشارات متفق عليها مع العمال في الأقسام الأخرى، فتترك العاملات الثلاث مكانهن الأثير حول منضدة عينة الإنتاج اليومي و يتفرقن بين لوالب الماكنة المنتشرة إلى اليسار و اليمين، و دواليبها، أو حول أحزمتها الناقلة، المتحركة نزولا و صعودا، أو يجتمعن عند تكية الماكنة الخشبية حيث تقف عادة مراقبة الإنتاج التي تراقب سير المنتوجات و توجه ملاحظاتها للعاملتين حول ضبط بكرات خاصة بالإنتاج و تنظيم الضغط و البخار، و ملاحظة إزاحة العجلات الصغيرة الحاملة لمناضد المواد الأولية، و تتحكم بأزرار كهر بائية وامضة لموازنة سطح المنضدة و جعلها تلقم فوهة الماكنة المستطيلة بالمواد الأولية قبل النزول ستارة الزجاج، و بالرغم من مساحيق التجميل الكثيرة التي تضعها مراقبة الإنتاج على وجهها كل صباح إلى إنها لا تستطيع أن تخفي شحوبها الدائم، و قد أخبرها طبيب المعمل عدة مرات بضرورة الاهتمام بأخذ وجبات غنية بمادة الحديد إلى أنها تابعت حياتها العادية في المجيء إلى المعمل دون فطور و توقفت عن زرق الإبر التي عينها لها الطبيب، كانت تجيء كل صباح و بيدها لفافة طعامها التي أعدتها أمها في الصباح الباكر: قطعة خبز، بيضة مسلوقة، حبة طماطم، وفي أحيان كثيرة حين يشح البيض في السوق تستبدل الأم البيضة بحبة بطاطس مسلوقة، وفي أحيان كثيرة تعود مراقبة الإنتاج إلى البيت دون أن تمس لفافة طعامها وتنهد على فراشها طالبة النوم دون طعام من غير أن تنصت لشكاوى أمها أو تسمع حكاياتها الكثيرة حول المشاكل التي أفتعلها أخوتها مع أبناء الجيران، تستيقظ بعد منتصف الليل بقليل وهي تشعر بجوع خرافي فتقودها قدماها إلى المطبخ، فتضيءالمصباح المعلق وسط المطبخ وتأكل كل ما تصادفه في ثلاجتهم الصغيرة من بقايا طعام أخوتها، وتنصت لصوت أمها الذي كان يحذرها من الطلاق وينبهها إلى أنها ستغدو بعد الطلاق شجرة مهملة لا يسقيها أحد وستكون جذعا أجرد بعد سنوات قليلة.. فهل هي الآن حقاً امرأة لا يسقيها أحد ؟! لكن نبوءة أمها لم تتحقق فهاهي تطل في المرآة لترى وجهها الذي لا يزال فتياً وروحها المتوهجة والروايات الممتعة التي تقرأها وحريتها التي تشعر بها ونظرات الرجال التي تخترقها اختراقاً كل صباح لكنهم لا يقتربون منها ولا تعرف السبب، ربما قالت أمها السبب من دون أن تصدقها، تتذكر أنها قالت لها: يا ابنتي أنهم يخشون المطلقة.. يخافون امرأة لها تجربة حياة سابقة .. ولكن كان لا بد من الطلاق لم يكن يحترمها وكان هذا سبباً كافياً لتطلب الطلاق منه بالرغم من أن الجميع وقفوا ضد هذا الطلاق ولكنها أصرت على ذلك فتم لها ما أرادت . تأكل كل ما تصادفه في ثلاجتهم من بقايا طعام أخوتها، الذي تحتفظ به الأم عادة في الدولاب الأخير القريب من الدولاب المثلج. كانت الماكنة عاطلة منذ الصباح ، واليوم كان يسبق يوم العطلة الأسبوعية ، وقد وضعت توقيعها على الورقة الحمراء الخاصة بعطلات الماكنة ، وأخذت وجبة عمال صيانة المعمل خبراً بذلك وشعرت أنها نفضت يدها من الموضوع جلست مراقبة الإنتاج على تكية الماكنة الخشبية وأخذت تفكر بأشياء كثيرة. كانت سندس قريبة منها بالرغم من أنها أكثر فتوة إلا أن زميلتها لاحظت هزالها المتزايد يوماً بعد يوم، فتذكرت الفترة الأولى بعد طلاقها مباشرة وكم هزلت بسبب الحزن وكثرة التفكير، فكرت أنها تعاني الآن مثلما عانت هي قبل سنوات:لا تدري لماذا يتزوج الرجال وهم لا يعرفون قيمة مؤسسة الزواج التي يدخلونها فيؤذون فتاة مثل سندس ومثلها هي قبل ذلك ؟! سمعت سندساً تسأل: - أنأكل غداءنا ؟ فكرت مراقبة الإنتاج قليلاً قبل أن تقرر: - لنفعل ذلك ما دمنا نملك الوقت. أشارت سندس لزميلتهما الثالثة لإحضار الطعام الموضوع في درج المنضدة.مسحت العاملة الثالثة التي امتلأ وجهها بنمش كثير يديها بقطعة قماش يتركنها عادة بالقرب من المنضدة ،وفتحت الجرار .كانت المكائن الباقية تدور وثمة عمال يتحدثون بالقرب من إحدى المكائن ورافعة شوكية تزأر مزمجرة حاملة المواد الأولية المخرومة وتلقي بها في رزم كبيرة بالقرب من الممر ويدفعها عمال صغار في السن على عربات واطئة ، وهم يزمجرون بصوت عال لثقل ما يدفعونه وليفسح لهم العمال الطريق ، والعاملات الثلاث يعدن غداءهن ويتحدثن أثناء ذلك بصوت واطىء عن المهندس الشاب الجديد الذي ينظر صوب سندس كثيراً ، وهي لا تعيره اهتماماً ، وتساءلت مراقبة الإنتاج في نفسها : هل عرف إنها طلقت من زوجها قبل شهور قليلة ؟ قالت سندس وهي تبلع لقمتها بصعوبة: - ما رأيكما نذهب اليوم إلى السينما ؟! قاطعتها الأخرى ضاحكة: - لنذهب إلى مدينة الألعاب ! - نظرتا صوب مراقبة الإنتاج، التي قالت بعد فترة صمت قصيرة ببرود: - ألا تفكران بالأهل ؟! قالت سندس: وفي رأسها صور تنمو لحيوانات صغيرة ونمور محبوسة، وأقنعة مخيفة وضعها رجال على وجوههم: - ما رأيكما بحديقة الحيوانات ؟! إنها المكان المناسب فيما اعتقد.. ضحكت مراقبة الإنتاج كأنها سمعت نكتة، وألقت ما تبقى في يدها من طعام في سلة صغيرة للنفايات بالقرب من الماكينة وقالت: - ستتمتعان قليلاً وعند العودة إلى البيت ستدفعان ثمن هذه السعادة المسروقة، سيصفعك أبوك وستمزق أمك طبلتي أذنيك من كثرة اللوم.. أنا.. سأذهب بعد العمل إلى البيت مباشرة. صمتت الفتاتان وألقت كل واحدة بقايا طعامها في السلة، وأكملت مراقبة الإنتاج: - لدينا أشياء صغيرة في البيت نفعلها. قالت سندس: - آه، آجل.. وامتلأت عيون العاملات بحركات العاملين على امتداد مساحة المعمل، ودوران المكائن وتدفق البضائع المنتجة وحركة جامع النفايات وهو يمر بعربته بالقرب من ماكينتهن العاطلة، مثل متسول يجمع الهبات وحين لمحته سندس قالت منكدة: - ألا تقول لنا شيئا عن زوجتك الجديدة ؟! ضحك -أبو علي- جامع النفايات في المعمل وترك عربته بالقرب من طرف الماكينة العاطلة وحين لمحته مراقبة الإنتاج استدقت على شفتيها ابتسامة، قال أبوعلي وهو يخوص بعينيه ويمسد بيديه شعر رأسه الأبيض بحركة هزلية: - طلبت منها في أول ليلة أدخل عليها فيها أن ترقص لي ! وبدا وكأن العاملين يكرران تمثيل تمثيلية معادة عشرات المرات، قالت سندس: - وهل رقصت لك ؟! قالت مراقبة الإنتاج، مكملة: - وماذا تستطيع المسكينة أن تفعل غير أن تجيب طلبه ! فقالت العاملة الثالثة وفي عينيها توسل: - أفعل أمامنا كما فعلت عروسك في تلك الليلة ! قال هامساً: - كانت خجلة وخائفة وقد خطبها لي أهلي من الريف.. رفضت في البداية أن ترقص ، ولكنني أحضرت العصا فعرفت إنني سأضربها أن لم تفعل فرقصت كما لو كانت نعجة مريضة توشك على الموت ولم أر في حياتي عروساً مرتبكة وحزينة مثلها ، عروس لا تجيد الرقص وريفية جاهلة خائفة. وكركر ضاحكاً، ثم أخذ يحرك جذعه هازئاً من رقص زوجته السابقة، محركاً قدميه إلى الخلف كما يوشك على نطح أحد ما بعجيزته ويرفع يديه ثانية في الهواء ويفرج ما بين أصابع كفيه بحركة تشنجية مضحكة. والفتاتان تصفقان لعامل النفايات وهو يهز جذعه ويمد رقبته بشكل مضحك واكتفت مراقبة الإنتاج بالنظر إليهم بوجهها الشاحب وهم يمرحون وتمتلىء أذنيها بأصوات المكائن المزمجرة، وشبح ابتسامة غامضة تلوح على شفتيها وكلمات قليلة لم تستطع التفوه بها فبقيت محبوسة بين الشفتين ربما كانت جملة :- لا أبداً لن أكون تلك العروس التي لا تجيد الرقص ثانية أبداً...
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |