قصة قصيرة

حكاية عن "أكراد الجَنوب"!

 

صلاح برواري / كاتب وصحافي كردي عراقي / دمشق

selahberwari@gmail.com

 حدث ذلك في أواخر سبعينيات القرن العشرين، حين ذهب خالي (محمد صالح) وابنا عمَّينا (محمود) (شكري) إلى مدينة (النجف الأشرف)، لقضاء ما تبقى لهم من الخدمة العسكرية الإلزامية هناك.

 انطلقت صفارة الإنذار قوية في المعسكر، ذات يوم؛ فهرع الجنود للاصطفاف أمام الضابط، الذي صرخ في وجوههم قائلاً: "انظروا... أنتم لستم هنا للنزهة. هنا لا يوجد إلا وجع الرأس، وعلينا استئصال أسباب ذلك، للتخلص منه! هل فهمتم؟". بقي الجميع ساكتين، وكأن على رؤوسهم الطير!. عندها نفخ الضابط من فمه نفخة قوية وطويلة، وهو يقول: "حسناً... نحن مكلفون بقمع الأهالي هنا، وعدم السماح لهم بإقامة شعائرهم الدينية، بما تتضمنه من مجالس حسينية ومراثي...الخ. لديكم صلاحية ضرب واعتقال كل من ترونه يمهّد لهذه الشعائر، أو تبدر منه إشارة طفيفة إلى أدائها؛ بل وحتى لكم الحق في أن تسألوا الشخص الذي يبكي، عن سبب بكائه؟. وإذا لم تقتنعوا بالجواب فافعلوا به ما شئتم"!.

 وهنا جلجل صوت عريفٍ كث الشاربَين، له كرشٌ متدلية كخيش مليء بالبرغل: "سيّدي... هذوله راسهم يابس، شنسوّي إذا قاومونا؟".

 رد عليه الضابط مزمجراً: "انت مو زلمة؟ مو ويّاك سلاح؟ ولك انت شواربك ينربط بيهم حمار!. ما تستحي على نفسك؟، خايف، لو تظن الفشك من كيس أبوك؟. يالله ولي من كدّامي... ولا تشوّفني جهرتك. وزّع جنودك إلى مجموعات، وازرعهم بكل مكان. بسرعة، قبل ما أورّمك بهذي الخيزرانة"!.

 ابتلع العريف الإهانة، وهو يتصبّب عرقاً، وضرب الأرض بقدمه بقوةٍ، اهتزت لها كرشه مراراً، وصرخ صرخة مدوية: "أمرك سيّدي ي ي ي ي..."!.

 انصرف الضابط؛ فالتفت العريف إلى جنوده، وخاطبهم وهو يقضم شاربيه بعصبية متناهية: "يالله... ترَسِيّة... ألعن أبوكم لأبو اللي بلاني بيكم"!. وبدأ يقسّمهم إلى مجموعات صغيرة، لكل منها رقم معيّن، مذكراً إياهم بضرورة الإسراع في النزول من سيارات (الزيل)، عند توقفها في الأماكن المحددة لكل مجموعة. وعندما وصل الدور إلى خالي وابني عمَّيهِ، قال العريف: "شوفوا "كاكوات"...! انتم الثلاثة ويّه بعضكم وبسّ. يالله اصعدوا بالزيل". رد عليه خالي بهدوء: "بس سيدي... احنا مو مثل البقية... ما عندنا سلاح. شنسوّي إذا الأهالي ضربونا أو حاولوا قتلنا؟". تنهّد العريف وقال: "دقيقة... راجعلكم". وبعد لحظات عاد من غرفة الضابط، وهو يقول: "سيدي الضابط يكول: الأكراد ما ننطيهم السلاح... هاي هيجي التعليمات... العصي اللي ويّاكم تكفي... دبّروا حالكم"!.

 انطلقت سيارات الزيل مسرعة، كل منها في اتجاه معيّن. وعند كل مفرق شارع، كانت تقف بقوة تهتز لها أجساد الجنود، وتصطدم رؤوسهم بالجَنبات الحديدية؛ فيتقافزون منها مسرعين، وكأنّ السيارة تتقيّأهم!.

 توقفت إحدى السيارات أمام مدخل زقاق كبير، بدا شِبه مهجور. صاح نائب العريف: "يالله كاكوات... العصر ننتظركم هنا. انزلوا بسرعة... بسرعة". رمى الثلاثة بأنفسهم من السيارة، وكاد أحدهم يسقط على وجهه، لولا أن زميله مدّ له يده بسرعة.

 اختفت السيارة، واختفى معها صريرها المزعج. تلفت الثلاثة إلى بعضهم مشدوهين، لا يدرون ماذا يفعلون!.

 كسّر (محمود) جليد الصمت، قائلاً: "أنا من رأيي أن نجلس في هذه المقهى الخاوية، ونظل نتحدث وندخن حتى تنتهي مهمتنا، وتأتي سيارة الزيل لتأخذنا إلى المعسكر".

 ابتسم (محمد صالح) قائلاً: "ليتنا نستطيع ذلك، ولكن هيهات؛ فلا سكان المدينة يقبلون بذلك، ولا العريف!. نحن هنا غرباء، وفي ورطة حقيقية، وليس لنا إلا الصبر. المهم أن لا نتحرش بالناس، ولا ننظر إليهم عندما ينظرون إلينا. حتى اللغة العربية لا نجيدها بشكل كافٍ. وهؤلاء الشيعة، مثلنا، لا حدود لغضبهم إذا غضبوا"!.

 قهقه (شكري) قائلاً: "هؤلاء "أكرادُ الجَنوب"، يا ابن عمي! إنهم يفوقوننا حدّة في الطبع". تنهد (محمد صالح): "لو عرفتَ ما بهم يا ابن عمي، لهانت أمامك بعض مصائبنا؛ فهؤلاء..."، وهنا مرّت سيارة جيب عسكرية مسرعة، وأخرج ملازمٌ رأسه من نافذتها، صارخاً فيهم: "ها... أبو خليل، ليش واكفين؟ تحركوا"!.

 اقترح عليهما (محمد صالح) الذهاب إلى الدكان القريب منهم، لشراء علبة سجاير، ومن ثم التجول على غير هدى. والحرص كل الحرص على التحدث الدائم باللغة الكردية، وعدم التحديق في وجوه المارة.

 دلف الثلاثة إلى الدكان؛ فرؤوا صاحبه المسنّ متكوّراً على نفسه، بشكل غريب. كان قد ألصق جبينه بركبتيه المضمومتين، مُدخِلاً يده اليمنى في الفسحة الضيقة، ما بين الصدر والركبتين، وهو يلطم صدره بهدوء وألم، وجسده المتكوّر يهتز من البكاء.

 قطع (محمد صالح) على الشيخ خلوته: "السلام عليكم". رفع الشيخ الجليل رأسه بتثاقل: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته". وبدأ يمسح عينيه بباطن كفيه، بينما لحيته البيضاء الطويلة تقطرُ دمعاً. استقام في جلسته وفتح عينيه، تفرّس في وجوههم الباسمة؛ فرآهم شباباً وديعي المنظر، لا توحي وجوههم بالغلظة أو الإجرام. (محمد صالح) حنطي اللون، جميل العينين وشديد سوادهما، (محمود) أشقرٌ أخضرُ العينين وبهيّ الطلعة، (شكري) أسمر أجعد الشعر، يتحرك باستمرار، كمن يقف على صفيح ساخن!.

 فكر الشيخ في أن يسايرهم بالحسنى، طالما أن وجوههم لا توحي بالشر. فسأل أولهم: " انت شسمَك يا وليدي"؟. أجابه: "محمد...". ولم يكد يذكر المقطع الثاني من اسمه المركب، حتى شهق الشيخ صائحاً: "صلى الله عليه وسلم. انت اسمك على اسم الرسول (ص) يا ابني، ولازم تكون أخلاقك زينة".

 اغرورقت عَينا (محمد صالح) بالدموع، وتهدّج صوته وهو يخاطب الشيخ قائلاً: "صدِّقني يا عمّاه، نحن لا نضمر لك أي شرّ إن شاء الله. واحمد ربك أنك رأيتنا ولم ترَ غيرَنا". ثم ربتَ على كتف الشيخ قائلاً: " يا عمّي... والله العظيم نحن لن نمسّك بسوء". وهنا عيلَ صبر (شكري)؛ فصرخ في وجه (محمد صالح)، قائلاً له باللغة الكردية: "خذ منه علبة سجاير، ولنغادر هذا المكان؛ فإني أكاد أحس بالاختناق"!.

 تنفس الشيخ الصعداء وهو يقول: "الحمد لله... أنتم أكراد يا أولادي. آخ يا كاكا آخ... نحن أيضاً مضطهَدون مثلكم. الله يقتص لنا من الظالمين".

 وقف (محمد صالح) مشدوهاً، لا يدري ما يفعل... وهو يحس ببركان البكاء يكاد ينفجر في داخله. مد يده إلى جيب سرواله، وأخرج نقوداً قدمها إلى الشيخ: "أعطِني علبة سجاير، من فضلك". نهض الشيخ وهو يقول: "لا والله العليّ العظيم، لن آخذ منكم نقوداً؛ فأنتم ضيوف في أرض الحيدر أبي الحسنين (كرم الله وجهه)". وتناول من على الرف دزينة من علب السجاير، دسّها في عبّ (محمد صالح) هاشاً باشاَ، وهو يقول: "كلما احتجتم إلى السجاير، أو أي شيء آخر، تعالوا عند عمكم، وأهلاً وسهلاً بكم".

 أحس (محمد صالح) بدمعة حارة، تشق طريقها على خده الأيمن، وأراد أن يشكر الشيخ على لطفه، لكن الكلمات اختنقت في صدره.

 التفت (محمود) إلى الشيخ، وبدأ يشرح له الوضع، قائلاً إنهم قد زُوِّدوا بهذه العصي، بدلاً من البنادق، لأن حياتهم وموتهم سيّانٌ عند مسؤوليهم. وهم بالتالي لا يضمرون لأهالي هذه المدينة المقدسة، غير الخير ومشاعر المودّة؛ لكنهم يخشون الاصطدام بالأهالي، عند اضطراب الأمور، فلا يكون عندها من خيار لديهم، غير أن يكونوا قاتلين أو مقتولين!.

 أصغى الشيخ باهتمام، ثم ابتسم قائلاً: "توكلوا على الله يا أبنائي... فأنتم في أيدٍ أمينة. يمكنكم الجلوس عندي، هنا في الدكان أو في البيت، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً". ثم التفت خلفه، وأزاح بيده ستارة تغطي الحائط، وقال: "انظروا... هذا الباب الصغير، داخل الحائط، يؤدي إلى باحة منزلي المجاور. يمكنكم استعماله عند الضرورة؛ كذلك يمكنكم الآن التجول في الشارع المقابل، لتبديد أي شك لدى مسؤوليكم، الذين يجوبون الشوارع ككلابٍ مسعورة. لكن لا تبتعدوا عن ناظري كثيراً... ومتى أحسستم بأي خطر داهم -لا سمح الله- فسارعوا إلى دكاني هذا، وستجدون عندي الأمان بإذنه تعالى. وإذا حاول الأهالي مهاجمتكم، على حين غرّة، فلا ترفعوا عصيكم في وجوههم، بل أشيروا بأيديكم إليّ، وقولوا لهم: نحن ضيوف الشيخ أبي العباس".

 انطلق الثلاثة، شاكرين للشيخ نبل مشاعره ورقة أحاسيسه. وبدؤوا يذرعون الشارع والحي، جيئة وذهاباً. وكلما أحسوا باقتراب الخطر، سارعوا إلى دكان (أبي العبّاس)، يحتسون فيه الشاي، ويدخنون، ويتجاذبون معه أطراف الحديث، وسط ذهول وحيرة أهالي الحي، الذين لم يدركوا كنهَ هذه العلاقة الغريبة، بين هؤلاء الجنود وشيخهم الجليل. ولم يجرؤ أحد منهم على سؤال الشيخ عن ذلك، بل لم يجرؤ أحد منهم على رفع عينيه عن الأرض، في حضرة الشيخ أبي العباس!

 

مصائر أبطال القصة:

 ترك الثلاثة الخدمة العسكرية، عند أول إجازة مُنحت لهم، لزيارة أهاليهم في كردستان، والتحقوا بقوات "البيشمركة"، وأبدوا ضروباً من الشجاعة والبسالة، شهد لهم بها رفاقهم في السلاح.

(شكري): استشهد في عام 1986، إثر انفجار لغم تحت قدميه، أثناء العودة من عملية عسكرية مظفرة، ضد قوات النظام الصدامي الجائر، حيث بتر اللغم إحدى قدميه؛ فحمله رفاقه مسافة طويلة، وهو ينزف بغزارة، والقذائف تتساقط عليهم من كل حدب وصوب، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، في أول محطة استراحة وصلوها.

(محمد صالح) و(محمود): لا يزالان يخدمان في صفوف "قوات بيشمركة كردستان".

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com