|
قصة قصيرة عرس في مقبرة علي السباعي / الناصرية
كنت احسب انني اعيش في عزلة موحشة كل ما فيَّ ينتمي الى الماضي، حتى انفاسي فأنها تصدر عن الوحدة المتفردة بداخلي. اكتشفت من يشاركني وحدتي. انظر الى الشمس الغاربة، كأنها قرص احمر ملتهب شرخ حياتي الى نصفين:- عزلة، وخذلان. هكذا! عندما اقوم بجولتي في تفتيش المقبرة خوفاً من عبث السراق، امرأة في عقدها الرابع. تلف حول وسطها عبائة بدا جسدها مترهلاً تسحب انفاسها بصعوبة كأنها قنينة تحشر في الماء عنوة فتطلق فقاقيع الهواء بعنف وجدتها تنبش في احد القبور، نهرتها قائلاً:- - ماذا تفعلين؟ كخفافيش مذعورة انتفضت، لتقول بصوتها المخنوق:- - افزعتني! الا تراني اتزين لك- في ليلة- زفافنا...! انظر متلعثماً لكن لا احد هناك غيري، سألتها بحدة:- - اتسرقين قبور الموتى يامرأة؟ انا لا اسرق. فقط ! اتزين لك. اصبحت مذهولاً بما يجري، تستطر قائلة بصوتها الفقاعي الذي يملاء سكون المقبرة ببقبعة مزعجة:- - تعال شاركني فرحتي في زفافنا، اجلس بجانبي نشاهد جميع الموتى قد حضروا عرسنا، وهم يغنون، يرقصون، ويصفقون لنا. شلتني كلماتها تراخت يدي الممسكة بالسلاح، لاسمعها تجتزىء القول:- - عملت لك سرير الزوجية فوق احد قبور اثرياء مدينتنا. كنت دائماً واقعياً ولم احلم قط بأن اكون خيالياً. جلت بنظري متفحصاً، تخترق عيوني العديد من الهياكل العظمية تصطف على شكل ازواج العشرات من الجماجم موزعة على مواضع منتخبة باتقان وقد رتبت على شكل ازواج فوق القبور. علمت ساعتها ان هذه المرأة تعيش جنوناً يشابه حلقات الخوف حينما تنداح لتكبر متحوله الى هوس مدمر، سحبت حبلاً بجانبها، تراجعت مذعوراً الى الوراء، اصدرت الهياكل العظمية قعقعة مزعجة بفعل تصادم العظام مع بعضها، قالت بسذاجة - انها تصفق مرحبة بقدومك. حاولت استرجاع جرأتي، لم افلح، نقلت بصري بينها وبين الهياكل العظمية، الجماجم التي تحدق بي بماحاجرها الفارغة كأنها صقيع بارد يجمد الاجساد فلا تبقى سوى النظرات البليدة، ارتفعت القعقعة تصدر من حولي لتزعزع يقيني بما اشاهد، تحسست وجهي، قرصت يدي بقوة تأكدت بأنني لم اكن احلم، والشمس بانحداها نحو الغروب تترك صبغتها الحمراء كالدم تعتمر بها قمم القبور، لم يبق بداخلي جزء الا وارتجف، راح جسدي يتصبب عرقاً غزيراً داهمني شعور بأن نذير شؤم ستحمله الساعات القادمة، ارتفع صوتها كالانفجار:- - سنزف خلال لحظات. اغمض عينيًّ لاراحتهما، اشعر ان قلبي السجين يقف امام فرقة الاعدام منتظراً موته، انتفض فزعاً، يداها ذاتها القبضتين الوحشيتين تعتصراني بقوة وددت البكاء، نعم! البكاء لما انا فيه من تمزق. لعنت اليوم الذي عملت فيه حارساً للمقبرة، رن صوتها وسط شعوري بالضعف والوحدة: - لاول مرة في حياتي اشاهد عريساً غير سعيد بزواجه. دفعتني بعيداً عنها، لتقول: - لماذا خطبتني؟ اختنق صوتها بداخلها، راحت شفتاها ترتجفان بشدة، عيناها السوداوان الوحشيان تهطلان دموعاً مخضبة بالكحل، احسست بانني كطائر البوم وحيداً الا من: مشاهداتي، تعطلت حواسي داهمتني قشعريرة برد كمن سكب عليه ماء بارد في شتاء قارص، اخذت يداها، اجلستها فوق احد القبور قائلاً: - اجلسي! سيكون لك ما تشائين. كانت مصرة على البكاء، لتذكرني بأيامي الماضية التي انفقتها في مراقبة عوائل الموتى وهم يبكون موتاهم، البث مضطرباً لبعض الوقت لأسألها بعدما لوعني بكاؤها: - علام تبكين؟ تدحرج صوتها بداخلها مندفعاً كصخرة سقطت من علِ، قالت وهي تكفكف مطرها الاسود: - وحيدة ابكي كل شيء في حياتي بكاء في مأتم. غريباً وسط الموتى اعيش شعوراً بالياس شرع يقتات عليّ يتأكلني تعب مزمن لما اشاهد من فواجع قلت بقناعة: - ابكي! فالدموع وحدها كفيلة بارحتك. ارتدى الليل ثوبه الجنائزي الاسود، اكتست القبور بظلام اب الحالك، نظرت منذهلاً ، مندهشاً من المرأة، طلبت علبة ثقاب، اعطيتها ما طلبت، انبعث الضوء راجفاً بوهن بدد ظلمة اب، استطعت فيها مشاهدة وجهها المتغضن تعباً، هامت تزرع النيران في محاجر، العيون، كأنها فلاح يوزع شتلات الرز في ارض منقوعة في بالمياه، تضيء جميع الشموع داخل المحاجر، انتشر النور قادماً من عصور سحيقة، موحشة، ليملأ المكان برائحة الشمع والجماجم المحترقة قلت مستفهماً بقسوة: - اسعيدة انت بضوء الشموع؟ قالت بلهجة مستهزئة: - قل لي بربك! هل شاهدت في عمرك كله عروساً حزينة يوم زفافها- يوم سعدها- اليوم الوحيد في حياتها الاكثر سعادة؟ اغضني كلامها، قلت لها: - عن اي زفاف تتحدثين؟ واين الزوج المزعوم؟ ومن سيرضى بك زوجة له؟ من...؟ انها غيمة بدأت تهمي مطراً، اختلط صوت ضحكتها بصوت صرير الصراصر الحاد، قالت بعدما فرغت من ضحكتها المستهزئة: - انت من سيرضى بي! خرقت بدبوس طويل حاد لسماعي كلماتها، قلت غاضباً: - امجنونة انت... امجنونة انت؟ ... تكلمي. تجيب بهدوء: - اجل! مجنونة... مجنونة لانني اقتات من السعادة كما العصافير التي تعيش سعيدة وهي تزقزق قبل التزاوج، مجنونة الان في اعماقي تسكن امرأة... انثى بأنسدال ستائر الليل تنفجر بركاناً من الشهوة: فاعيش زفافنا كل ليلة... ينتهي بنشوة عابرة مع احد العابرين. حينها انام نوماً عميقاً... عميق جداً. اذهل لكلماتها، امتثل مرغماً لقسوة الحياة الحزن يصر بداخلي، يكز بقوة ساحقاً بأسنانه القوية على مشاعري جعلني اغامر قائلاً: - سأحضر يوماً لنعيش زفافنا يبدد وحشتنا، بريق غربتنا ضحية للعرس. لكن! بدون جماجم وهياكل لانها امانة في عنقي. فقالت بنفاذ صبر: - لماذا غير هذا اليوم؟ الان سنحي عرسنا. صرير الصراصر حاد وموجع، تقول ودموع الفرحة تترقرق في عينيها: - سأنجب لك العديد من الابناء. وبخت نفسي لتهوري، لتهوري قلت غير راضٍ عن اقتراحها: - اتردين اتنجبي مجانين. تكلمي! اتريدين زيادة عدد المجانين العالم؟ ام تراك تنجبين مجانين من النوع المتفوق؟ ها... تكلمي ... وتقاطني صارخة: - كل الرجال متشابهون قساة القلوب، بلا مشاعر اتسمع يارجل... اما المجانين فمختلفون، طيبون، ومشاعرهم نبيلة. لم اعانِ مثل هذا الاحساس الذي راح يمزقني بين شعوري بالعطف عليها، بين محاولتي لملمة جنونها المتبعثر، واحتوائه، نشطت بداخلي مرارة الحياة، وبأنني معشوشب هنا في المقبرة، كأنني عشب ضار يقتات وجعاً، يلتبسني الانهاك كوني زمناً مضى، بل فكرة سرعان ما تناقضها حياة ارهقها الطوفان بين القبور حارساً للموتى. اكتشف صورهم بتجمعهم في عرس المجنونة، قلت بعدما انحسرت كلماتي في احد زوايا جسدي، انتشلتها متسائلاً: - ما اسمك؟ كنها مغامر يتسلق جبال حصاروست، لتقول: - تاجية. ابدت اعجاباً بأسمها، سألتها من جديد: - ماهي قصتك؟ تحوم كخفاش، عيناها السوداوان اشبه بغرابين يبحثان عن غصن يحطان عليه، لتقول بلغة استكشافية لبواطن الامور: - لقد زوجني اهلي وان بعد بنت الرابعة عشرة من عمري، لشخص يدعي بأنه: تاجر! انجبت له خمس بنات، باعهن زوجي لاحد بيوت الدعارة هه... لانه لا يستطيع اطعامهن في ذلك الزمن الرديء. انتهكتني كلماتها، رحت اطوف صارخاً بغابة القبور الصماء، اصرخ محفزاً كل الموتى على -النهوض- من سباتهم الأزلي، تشاركني ((تاجية)) الصراخ والطواف بين القبور، تبكي بناتها، حظها، وألمها الذي زعزع كياني، مزق يقيني بالحياة، امسكتها من يدها مهدئاً، داهمني منظر الدموع السابحة في الكحل الاسود، قلت لها: - اجلبي طبولك، دقي، اقرعي لها ايقاع يوقظ الموتى، فهم اصدقاء اليوم... دعي اصابعك تضاجع طبول الفرحة. تهلل وجه ((تاجية)) وهي تقول: - افرحوا يا امواتنا وابتهجوا، فأن (( تاجية)) ستزف الليلة لعريسها. تزغرد، تقرع طبولها، تراقصت نغماتها فوق جذع شجر الكافور المنتصبة وحيدة وسط القبور، لتقول ثانية: - انذر نفسي لمن يساهدني في العثور على بناتي، صرخت طبولها: - اهب نفسي لمن يوقظ منسي هذا العالم. تستفيق عيون الفجر، تدعك عيونها بأياد من برد الصباح، يتثائب الفجر ندياً، يطالعني وجهها مغرداً بالفرحة، يداها تعملان على قرع الطبول، اندفع محركاً الهياكل العظمية، والمحاجر بعيونها النارية تبارك عملنا، نوقظ الموتى، يرتفع صراخنا مختلطاً بقرقعة العظام، وازير الشموع المحترقة، سكتت الصراصر، راحت نسمات عذاري تنعش اجسادنا المتعبة، قلت لها: - اتعلمين ان البشر مقيدون حتى وهم في مثواهم الاخير. فكيف يبحثون عن بناتك؟... دعينا نحررهم من قيودهم. تقاطعني متسائلة بغباء: - نحرر من؟ الاحياء ام... قاطعتها بلهجة رسمية: - طبعاً الموتى! عارية(( تاجية)) تستلقي، خيوط الفجر تغتسل بدمع الشموع طاردة كل اثر للنعاس، ايقنت بأنني من وضع الشمع الاحمر فوق بوابة الليلة الماضية، فسال الشمع الاحمر شوقاً في انحدار ظلفتي البوابة السحرية. تسَّيد الفجر، اغمضت عيون النار اجفانها، تراقصت، خشخشات ناعمة اصدرتها اغفاءتها المتثائبة نشوةً، فردت الحياة اجنحتها، راحت تنظف ريشها الزاهي بمناقير قدت من وهج الشمس، شرعت غربان المقبرة بالبحث عن غذائها، غراب اسود كبير بجناحين ابيضين عظيمين يحوم فوق ((تاجية)) المضطجعة على الارض، مباعدة ساقيها ما وسعها، مغرية الغراب على النعيق. استفاقت مذعورة، تلفتت كمن داهمها لصوص سرقوا سعادتها منها، راحت تنشد منتحبةً: شعندي وشخليت تنعك يالغراب تنذكر ما تنشاف خليت الاحباب ازداد الغراب صلفاً، ينعق بعناد بينما ((تاجية)) ترتدي ملابسها، صرخت بهستريا مؤلمة: - اغرب عني... اجئت لتعلمني بنذير شؤم... اغرب عني... غادرتها متجهاً الى مهجعي كي انام بعد تعب الليلة الفائتة، قلت وطعم اللذة المجنونة يقومُ اسناني النخرة: - قولي للغراب: سكين وملح. فغمزت(( تاجية المجنونة)) بعينيها الباسمتين، وصرخت بجنون: - سكين وملح... سكين وملح.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |