قصة قصيرة

الانفجار

لؤي قاسم عباس

loaay_kassim@yahoo.com

دخلت أم محمود بملامحها وعباءتها العراقية وبصحبة ابنها الصغير ( عبد الله ) إلى سوق الخضار لغرض التسوق والعودة إلى البيت من اجل إعداد الطعام قبل أن يحين موعد الغداء حيث تنتظر بقية أفراد العائلة بفارغ الصبر عودة أم محمود ليسدوا رمقهم بما تحمل إليهم في سلتها من طعام بسيط هو ابسط ما تقتات به العائلة العراقية ، لقد تعودت ام محمود ان تحمل سلتها فوق رأسها وتترك ليديها الحرية الكاملة لتمسك باحداهما معصم ابنها عبد الله البالغ عمره 7 سنوات الذي يأبى ان يفارق امه ُ اينما حلّت وحيثما رحلت ، أما يدها الأخرى فتستعملها لانتقاء حاجياتها من الباعة المنتشرين على جانبي السوق ...

لم يكن لأم محمود معيلٌ سوى ابنها البكر محمود الذي يعمل عامل بناء وهو يكد على أمه وأخواته الثلاث وآخر العنقود هو ( عبد الله ) أما زوجها فلقد خرج ولم يعد منذ ثلاث سنوات ولم يعرف مصيره لحد الآن ...

لقد تعودت أم محمود ان تتسوق لقوت يومها فليس لديها ما يكفي ليكون خزيناً للغـد ...

أدمنت أم محمود تجوالها في سوق الخضار للبحث عن الأنسب والأجود ( اقل ثمن وأجود نوعية ) معادلتان صعبتان تعودت أم محمود حلـَّهُما بسهولة ولكن بعناء وصبر كبير ...

وقفت ام محمود أمام بائع الطماطم وهي يعـلو بصوته ( طماطة عراقية ب750 دينار وبس ) وأسرع من أي خبير اقتصادي حول تفضيلات المستهلك قررت أن تستخدم قانون (جفن) * للسلع الدنيا ، ووضعت ْ لنفسها خياران لا ثالث لهما أما أن تشتري طماطم مع الباذنجان أو البطاطا حيث تعمل نصف كمية الطماطم مع ( المرقة ) والباقي تعمله ( سلطة ) مع ( الخيار ) أو أن تشتري علبة معجون صغيرة بـ ( 350) دينار ... وبأسرع من لمح البصر اختارت ام محمود الحل الامثل لها وهو الحل الأول - فهي تفكر بالكمية على حساب النوعية - في ظل هذه الأحوال ...

كان عبد الله يجذب عباءة أمه بين الحين والآخر كلما رأى بائعٌ ( شامية ) او بائع ( الحامض حلو ) او بائع البالونات ... وكانت تحتال عليه ( عندنا في البيت ) او سأشري لك ذلك فيما بعد . لكن عبد الله اخذ يجذب عباءة امه بقوة وبإصرار كبير حين رأى على الجانب الآخر من لطريق بائع يبيع العلم العراقي قد تجمهر الناس من حوله لم يترك عبد الله لامه أي مجال للتهرب او الاحتيال عليه فلقد اصر على شراء علم العراق لوضعه فوق سطح منزله فلقد أمتلئت سطوح منازل الحي وتزينت بألوان العلم العراقي ، أخذت أم محمود كيس الطماطم بعد ان دفعت الحساب للبائع واتجهت صوب بائع الأعلام لتلبي صراخ ولدها عبد الله ، وعندما أقتربت من البائع عرفته انه جارهم كريم ، وبعد ان حييتهُ،سألتهُ :- بكم سعر العلم ؟ . اجابها كريم بعد ان ردّ التحية بأحسن منها بـ( الف دينار ) . قالت بلهجتها العراقية ( يمه بلاش ) ... اجابها البائع كريم نعم يا خالة أم محمود . وأخذ يقسم باشد الايمان بأنه لم يقصد ان يتاجر في بيع العلم العراقي وأنما كان جل همّهُ ان يرى علم العراق مرفوعا ً فوق كل مباني المدينة وانه يبيعه بسعر كلفته ُ .

 أشترت أم محمود العلم ودفعت الف دينار للبائع فلقد قررت ان تستغني هذا اليوم عن وجبة طعام لغرض ان ترفع راية العراق فوق سطح منزلهم المتواضع .اخذ عبد الله العلم وتناول من الارض قصبة مرمية في الطريق ليجعلها سارية وما أن اكتملت الراية مع ساريتها حتى أخذ عبد الله يلوح بها في الفضاء معلناً انتصاره فلقد نال مراده ...

 * * *

ودّع عبد الرحمن أهلهُ وعيالهُ وحبس دموعه من ان تنهمر فينكشف امره فلقد عُهـِدَ اليه بعملية استشهادية لم يعرف سرها ولم يطلع على مظمونها وقبل ان يخرج من بيته حرص على ان يتوجه الى حجرته ليختلي بنفسه وتناول ورقة كتب فيها وصيته ُ جاء فيها ( هذا ما اوصى به العبد الفقير الى رحمة ربه عبد الرحمن الى اهله وذويه ان لاتشقّوا علي جيبا ولا تخدشوا علي خدا ولا تقولوا ما يغضب الرب سبحانه فانّي ماض ٍ الى لله ورسوله ) ووضع الوصية في ثنايا القرآن الكريم وبعد ان قبّل القرآن تناول صورة لعلم العراق كان يحتفظ بها في مكتبه وقبّل مسح بها جبينه ودموعه التي انسكبت رغم ارادته .

كان في انتظار عبد الرحمن امير خليته حيث اصطحبه الى مكان مجهول واعطى له الاوامر بأن يتوجه جنوب غربي العاصمة وبمسافة تبعد 98 كيلو متر حيث سيكون هناك بانتظاره الشيخ ابو مهاجر وسيتصل بك على رقم هاتفك الجوال لمعرفة مكان وزمان واليه اللقاء الذي سيتم بينكما ... وقبل الرحيل ودَّع امير الخلية ودعا لعبد الرحمن بالموفقية والنجاح في اتمام مهمته على اتم وجه ...

سافر عبد الرحمن وفي الطريق كان يدعوا الله سبحان ان يحقق له تلك الامنية المنشودة الا وهي نيل الشهادة في سبيل الله والوطن .

بعد ساعتين من مغادرته وصل الى المكان المحدد ، لم ينتظر طويلاً فلقد رنّ جرس جواله الخاص .كان ابو مهاجر على الجانب الاخر من الجوال يتحدث مع عبد الرحمن ، وبعد ان تأكد ابو المهاجر من خلو المكان من الرقابة جاء لى عبد الرحمن واصطحبه الى المدينة حيث وضعت السيارة داخل حدود المدينة واعدت للتفجير واخذ ابو المهاجر يشرح لعبد الرحمن خطة الهجوم وآثارها على ارباك الوضع العام وافشال اسطورة المدينة المحصنة لم يكن عبد الله يعي ما يقوله ابو المهاجر فلقد اراد الانسحاب من هذا المكر الذي وقع فيه ، فانه ليس في هذه المدينة ما يدل على خروجهم عن دين الله فهو يسمع في هذه اللحظات صوت القارئ يتلوا كتاب الله من على مآذن المدينة .. وها هي نساء المدينة يرتدين الحجاب الاسلامي وليس فيهن السافرات والمتبرجات ... ثُمّ ان هذا العمل لا يتناسب مع ما جاء من اجله من نيل الشهادة ! فاي شهادة تلك حين تستهدف أناس ابرياء لا ذنب لهم ! وما ذنب الباعة المتجولين واين وجه المقاومة في ذلك؟ وهل المقاومة الباسلة تعني ان تقتل ابناء شعبك ؟ ! أسئلة ظلت تدور برأس عبد الرحمن ، احس ابو المهاجر بأن عبد الرحمن قد بدأ يتراجع عن موقفه ، فبدأ يسرد له احاديث الشهادة في سبيل الله وما يناله الشهيد من مرتبة عظيمةٌ عند الله حيث يلقاه الله ورسوله فور بلوغ روحه التراقي ، فأجابه عبد الرحمن اذا كانت الشهادة بمثل ما تقول فلما لا تقوم انت بهذه العملية المباركة وتتركني ارحل الى حال سبيلي . ادرك ابو المهاجر أن صاحبه عبد الرحمن قد بدأ بالتراجع عن موقفه ، فقال له حسناً سنلغي المهمة الموكلة اليك استقل هذا المركبة وسأكون بأنتظارك على الجانب الاخر من المرآب خرج ابو المهاجر واستقل عبد الرحمن المركبة المعدة للتفجير وهو لايدري ما أضمر له ابو المهاجر من سوء في داخله . سارت السيارة وعندما وصلت الى مكان مزدحم حيث يتجمع الناس حول البائع كريم أخرج ابو المهاجر ( جهاز التحكم عن بعد " الريموت " ) وضغط زر التفجير لينهي حياة عبد الرحمن ،حيث أهتز المكان بدوي الانفجار في هذا المكان المزدحم وعلت غمامة سوداء في فضاء المكان ووتناثرت حمرة الدم مع قطعٌ من الاشلاء المتناثرة وما ان انجلت الغمامة حتى توضحت الصورة فعبد الرحمن صار رماد ولم يكن له اثر ، وام محمود تبعثرت اشلائها في المكان وعبد الله لم يجدوا له اثر سوى قبضة يده التي امسكت سارية العلم واما بائع الطماطم فلقد مزج دمه واختلط مع سلعته ، واما كريم فلقد استشهد في موضعه الذي امتلآ بلون الدم وحوله تناثرت قطع من اعلام العراق.

 

 

ـ تفضيلات المستهلك وقانون جفن مصطلحين اقتصاديين فالاول يعني ان المستهلك الرشيد قادر على اقتناء تفضيلاته بما يتلائم ودخله فهو يعمل توليفة مناسبة لهذا الغرض...

ـ اما قانون جفن فهو ما يعرف بسلع الفقراء وذوي الدخل المحدود الذي يلجوؤن الى اقتناء السلع الرخصية الدنيا في ظل زيادة الاسعار مثل البطاطا والباذنجان في الصيف فيزداد الطلب على هذه السلع رغم زيادة اسعارها ...

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com