|
قصة قصيرة زليخات يوسف علي السباعي / الناصرية
الحبوبي بعباءته الكاكية يرتسم على ملامحه حزن اسمر يشغل حيز الصمت وسط الناصرية والناصرية فتاة التناقضات، زليخة التي التهمت تفاحة الخطيئة الاولى فتكومت بين خطي عرض ثلاثين واثنين وثلاثين. برزخان وهميان كنابين عاجيين للذئب الذي اكل يوسف. اه، يا يوسف! زليخة مدينة وحيدة محاصرة رسمتها اصابع مبتور/ وقطعن ايديهن / على خريطة ورقها عذابات المحاصرين وقد اذهلتهم صيحات معلم تاريخ يضع حبل المشنقة على عنقه قائلاً: - سأشنق نفسي ولا ارى محاصرين لا يستحقون الحياة!!! دهست اخر ذؤابات شمس النهار اقدام المحاصرين يركضون في برزخ مظلم، اجسادهم تراكم في قيعانها قلق عتيق. متصادمين. متلاطمين، مذعورين داخل مديات متخثرة بهواجس خوف بارد. شل حركاتهم ضجر افسد حياتهم كما تفشل الامم المتحدة في اتخاذ قرار. يدور المحاصرون في الطرقات بانفلاشات راحت تنشطر، تتكاثر داخل قيعانها معتمة تخثرت بنداءات المعلم: افيقوا. رحى طاحونة الحصار تطحنكم. المئذنة كبندول ساعة عاطلة لايتكتك. توقف عن التكتكة متبوئاً بخبث مكانة عالية في فراغ رمادي تطعنه اجساد متراكمة تشاهد المعلم وقد احكم ربط الحبل بذراع تمثال الحبوبي. الاف الحركات المتعبة لأيادٍ تزيح مشاهدات هزيلة ترسمها تلوحيات غليظة تنبع من الارصفة المحيطة بالتمثال، صاح بصوت حشرت فيه نبرة عذاب مكتومة: افيقوا. ان الحصار يعنيكم. زعيق، صراخ، طنين، هدير، هتاف، وطنين طفح سائحاً من: صباغي الاحذية. بائعي الشاي والفلافل. جحافل الذئاب بطنينها المقرف، بائعي الكتب القديمة، كناسي الشوارع، مضاربي الدولار، ومنبه سيارة جمع النفايات التي كتب على جانبيها: متى تينع الرؤوس؟ تزيح الناس منسكبين في ساحة الحبوبي يشاهدون المعلم يدفع الكرسي بعنف. سقط، شهق، المحاصرون مبتعدين بضع خطوات الى الخلف، الحبل بيد الحبوبي فارغ يتأرجح. يتكتك، يتأرجح بصمت لاهث يتعثر بدمدمة دائخة تغلي في صدور الناس عجباً مستفهاً عما يجري. نظروا الى رؤوس بعضهم هم بلا رؤوس يكابدون عناء اجساد انتزع الكسوف رؤوسها فبقوا مجرد اشباح غبارية تؤدي طقوس: الحلم ، الضياع ، وجوع لا ينتهي لجسد زليخة. كنت الظلمة اخر مناحر الضوء بمقشة الكسوف التي هرست رؤوس المحاصرين بين رحى ستراتيجيتها رؤى رؤوس اينعت وحان قطفها، عاد المعلم صراخة: سأشنق نفسي ولا ارى محاصرين لا يستحقون الحياة!!! رخ الكسوف قذف انفاسه مضخمة بسحابات دخانية سميكة العتمة جعلت مارد القمقم يستفيق داخل شرنقته النحاسية مهملاً وسط جدرانها المجدورة بصدأ اخضر مستدسم، يزعق المعلم محاصراً بانكساراته: - لا شبيك ولا لبيك. فقط الحصار بين يديك. ملت طرقات المدينة خطوات ابنائها كما تمل الكف خطوطها، صبية المدارس يطوفون في دروب لفها الغبار يضربون بأكفهم الدبقة على كتبهم هاتفين: - من انتزع الرؤوس ؟ اثار خطاهم اختفاءات مسورة بحصار مد اسواره عالية حول جسد زليخة، مدينة بلا رأس. زليخة بلا فضيحة تبحث في بقايا اسلحة الحرب المحطمة عن اصابع صويحباتها، زفر الرخ دوامات انفاسة سحباً لاهبة اسفرت عن انفجار يلط اشعة ايقظت ((سنة لوعة)) من رقدتها الازلية. استفاقت الدماء مندمغة مع اختلاطات بقايا اطياف ضوء الانفجار الذي تثاءب ممطوطا كغرغرة الم توجعت في الحلق بسخونة بترت يد زليخة تلك اليد التي قطعت تفاحة محرمه، صخب الاجساد الملتئمة انسلخ متفقا من شرنقة الرهبة بانفراطات دموية تصب ممزوجة مع حطام اعلى المئذنة. رماد اسلحة الحرب. جثث مطمورة بتراب كاكي رقطة دم زليخة وهي تنبش التراب، فسألتها ألسنة الفضول:- - عم تبحثين؟ اجابت:- - / وقطعن ايديهن/ تساءلوا مستغربين: - اية اياد؟ قالت:- - الايادي التي قطعت التفاحة المحرمة. ارتمت زليخة بارتعاشات زلزالية ملتقطة بيسراها كفها المفقود / تفاحة الخطيئة / يزينها خاتم ذهبي مرصع بفص كبير من حجر ارزق كريم، وضعت كفها المبتور تحت نعلها المتسخ برماد الدم، راحت تنزع من اصبعه الاوسط خاتمها. سكون سميك ضبب اهل المدينة وهم منشدون بتعجب طوق اجسادهم كالمعاطف، لوحت بخاتمها المرصع بفص من دماء الجلاتينية وهي تترنم بمواويل اخذت شكل نوافير الخيبة تطلق الاهات والاصابع. الاصابع والاهات، فيتصاعد شدوها الطروب حارقا عتمة الكسوف (( شقي من لعبت به الاوهام.....)). الكناسون يمسكون بمكانسهم المتحركة كبناديل ساعات عديدة يرددون تعازيهم الحماسية، منشدين بشقاء ابدي محاولين كنس نفايات الانفجار:- - الحياة قمامة هائلة والاخرون لايكفون عن اضافة المزيد. اخترق جامع نفايات حشد الكناسين يدفع امامة عربة جمع القمامة محملة بانواع مختلفة من الرؤوس، ينادي بصوت الأخن:- - رؤوس للبيع...... رؤوس للبيع...... رؤوس للبيع!!! وقف ابناء المدينة اشباحا بلا رؤوس يلفهم ذرات كحل بلورية متآصرة محاصرة اجسادهم الواهنة بحصار جديد. حرب غير معلنة والحرب الغير معلنة حصار لن ينتهي، ومعلم التاريخ يقف بجانب الحبوبي يمسك بحبله سائلاً طلابه بحرقة:- - من المحاصر؟ ومن المحاصرون؟! تباشر سؤاله حاصرتها طلائع اسئلة زليخة:- - من حاصرك اجابها:- - اخوتي! كررت:- من حاصرك؟ اجابها مجهدا:- - رؤوسكم! الحت:- - من حاصرك؟ اجابها متضايقا:- - ذئابكم! قالت:- - واجهها. سالها:- - كيف؟ اجابت:- - حاصرها. قال:- - حاصرتها. قالت باستهزاء:- -انك تحلم. قال:- - انا حاصرتها. قالت ضاحكة:- -انك لن تحاصر سوى نفسك. اخترقهم جامع القمامة وهو يعرض بضاعته منادياً: - رؤوس للبيع... رؤوس للبيع... رؤوس للبيع...!!! تجمهر المحاصرون متدافعيين متزاحميين على عربته، شرعوا ينفحصون بضاعته، كل شخص اختار رأساً يناسبه، رجل يعتقد كرسياً للمعاقين دفع عجلات كرسيه مخترقاً الحشد، دهس قدم المعلم، لوح المعاق بذراعه الضخم ذات الوشم المزرق/ حياتي فداك يايوسف/ متسئلاً بغلظة: - هل انت اعمى؟ اجابه المعلم في اكتئاب: - محاصر بلا رأس! لكمه هائلة لرأس معدة المعلم جعلت جسده يترنح بصراحة الم دوت محملة بأوجاع سنة لوعه: - اين الله؟ تصارعت قبضات البسالة تكيل اللكمات لاجساد كسيحة فتحطمت رؤوس، دهست رؤوس، قذفت رؤوس، تفتت رؤوس، سقطت لإثرها عربة المعاق، حاول ركوبها ثانية، فشل، فصرخ جزعاً: - انها قدري! المعلم يراوغ بجسده المتحفز موجة لكمات هستيرية كالتها له الايادي المتصارعة، توجهت لكمات عشوائية غاضبة حطمت مرآة صدره، زمجرة متأوهاً: - سأشنق نفسي وأرى محاصرين... عارضته زليخة بصوت معطوب قائلة: - ولدت لأذيقكم مرارة الجبّ. ضاع صوتها مشمعاً بدموع دمى ترتدي بساطيل سوداً ثقيلة تتخبط في اتون دوائر وهمية حرب وحصار. اماطت اللثام عن زمن الطواطم المتراصفة كساعات عاطلة تكدست فوق رفوف مصلحيها، امسك احدهم بخناق جامع القمامة. صفعة. صفعة. صفعة. تساءلت زليخة: - لمَ صفعته؟ اجابها وادماء تلوث قميصه: - لقد عقدت صفقة تجارية معه كوني انحَت رؤوساً من الشمع بأشكال واحجام والوان مختلفة لابتاء مدينتي... قاطعته قائلة: - ذئب. استطرد النحات غاضباً: - بدوره يبيعها باسعار رمزية/ مساعدة مني لحل ازمتنا الحالية والربح مناصفةً - موبوؤون بالوهم... جار معلم التاريخ منهمكاً يفصل من عباءة الحبوبي اكفاناً لاصابع الطباشير، تراجع المحاصرون مأزوومين بين فكيّ مقص كبير حاد، منسكبين فوق الصراط يتمايلون بنفايات الخوف يميناً، بقذرات الاوهام يساراً وبوساخات الوسواس الى الخلف تحثهم على عبور الصراط كلمات معلم هرم مل اكل التفاح المحرم من شفاه زليخة، قائلاً: - في اخر العمر يصبح الرأس سلة مهملات. تعكز الظلام على مئدبة الجامع المهدمة كأنها عصا موسى التي ضربت في الماضي البحر واليوم تضرب / الحصار / فينفلش الكسوف منحسراً وعلى مهل تشرق شمس عذراء وسط سماء غبارها بنفسج مجذور بغيمات رمادية تتمطى في عالم دخاني كقطط بلا رؤوس منذورة تنفق عمرها تجوب طرقات تنقب في المزابل، تقلب صفائح القمامة تتعثر بشرنقة نحاسية مهملة فاستيقظ المارد داخل قمقمه محاصراً بهم عتيق، نادى المعلم من مكمنه متأبداً: - لا شبيك ولا لبيك. الان حصار جديد بين يديك. ************
توحمت زليخات الحصار بالتفاحة المحرمة، حوصرت نداءات توحمهم مندغمة مع صهيل خيول حبيسة. تصهل بهذيانات تزاحمت تبحث عن جماجم هلامية باردة في مزادٍ يعلن على بابه معلم التاريخ بعدما رمى حبل المشنقة بعيداً عنه: - مزاد الرؤوس العلني، سارعوا لأقتناء احد الرؤوس وبأثمان زهيدة.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |