قصة قصيرة

الحبُّ... سموّاً

صباح محسن جاسم

sabah1iraq@yahoo.com

"هذه حالة تحدث من بين كل ثمانمائة حالة." نصح الطبيب الجراح فيما واصل يذكر أمورا تتعلق بالقدر وإرادة الخالق .. ولهول الصدمة وما حصل لزوجه غابت عنه موجودات القاعة التي تفصلها عن غرفة الإنعاش ستارة بهت لونها الأخضر. فيما واصل الطبيب الجراح هذيانه فلم يعد يسمع ما يتفوه به ذلك الفم الأدرد وهو يمط عضلاته طولا وعرضا .. يتوقف في حديثه كمن يصغي إلى وقع ما يقول ثم يعود ليواصل!

أما طبيبة التخدير فلم تألُ جهدا في أن تردد كل ما حفظته من آيات وتعاويذ . بدت مرتبكة تماما وهي تستعين بقنينة تحوي ماء لشفيع ما ! على أن كل ذلك وسواه لم يزحزح تلك الـ " الكوما" اللعينة السوداء. شلت تماما حياة العائلة الموجوعة وتحولت إلى عالم من أنابيب وحقن وأكياس وبحث عن دواء ومستلزمات .. دموع ساخنة صموت.. متابعة أطباء ومستشفيات ووعود وعلاج وواجبات وخفارات كما العسكر.. صبر صبور وسط فضاء ممتد من ملاحقات مبيتة وحصار ومن ثم احتلال و شحة في الخدمات وأفعال تترى من قتل وتفجير واغتيال ومحارق ودخان!

" سأزعل طويلا !"

" سترون أهمية الأم حين تغادركم" .. كانت تناكد أولادها المدللين!

" لكني أخشى ما أن أفيق من التخدير أن أتفوه بالمقذع من الكلام! "

تأخر دورها حتى الظهيرة. قبّلها سريعا. كان واثقا من شجاعتها. تلك ليست عمليتها الجراحية الأولى .. ولا الأخيرة حتى. تسلّم عباءتها ونعليها . لم يبق في ذاكرته سوى شبح ابتسامتها وتوجس من كابوس مرعب.

ساعة ونصف.. لغط في الخارج ، وقيام تظاهرة لسيارات تحمل جثوم سبعين طفلا قضوا بسبب الحصار و شحة المستلزمات! صرير أسرّة مرضى تندفع في ممرات المستشفى الخاص. علق المصعد لانقطاع في التيار. أدخلوها غرفتها مسرعين .. ألقوا بها على السرير جثة هامدة..عيون " المعينات " والممرضات تلقفت نقود البشارة .. غادرن الغرفة على عجل. على أن تنفس حبيبته لما يزل بطيئا .. متقطعا .. لم يستفق منها عدا كيس الحصى المر وضعوه داخل إناء فضي في إشارة لحذق ومهارة الطبيب الجراح ونجاح العملية .

خمس سنوات مرت دون سماع " أحبك ". أتلفوا لها خلايا الدماغ - ذلك ما استطاع بصعوبة  أن يستشفه من بين أسنان أستاذ الجملة العصبية الذي استعانت به طبيبة التخدير فيما كان يقوم بجولته التفقدية.

هل تحققت مخاوفها ؟ صراخ متتابع  شرخ له ذاكرته  بل تماهى بذلك الصراخ الأزلي في أحد سجون داخلية بغداد ! ذلك ما كان يجول في خاطره من هاجس راح يبني عليه ويؤلف. قريبة وبعيدة. يعانقها فيحس بها حية تحبه كما كانت. يستذكران بالنظرات سنوات رفقتهما وألم ممض .. طلبتهم الذين تخلوا عن مدارسهم ليمضوا وقت تساليهم معلقين في المراوح السقفية. زملاءهم الذين خطفوا ولم يعودوا. دعاء وتوسل وقراءة القرآن وسط  ليالي صيوف قائظة وشتاءات برد قارص.

مطاردات رجال الأمن .. زعقهم ، نظراتهم الشزرة وبصاق الشرطة. حروب وصحارى قاحلة ، عطش ورمال.. مزق الجسوم وشظايا الحرمان .. غربة وعذاب وسجون داخل العراق العربي وداخل الدول العربية العربية ذاتها!

 "ها أنظروا كيف تتنهد ! ألم أقل لكم أنها تسمعنا ؟! " كذلك يؤكد للأولاد ابتغاء قناعتهم  بعودتها ثانية كلما سمعوا تنهد أمهم إزاء عناق أبيهم لها.. حتى صاروا يجربون ذلك بأنفسهم فيزغرد بداخلهم فرح غامر.

يدفع بعصير الغذاء داخل أنبوبة للتغذية عبر منخر الأنف، فتحرك فكاها بتلمظ دون أن تدرك أو ترى طعامها. تلك كانت حركة تشيع البهجة في النفوس المتأملة المترقبة كما تزيد حركة رأسها أملا متجددا سيما بعد إن استقرت حالتها وتجاوزت نوبات الصرع.

يهمس الأبن البكر معلقا تجاه تثاؤب أمه :"انظروا إليها .. أنها تهتف ! " ثم يستدرك : "أو ربما تشتمه وتلعنه !"

" ليس كذلك يا بني .. نحن لا نشتم الموتى !" يعقّب الأب.

يهمس الطبيب مثنيا :

" كل هذه السنين من دون قرحة فراش !" يتبسم الأولاد بثقة عالية بمهارتهم التي فاقت مساعد الطبيب والممرضات.

" لو جمعنا دموع سنين شقائنا الخمس لسقينا نخلة!" كان الأولاد يستفزون أبيهم حين يوقعون به ودمع يترقرق في عينيه ، ثم ينصحون:

" لتبقى  في غيبوبتها حتى يستعيد الوضع عافيته .. عسى أن يُكافح هذا الدبيب السام  وتختفي الغيلان والضباع واللصوص .. ومن ثم لتعود ثانية

 ، ما فائدة عودتها الآن لترى ما ترى فتبلى بصدمة وتموت ؟!"

اليوم تمر الذكرى الخامسة والثلاثين لـ " أحبك". بحث بين أوراقهما المشتركة طمعا بزوّادة للاستذكار . ربما فاته تعبير أو خاطرة من نثار ما كانوا يدونوه معا ويخفونه بعيدا عن ذكاء المخبرين.

انزوت لفافة ٌ من قماش في حقيبة نسائية ملئت بأوراق وصور ووثائق حشرت حشرا. بين تردده وفضول الاستكشاف قرأ أسمها المدون في البطاقة الخضراء. حز في نفسه كشفه لما لا يحق له! أعاد اللفافة إلى وضعها ومكانها ولون بطاقته الوردي يراوح أمام عينيه كبندول ساعة حائط. زاده  فخرا أن بطاقتيهما كانتا متعانقتين كل ذلك الوقت. كم أثار ذلك في روحه من اشتهاء!

أشتكى الجيران !. وعظه أحدهم فيما يشبه النصح وأطال في المقدمات من أهمية الزواج . حين زادوا في إلحاحهم استغرب  لهم مثل ذلك النصح ، وأخيرا أفصح جاره الثاني بين ضحكة مفتعلة خجول : " أضحت زوجاتنا تعيّرنا بك ! في كل مرة يشتكين : من منكم مثله يداري زوجه ويعتني بها.. لم يتخلى عنها لحظة واحدة .. أين أخلاصكم من إخلاصه ؟! الخ " 

" إنك تثير غيرتنا بعصاميتك وعنادك ! بدأنا نضجر منك ومن إخلاصك .. تزوج يا أخي .. فستعذر لك " العلوية " ذلك إذا ما استيقظت."

تنفس بعمق ..لكم ذكّره ذلك بحال مماثل ، ما نفـَـعَ معه إقناع أو غواية حتى تحول إلى وعيد وتهديد ، على أن ذلك لم يزده الآ إصرارا.

" أخرج من قوقعتك يا أخي ! "

حاول التفوه فأبت الكلمات.

" عش طبيعيا "

 قهقه قليلا.

" أما سمعتني ؟!"  فكر هنيهة فيما تذكر فكي حبيبته وتثاؤبها .. تبسم .. ثم انفجر ضاحكا .. غص في نوبة من ضحك استغرب له!

أقعى ليستعيد أنفاسه ومن ثم ليستريح.

بدا العالم ضيقا .. تماما.

لكن ، ليس بالنسبة له .

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com