|
قصة قصيرة جسد نحيل فاطمة المزروعي / الامارات - بدا جسدها في التكوين رويدا وريدا، حتى اكتملت ملامح جسدها النحيل أمامه، نظرإليها من خلف الغلاله التي ترتديها، شمس الظهيرة نفذت بنعومة خلال الأعضاء، اجتازت بدقة مواضع حميمة في جسدها، لطالما عشق هذا الجسد، وكانت يده تتلمس هذه المواضع أحيانا بدعابة أو ضحكة أو لحظة عشق.. " هل يوجد أحد هنا"؟ -ارتفع صوته الأجش، ونظراته تحملق في الشقة الباردة، تردد صوته، فعاد يستمع إلى تردده بمزيج من الضيق والحزن، شعر بثقل ساقاه، وهما تقودانه إلى داخل غرفتهما، بدا جسدها متعبا، اقترب منها، تطلع إلى عينياها الواهنتان، شعر بغصة بحلقه، وبوهن في أطرافه، كانت مشاعره كلها تبكي، وكانت هي تبكي ، لالا لم تكن تبكي، كانت تحاول إخفاء ذلك المرض، والتشبث بأي شيء، لاح له وجهها المتعب وقسماته .. تأملها من قدميها الصغيرتين إلى جسدها النحيل، سعل بقوة، سعلته المعتادة، شعر بيديها تحوطان كتفيه، ما أجمل الحلم بين أحضانها؟ لاحت له الكثير من الوجوه المتعبة التي رآها منذ طفولته، وجوه متعبة، مظلمة، فيها الكثير من الظلم والوهن والقهر، وكان يرى في كل وجه ملامحها، ومرضها، وطفولتها، والألم.. كان يضربها حتى يتخلص من ألمه، وكان يتألم لألمها، كان الألم في جسدها كبيرا، وكانت تخفيه بقناع ثلجي بارد، اقترب منها أكثر حتى لامست أنامله جسدها، بل عظمها الرخو، فأزاحته قليلا.. " مابك ؟" أجابت بلا مبالاة.. "لاشيء" لامست يداه أناملها، خدها، وضع الوسادة تحت رأسها.. "أنا بخير، لاتقلق" كانت ترددها دوما في آلية، تذكر حينما أخبرته عن مرض أمها، لقد بكت كثيرا على هذه الأم رغم الطفولة القاسية التي عاشتها على يد أخوتها وأمها.. خلعت ثوبها بصعوبة، مد يديه حاول مساعدتها، أزاحته في رقة، شعر بضيقه ولكنه عاد ينظر إلى جسدها العاري، تأمل التصاقة جلدها بهيكلها العظمي، تمدد بجوارها، استغرب من صمتها، تمنى لو تصرخ حتى يحضنها ويبكي معها.. الشقة في هذه اللحظات تبدو عليه كبيرة للغاية، رغم تعليقاتها المستمرة وشكواها في العديد من المرات بصغرها، وأنها لن تكفي لأطفالهم في المستقبل.. اقترب من السرير، جلس على حافته، تأمل وجهها، أخذ بيديها وقربها من وجهه، بدت دافئة، حنونة، احتضنها، في لحظة مر خيالها عليه، رآها ترتدي البياض، كم عشق اللون الأبيض على جسدها النحيل؟ كانت تعلم عشقه لهذا اللون، وإلحاحه المستمر حتى ترتديه بصورة مستمرة، أربكته الخيالات، وهو يراها تتحرك في أرجاء الشقة، صامته، تؤدي عملها في صمت وخشوع، إقترب أكثر منها، تمنى لو يلتصق بها، مرت عليه أمور كثيرة، صوت قطة الجيران، وهي تسقط تحت عجلة السيارة، بركة الدماء، والأمعاء التي تفجرت ونافورة الدماء التي سالت على الطرق، وقف يتأملها بمزيد من الصمت والخوف، شعر برغبة بالغثيان، تقلبات معدته تضايقه، منظر الشقة في هذا اليوم يبدو غريبا، طيفها يمر أمامه، وصورة أمعاء القطة تحتل مخيلته بجانبها، خرج من غرفة إلى أخرى ، كان يلاحقها ويديه تحاولان الإمساك بطرف ثوبها الأبيض، صوت دقات قلبها، شهيقها المستمر، العرق البارد المتصبب على وجهها.. حكاية قديمة مستمرة، ساذجة، لكنها تحدث، لم يمكنني إلا أن أكتبها هكذا عندما وظفت في شركة لإنتاج النفط، استشعرت سعادة لا حد لها وأنا جالس على مكتبي في أول يوم لي، إنه عمل حقيقي، ليس كباقي الأعمال التي كنت أعمل فيها وبأجر زهيد، مرة في مطعم ومرة أخرى أطبع الأوراق، أو أنوب عن أحد أصدقائي في محله، حتى يعود. عامان بأكملهما وأنا أدور في نفس الدائرة، عند محيطها، فتعود بي الحياة، لأدور مرة أخرى، وكاد اليأس يحطمني بعد أن أصبحت عالة على والدي، ولكن الفرصة جاءت، وها أنا أعمل في مجال البترول، المجال الذي تقوم عليه دول بأشكال جديدة وحروب... شعور أيقظ إحساسي بنفسي بغتة، وقَلَب روحي وكياني، جعلني أعيد حساباتي وكل ما تعلمته وتوهمته عن الحياة طيلة فترة الجامعة.. منذ اليوم الأول وأنا أسابق الزمن في عملي، أحاول أن أثبت نفسي للآخرين، وأن أختلف أنا عنها، عن نفسي بالطبع، لئلا أعود إلى ماضيّ المُضني. اندفعت في عملي بقوة مُتجاهلاً الزمن، ومع كل معضلة أثبت أنني قادر على مواجهتها، رغم أنه في كثير من الأحيان تنتابني الرغبة في البكاء لحظة مواجهة أية مصيبة، فأشعر بالارتباك ومن ثم الشلل التام، يبدو أن هذا إرثٌ من الشخص الذي كنته. بدأت حياتي تمرّ روتينيةً، وهذه علامة جيدة على أنني انخرطت تماماً في الحياة الجديدة، وبدأ طموحي يكبر، والتخيلات تكبر معي، والدائرة تأخذني إلى معالم أخرى. تتسع الدائرة، ومعها تتسع أحلامي وتكبر، حتى شعرت بها – أحلامي ـ شخصية مختلفة عني ومستقلة بشكل جذري. كنتُ كباقي الشباب، لديّ تطلعات، وعندي الرغبة بشراء سيارة وهاتف متحرك وفتاة أغازلها، أظهر شجاعتي أمامها وأحتضنها، لكنني لم أكن كأصدقائي في لامبالاتهم. ثم فجأة تعرفتُ عليها صدفة، صوتها الآتي من السماعة، يجتاز أذني ومساحاتْ من قلبي، لا أحتمله، كنت أنتظر شعوراً مثل ذلك منذ زمن. تمنيت أن ألتقيها. في الليل.. يرفض النوم أن يسكن مقلتي، رغم تعبي وإرهاقي، وهذا الألم القديم في رأسي الذي يعاودني قبل النوم بقليل. صوتها كان مطرقة من لحم ودم لم تتركني إلا مفتتاً. حين أواجه معضلات جديدة، يستعد عقلي للبحث عن مكان أعيش فيه لحظات من الهدوء النسبي، كنت إذن لا أجد هذا الهدوء النسبي إلا في حياتي السابقة، كيف جعلتني الحياة وحيداً ومشرداً، أتجوّل فيها دون أحد يشاركني معناها، أو يشعر بالألم لألمي، … أليس هذا أفضل مكان للعثور على بعض الهدوء النسبي فيه. المهم، لا أعرف كيف أصبحت هذه العبارة رفيقاً حميماً لي: "يجب أن يفتخر المرء بالتألم.. غالبية البشر لا يريدون السباحة قبل أن يستطيعوا ذلك". لا أعرف لمَ عليّ دائماً أن أعود إلى دائرة حياتي الأولى. أنا لا أريد أن أسبح.. ولا حتى أن أقف على أرضية يابسة.. كل ما أريده؛ هو قلبها.. لقد استطاع "هرمان هسه" أن يعبّر عن أحاسيسه.. عن ألمه في شخصية "ذئب البوادي".. تلك الشخصية التي أذهلتني بمساحات الألم التي تمتد داخلها، بالرغم من قوتها.. ولكن لماذا أشعر أنا بهزيمتي أمامها، فهي شخصية داخل كتاب. هل الرغبة في الانهزام هي الخوف من المجهول؟ من الأشياء التي نحلم بها ونخاف أن تتحقق، حتى لا نفقد مشاعرنا أو علائقنا الأولى تجاهها. غريبة هي الحياة، كثيراً ما تجبرنا على التخلي عن كرامتنا، وأن ننحني بأعناقنا إليها طلباً لمادياتها. تبَّاً، لماذا أفكر هكذا؟ فليكن، لقد انهارت العراق، وبغض النظر عن فلسطين، وبقية الخريطة المنكوسة بسعادة وتوهم، فقد رأيت أمي وهي تموت على فراشها مستسلمة لحيوان اسمه الزمن.. ووالدي في الحانات يعقرها وتعقره.. وأنا…… صوتها يعود إليّ.. أين أنت يا عزيزي "هرمان" حتى تعاين بنفسك الإنسان المنهزم الذي لا يستطع التحكم في قلبه؟ في الصباح الباكر.. أكون أنا أول الذين يدخلون من باب الشركة، أجلس على مكتبي، وأمامي شاشة الكمبيوتر، ضوؤها المشع.. يكاد يلغي إحساسي بأنني لست أعمى، أزيح النظارة عن عيني، أفركها بيدي، وأبدأ بالضغط على الأزرار بسرعة، وعقليتي تتسارع مع تلك الأرقام والإحداثيات، أشعر بجسدي يطفو بين السماء والأرض، أحلم بأمي وهي تعانقني.. جو الغرفة الصغيرة التي أقطن بها يضايقني.. مديري في العمل سعيد بعملي معه، لم استلم راتبي حتى الآن رغم مضي شهرين، ينتظرون حتى يروا نتيجة عملي، فأنا لا أزال في فترة اختبار. كلّ ما مررت به في حياتي ليس إلا فترات اختبار، ولم يتعدَّ ذلك حتى الآن. أحلم برؤيتها منذ زارني "وجه ذئب البوادي" يطل عليّ وهو يرتدي معطفه الشتوي، بشعره القصير جداً وتعابير وجهه الصارمة، أشعر بملامحه تتلبسني، وأنفاسه تشق صدري. أستيقظ بغتة ـ وأنا غائص في مقعدي ـ على صوت الهاتف، أمسك السماعة بكلتا يديّ، صوتها يداعب قلبي، لا، بل أجنحته، شيئا فشيئا.. يتسلل إلى داخلي، ويحتلني. يخيّل إليّ صوتها عبر السماعة كوجود بلا مبان أسمنتية، فلتسقط الرأسمالية؟ ولتسقط كل الأنظمة في العالم، لم تعد تلك الزوايا في عقلي تحتكر شيئاً بعينه حالياً كما هو المعتاد، أفكار وأمور سياسية وحروب ومعارك وقتال وماديات وغرفة تخنقني برائحتها الوظيفية المدعية، وزاوية صغيرة هناك بالكاد تكفي لفراشي ودوراني حول نفسي أثناء تفكيري قبل النوم... هيا أنقذني يا "هرمان هسه"، ألم تكتب عن البؤس والشقاء؟ ألم تستدر عطف الناس بكتاباتك؟ لمَ لا يرحمني أحد، إنها القصة القديمة نفسها، هي من قبيلة لها اسم، وأنا ابن فقري وعجزي وضيق غرفتي.. وقد يكون جدي الثالث أو الرابع أعجمياً، قل أي شيء، فوجه أبي يتلصص عليّ من حاناته ساخراً، إنه ينتظر انضمامي إليه. قلب دافئ مثل قلبي 20-يونيو حل فصل الصيف ، الجو لايطاق ، كم أكره حرارة الصيف ، وشمسه الحارقة ، وهي تحرق بشرتي المسكينة ، وجسدي المسكين ، آه ، إنه دوما يزأر كلما حل هذا الصيف الملعون ، شعرت ببعض الراحة النفسية التي بدت تتسرب عبر ثقوب قلبي ، لن أقضي إجازتي الصيفية في المزرعة، المدينة جميلة ، والبيوت متقاربة ، وألوانها المختلفة تعجبني ، بل تثيرني ، وأنا جالسه هنا في بيتي الصيفي وأمام حديقتي المفضلة ، أنظر إلى السماء والأشجار ، ولكن ليس بنفس النظرة المتفاءلة والمحبة للحياة ، إنها نظرة امرأة شارفت على الموت والرحيل من هذا العالم .. 21يونيو.. الخادمة تنظف غرفتي ، أسمع صوت أقدامها وهي تفتح أدراج خزانتي ، وربما تعبث بمجوهراتي وترتدي ملابسي لتنظر إلى نفسها في المرآة ، انها فتاة آسيوية ذات ملامح صغيرة ، وجسد ضئيل وعينان فيهما الكثير من الغباء ، ولابد انها في مرحلتها هذه ، تمارس طقوس المراهقة في غرفتي وبإداوات زينتي ، انني لا أحتاج هذه الادوات الآن ، ولا غدا ولا حتى في المستقبل القريب أو البعيد، أعلم أن الموت سوف يأتي قريبا ، وانه أقرب إلى روحي من اي شيء.. أنهض من مكاني ، أنظر بإمعان وافتخار إلى منزلي ، لقد اعددته مع زوجي بكل عناية ، وقمت بترتيب الحديقة ، وزرع الوود الحمراء في أماكن مختلفة ، والكراسي الخشبية المصنوعة من الخيزران ، إنها مكانها رغم مضي وقت طويل عليها ، سوف يزحف الموت إليها ، سوف يهدد كل بشري على سطح هذه الأرض ، تعود إليَ ذكرى الموت ، باردة ، تصب في أذني ، فلا أحتمل وقعها إنها تنغص عليَ منذ علمتُ بهذا المرض اللعين ، بعض الأعشاب في زواية المنزل تبدو ذابلة ، وقد دب الوهن في عروقها ، بالفعل لقد أهملت هذه الحديقة في الآونة الأخيرة ولم أعد أهتم بها كهدي في السابق .. 22- يونيو.. بعد أيام قليلة سوف أدخل عامي الأربعين ، أعرف عوارض هذه السن ، لقد انقطعت عني الدورة الشهرية ، وبدأت أدخل عالم اليأس ، حيث لاأبناء ولازوج ، ولاحبيب يقنعني بأنني امرأة صالحة ، وأم مثالية ، أن عائلات هذا الحي الراقي كلهم يعرفوني ، أتذكر تلك المأدبات الضخمة التي كنتُ أقيمها في منزلي وكانوا يحضرون إليها باستمرار، كنتُ أرى السعادة في عيونهم ، إنهم يأتون حتى يتسلون في منزل أرملة سوف تدخل عالمها الأربعيني عما قريب ، ولكنهم في الآونة الأخيرة بدأوا يبتعدون عني ، هل حقا وصلت إلى مسامعهم أخبار مرضي؟ ربما ، لكن من أخبرهم ، ربما جاري اللعين الثرثار ، ذلك العجوز ذو الرائحة المتعفنة ، إنه لم يغسل أسنانه من فترة طويلة ، منذ بدأ داء الروماتيزم يهجم بقوة غير طبيعية على جسده ، أكاد أجزم أن زوجته البدينة لها دخل كبير بالموضوع ، لا أريد الأهتمام بهذه المواضيع التافهه ، أو أجعلها تؤثر على أيامي الأخيرة ، لابد لي من أقيم لنفسي حفلة كبيرة حتى لاأشعر بألم الموت ، وأكون مستعدة له... لم يتبق الكثير ، الأيام تقترب ، بقيت أياما معدودات ، في السابع والعشرين من يونيو ، وفي منتصف الليل ، سوف تغادر روحي إلى السماء .. هذا ماقاله الطبيب لي ، وهو يفحصني ، ويضع السماعة على قلبي الضعيف.. 23 يونيو.. الأيأم تمر بسرعة ، عندما كنت لا أزال صغيرة ، كنتُ أعد الأيام على أصابع يدي وأتمنى أن تمر بسرعة حتى أكبر ، ويكون لي جسد متناسق كالبنات الكبيرات في حارتنا ، ونهدين جميلين وصديق أكتب له رسائل الغرام وأبادله النظرات وأنا في الحافلة .. وكانت أمنيتي الوحيدة أن أموت وأنا في سن الأربعين ، وكنت كثيرا ما أحدث نفسي بأن الأيام طويلة وأن سن الأربعين لن يأتي بهذه السرعة وأن أمامي وقتا طويلا حتى يأتي هذا اليوم... كيف سوف أستقبل هذا اليوم المرعب؟ إنني أكاد أموت من فرط الخوف ، لاريب أن إحساسي سوف يكون كبيرا ومملوءا بالحزن والألوان القاتمة التي سوف تحيط بي ، حينما تدق ساعة الحائط العملاقة معلنة بداية يوم السابع والعشرين من يونيو.. 24 يونيو.. إنني أتمشى أمام البحر ، وأزاول هوايتي التي أحبها ، هواية المشي ، لاريب أن العالم كبير ، وأكبر من هذا الشاطئ الذي اعتدت على زيارته منذ طفولتي ، لقد مضت حياتي الأربعين بسرعة ، فلم أحس بطعم الحياة ، تذكرت الزهور الذابلة في حديقة منزلي ، لابد أن أعتني بها حتى لا أفقدها ، بصدق أنا لا أريد أن أفقدها الآن ، أعلم أنه لن يعتني بها أحد بعد مماتي ، حتى خادمتي المراهقة ، لأنها سوف تنشغل بحبيبها الآسيوي ذو العيون المرقطة ، ولن تبال بحشائشي الخضراء العزيزة إلى نفسي.. لوهلة أشعر بذاكرتي تقتحمني بغته ، وتداهمني دون أن تترك لي مجالا للتفكير ، أتذكر يده الحنونة وهي تحيط كتفي بحنان مبهم .. كان يهمس في أذني بأنه يحبني ، ويعشق جنوني ، ولاتزال عيناه السوداوان ، والحب الغامض بينهما يثيراني ويجعلني لا أستطيع نسيانهما بمنتهى البساطة .. 24 يونيو..الساعة السابعة مساء.. لم أعد أستطيع الاحتمال ، هذا المرض يقتلني ، أعلم أن الأعمار بيدي الله ، وكثيرون نصحوني بالتقرب إلى الله ، وسوف أفعل ذلك بالتأكيد ، هاهو الطبيب قادم ، لابد وأن الخادمة الملعونة ظنت بأنني قد مت ، لابد وأنها تتأمل المجوهرات يوميا ، وتمني نفسها بالحصول عليها ، نظرت للطبيب بعينين فارغين ، وهو يملي علي نصائحه ، لابد وأن تهتمين بصحتك يامدام ، فأنت لست في عمر الشباب حتى تتناولين الأطعمة المملوء بالسكر ، وأنصحك بالمشي والترفيه عن نفسك ، لم أعد أهتم بكلام الأطباء ، إنني كثيرا ما أسمعه من أذن ، وأخرجه من الأذن الأخرى.. 25 يونيو .. الوقت يقترب بسرعة ، والساعات الأخيرة تعلن عن بداية ظهورها تدريجيا ، كم تبقى لي ، ثمانية وأربعون دقيقة ، 120 ثانية ، يومان فقط ، وحياتي تنتهي ، هل سوف تنتهي بهذه البساطة؟ إنني لم أعد كفني بعد ، هلى أجعلها جنازة يتحدث عنها الجميع وتكتب عنها الصحافة ويسجلها التلفاز وتتحدث عنها جميع المحطات في العالم ، وربما حضرها الوزراء والسفراء والقناصل من العالم . لم أهتم بهذه التفاصيل الدقيقة ، سوف يهتم بها محامي ، سوف أذهب حالا لأغير هذه الأعشاب الذابلة حتى لا يتحدث أحد من الجيران ويتهمني بأنني عجوز مهملة ، لا أراعي الأشجار، رغم إنني اقترحت كثيرا على البلدية أن تسعى بتأسيس جمعية الرفق بالنبات ، ولم يهتم أحد بطلبي ، لقد طردوني من المكتب واتهموني بالجنون.. يخرج رأسه ، إنه يخرج ويناضل حتى يضل حيا ، سوف يعيش ، أنا متأكدة ، صحيح أن الأطباء أكدوا بأنه ضعيف البنية ، وهناك الكثير من العيوب الخلقية في جسده ، ولكنه سوف يعيش ، ووالده هناك خلف الزجاج ، يرمقه بنظرة حنان مبهمة ، ويديه تحيطان كتفي كالمعتاد ، لم يحتمل جسده المسكين ، يومان ثم لفظ أنفاسه بين صدري ، ولم نحتمل العيش معا ، ولم أحتمل مجرد فقدانه ، لقد كنت أحمله بين صدري ، وألقمه ثدي ، وأشعر بلذة غريبة ، وشفتيه تتعلقان بحلمتي ، في لحظة شعرت بالحياة تدب في عروقه ، ورأيت في عينيه نظرة والده المبهمة ، وظننت بأن قوة والده قد حلت في جسده ، وتمنيت معجزة أن تحدث وأن لا أفقده.. ولكنني فقدتهما معا ، لقد خرج مسرعا وغاضبا ولم ينتبه للسيارة التي اعترضت طريقه بغته ، خسرتهما مرة واحدة ، يعود ذهني للأعشاب ، لقد بدأت أنظف من تحتهما ، وهذه الخادمة المتلصصة لا أتوقع أنها تهتم لصحتي ، أنها تحاول اقتناص الفرصة حتى أموت وتأخذ ممتلكاتي لها ، وتفر هي وحبيبها وتسافر وتتزوج ، أعرف هؤلاء الآسيويات الخبيثات ، رغم رائحتهن المعفنه ، وذلك الزيت البغيض الذي يضعنه على شعورهن إلا أنهن لهن أساليبهن في اقتناص الرجال ... أشعر برأسي مزدحم بالكثير من الأفكار الغريبة اليوم ، أتوقع أن هذه هلوسة الموت التي تأتي قبل استسلام الروح ورحيلها إلى بارئها.. ليلة البارحة رأيت ذلك الشاب الوسيم الذي داخل إلى منزل الجيران خلسة من البيت الخلفي ، وقد اقتادته الخادمة في سرعة وأدخلته غرفة البنت الكبيرة، دون أن يشعر أحد بذلك ، آه هذا المنزل الذي يقولون أن أفراده أتقياء وينصحون الناس بالتقوى والخير ، لابد إنني في حياتي رأيت الكثير وسمعت أمور كثيرة ومحزنة ، ولكن لم أهتم بالتفاصيل الدقيقة ، إنهم لن يهتمون بي ، ولا أتوقع منهم أحدا يحضر جنازتي ، وإذا حضروا سوف يتظاهرون بالبكاء علي ، والحزن لفقدي لأنني كنت معهم جارة محترمة وطيبة ، تتعامل بأسلوب راق.. الساعات الأخيرة تقترب ، لقد بقي يوم ونصف ، ستة وثلاثين ساعة ، تسعون دقيقة ، والموت يقترب ويدنو مني ، أتذكر نبوءة الطبيب ، لقد أخبرني بأنني سأموت في هذه الساعة ، وفي هذا المكان ، ماذا إذا غيرت مكاني ، وسافرت إلى مدينة أخرى ، هل سوف يتركني الموت أرحل دون أن يؤذيني ؟ لا لا أتوقع ، إذا أتى الموت إلي لا أتوقع أن يستطيع مخلوق ما مساعدتي ، نباتاتي المسكنية بدت تستعيد قواها ، لقد رأيتها في هذا الصباح ، بدأت في النمو من جديد ، وهناك عود أخضر صغير ، بدا يزهر ويكبر وعما قريب ، سوف تتغير الحديقة بأكلمها وتكبر، بعد أن أغادر هذه الدنيا ، لن يحزن أحد على موتي سواها ، لأنها لن تجد قلبا دافئا في هذه الحياة مثل قلبي. 26يونيو.. أشعر ببصري بدا يضعف ، والوهن يدب تدريجيا في عظامي ، أشعر بها هشة ، سوف تتحطم تلقائيا دون أن أحمل شيئا ، حتى مجرد النهوض من السرير ، أصبح شيئا كبيرا ، ويتعبني ، لا أتذكر انني فكرت يوما في الانتحار ، لست من الذين يفكرون بإنهاء حياتهم بسرعة ، صحيح أنني مررت بظروف قاسية جدا ، ولكنني لم أفكر يوما أن أنهي حياتي بهذه البساطة ، لأنني أعلم بأن لكل أجل كتاب ، وأن الإنسان لا ينهي روحه بيده ، والروح بيد خالقها ، ما أجمل هذه الفلسفة التي على لساني لابد أن سقراط سوف يغار مني ، حينما يسمع كلامي ، ولغوي وهذياني المستمر قبل ساعات من رحلة الموت البطيئة هذه .. أغمض عيناي ، أغمضهما جيدا ، لا أريد أن أرى هذه البقع الفضية المعلقة بالسواد ، حتى لا يظل عقلي مشغولا بها ، لا أريد ان أحلم ، أو أرى كوابيس ليلية ، أريد لذهني أن يكون صافيا ، حتى يكون استقبالي للموت سهلا وبسيطا ، لا أريد أن أعقد نفسي كثيرا بهذه التفاهات التي لاتنتهي ، ولن تنتهي أبدا.. تنساب الألوان بنعومة ، كقوس قزح ، ألمسها بأناملي ، فأشعر بلزوجة الألوان على أصابعي ، فأطلق ضحكة طفولية مثيرة ، تذكرني بأيام الصبا ، وعشقي للألوان ، وقوس قزح أن يحملني بعيدا إلى السماء ، وليس إلى الموت .. اليوم يسود تفكير كبير في مخيلتي حتى يكاد أن يستولي عليه ، ماهو شعوري لحظة الموت ؟ هل سأشعر بتلك البرودة الغريبة التي شعرت بها أثناء موت أمي؟ لقد كانت باردة كالثلج وهي تسقط على صدري ، لم تتحدث ولم تنطق ببنت شفة ، لقد فتحت عينينها ورفعت أصابعها ونطقت الشهادتين ، كنت وقتها معها ولكن أنا من سيكون معي؟ لا أريد أن أشعر بالوحدة ، أريد أن يكون أحد معي ، أي أحد ، لا أريد الموت وحيدة ، وفي القبر وحيدة ، أريدهم كلهم بجواري أبي وأمي وأخوتي وزوجي وحتى ابنتي الميتة ، أخرجوهم جيمعا ، ولنحتفل بعيد ميلادي الأربعيني والأخير، وسوف نكون معا، سوف نتشارك رحلة الموت معا.. لا أحد ، صوت الخادمة يأتي إلي ، ويقلقني ، يجعلني أفتح عيناي ، إنها تتعمد أن تفعل هذا ، تريد أن تقضي علي ، حتى أموت قبل ميعادي ، وتأخذ كل ممتلكاتي ، الحقيرة ، لابد أن أسجنها، وأكتب عنها في الجرائد ، وأمنع هؤلاء الخدم أن يحضرون إلى بلادنا.. 26يونيو الساعة الحادية عشر وخمسة وخمسين دقيقة.. َدقائق قليلة وسوف تدق الساعة الكبيرة التي في الصالة معلنة يوم جديد ، سوف تنتهي حياتي عند هذه اللحظة ، كيف سيأتي الموت إلي؟ هل سوف تتوقف نبضات قلبي؟ أم سوف يمسك بدماغي ويخرج أحشائه في منظر مقزز؟ فليأتي هيا ، لقد تعبتُ ، منذ شهر وأنا انتظره بفارغ الصبر ، فليأتي حتى ينهي حياتي ، السأم قد بدا يدب في أعماقي ، جهزت ُ سريري ، رتبتُ فراشي ، ارتديتُ أجملُ ملابسي ، مشطت ُ شعري ، سكبتُ بعض العطر على صدري ، تلك الرائحة التي أعشقها ، وضعتُ الشموع بجواري وأشعلتها ، حتى أرى توهج النار وانبعاث دخانها أمامي ، أعجبني هذا الطقوس الذي أقوم به ، لقد خفف إحساس الخوف الذي كان قد وصل إلى الذروة في أعماقي.. 27 يونيو الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل.. الساعة اللعينة تدق وبقوة غريبة ، أشعر بدقاتها في رأسي ، لقد بدا الثقل في لساني ، وبرودة غريبة في أطرافي ، ودوار لعين يلفني في قوة ، الأرض تميد بي ، لابد أنه الموت ، لقد بدا بالفعل ينزع روحي ، فتغادر هذه الروح في سلام .. ظللتُ فترة وأنا على هذه الحالة ، ثم فجأة فتحت عيناي على جلبة قوية ، وصرخة قوية ، ثم ما لبثت أن خفتت ، ماذا حدث ؟ هل انتقلت إلى عالم آخر ، وهذا عالم الموتى ، وهم يصرخون من الألم ، السواد يلف عالمي ، لا لا إنها الغرفة ، تعود معالمها إلي تدريجيا ، فأنظر إلى جسدي ، وأعود فأنظر إلى الساعة ، إنني لا أزال حية ، الحمد لله ، يبدو أن حياتي لم تنتهي .. 27 يونيو الساعة الواحدة فجرا .. سيارات الشرطة والأسعاف تحوط منزلي ، وتحمل جثة الخادمة ، أتذكر كيف دخلت إلى غرفتها بعد أن استيقظت من هلوستي لأجدها ميتة وغارقة في الدماء ، كانت ممدة في سريرها ، وشعرها الأسود يلتف حول عنقها ، وجهها شاحبا ، باردا ، ويبدو متألما ، لقد نزفت كثيرا ، بركة الدماء القانية بجوارها تؤكد هذا الشيء ، قمت بالاتصال بالشرطة وأبلغتهم بالأمر ، إنهم يحملونها ويتأكدون من البصمات ، المجرم لقد سرق نقودها ، ولم ينتبه إلي ، وإلا لكنت في عداد الموتى ، من الغريب أنني كنت أنتظر الموت في غرفتي ، بينما كان يزحف إليها ويستولي على جسدها المراهق ، هزتني رعشة باردة ووقفت أتأمل المنظر، ثم انصرفت إلى الخارج ، حتى انتهى رجال الشرطة من عملهم وعدت إلى حديقتي أتأمل النباتات الصغيرة التي بدت في النمو ..
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |