|
قصة قصيرة فقاعة فاطمة المزروعي / الامارات ساعة أن أنجبتني أمي، لا أتوقع أن والدي كان موجوداً، لأنه أراد أن لا يكون موجوداً، حملقتُ في الغرفة البيضاء والملابس البيضاء، وبالدماء التي على وجهي، والتي لوثت الفراش، لم يكن هناك أي أثر له... كم من مرات شتمني، وقذف بي إلى الجدار، قبل أن آتي إلى هذا الكون؛ ولكنهم الاثنان (وأقصد أبي وأمي) أرغموني على هذا، تخيل أن يرغمك أحد على العيش دون أن يكون لك رغبة في الحياة، ويجعلونك في منزل له سقف وأربعة أضلاع، تتشارك معهم في صحن واحد، تمد يديك الصغيرتين، فتشعر بأن الأيدي الكبيرة تأخذ أضعاف ما تأكله أنت، وتكتفي بالتحديق في الأرض، خجلاُ أن يكتشفوا ضعفك، تتوارى في كل لحظة خلف جبنك وطفولتك، تبحث عن أمك، تتمنى أن تقابل عيناها عينيك، حتى تتوسل إليها أن ترحمك، وتأخذك بين أحضانها، وتخبرها بأن التفاحة التي تسرقها كل ليلة من الثلاجة، وتخفيها تحت الفانيله الزرقاء، لا تكفيك، لأنك تظل الليل ساهراً، وأنت تتضور جوعاً، تتأمل أعدادهم الغفيرة وهم يشاركونك في كل شيء، في خزانتك، وملابسك وألعابك وفي نومك، وهم يحشرون جسدك الضئيل بينهم، تسمع شخيرهم ليلا، وتتحمل تقلباتهم والضربات المؤذية لظهرك وبطنك، ولا تتحمل أن تتفوه بكلمة، لأنك اعتدت على الصمت، واعتادوا أن يروا الصمت والخنوع في عينيك، وأحيانا ً تتحمل صفاقاتهم، ومناداتهم لك بالغبي، حتى حجم رأسك، وكأنك كتلة لحم متشكلة تتحرك في بطء، تدور في أرجاء المنزل، وفي تذمر تمارس حياتك، فتتشكل تارة كتابا أو قلما، أو مقعدا، أو قانونا قاسيا على أوراق بيضاء، ترى البياض يحاط بك من كل مكان، يرمونك في الغسيل، مع الصابون فتدور في دوامة الحياة.. تتشكل بكل شيء أنت تراه في الكون وتريد أن تكون عليه، بدءا بالفقاعة إلى التحولات الإنسانية، فتجرب حياة الحيوانات ثم الجمادات، وفي كل مرة كنت تلقى كما هائلا من نفايات تذمرك، ثم في آخر الأمر استسلمت لهم وهم يأخذون جسدك إلى التراب، لتدفن ساعتها بجوار من أحبوك ومن لم يحبوك..
" هاجس قوي " قصة قصيرة
تلمست بأصابعها الطويلة زجاج النافذة قليلا ، أثارت برودة الصباح الواضحة على الزجاج مشاعر كثيرة لديها ، أخفت تعابير وجهها الشاحب، وهي تستمع في انتباه إلى الأصوات المنبعثة من الجوار، أصوات مختلفة، صوت أطفال يبكون، أنهم لا يحبون الاستيقاظ مبكرا، وصرخات أمهاتهم الغاضبة ، وتأففات آبائهم ، كل هذه الأصوات تصل إليها، فتسمعها برغبة منها ، وأحيانا تطلق ضحكة عالية... تفتح النافذة، تجلس أمامها، نسمة هواء ناعمة تداعب خدها، تنحني بجسدها للأمام، تبدو أمامها تفاصيل كثيرة لهذه الحياة، الناس باختلاف أجناسهم وأشكالهم، يمارسون حياتهم بروتينية .. هاجس قوي، يقتحمها اقتحاما.. -لم أنت هنا؟ - أين أذهب ؟ - دعي عنك اليأس والإحباط، افتحي قلبك للعالم .. - لقد انتهت حياتي، آه من مساحات الألم، لم يعد يفرحني أي شيء في هذه الدنيا، في الماضي ربما كان حذاء جديد، أو فستان، أو حتى مجلة تجعلني انطلق في سعادة.. - ما الذي يفرحك ؟ الحب.. - انظري إلى ما خلف النافذة، ولا تجعلي نظرك يستقر عند حوافها أو إطارها القديم، لأنها عند ذلك سوف تجعلك أسيرة فيها، وربما تظلين هناك إلى الأبد، فيها تمارسين طقوس حياتك دون أن يشاركك أحد.
دق قلبها بعنف، وراحت تنصت إليه في خجل، ثم استاءت فجأة من نفسها، فعادت إلى جلوسها الصامت، بدت أركان الغرفة بصمتها المهيب كقاعة جنائزية، انه الصباح .. حين تشرق الشمس وتغرد الطيور.. انه يوما ككل الأيام بالنسبة للأغلبية في هذا الكون.. ولكن بالنسبة إليها، كل يوم يحمل فيه نكهة خاصة.. يحمل في داخله صحوة كبيرة لجوارحها، تابعت بقلبها أصوات السيارات.. وأصوات المارة المنبعثة من الشارع القريب من منزلها، بدا عشقها للأصوات على اختلافها، يتولد في داخلها ويكبر منذ طفولتها، كل صوت له معنى على اختلافه.. وكانت تنتظر إحساس آخر يمكن له أن يقلب حياتها بغتة، لمحة فقط تنقلها من عالمها الذي تعيش فيه بأحزانها.. -عادت تسمع صوت همس خفيف يأتيها من الشارع، وقع أقدام رجولية أثارت في داخلها نوازع مختلفة، لم تعرف أي شعور ذلك الذي تفاجأت به ؟ هل تتجاهله أم تتركه يكبر في داخلها ؟ عند المساء، ازدحمت غرفتها بأصوات كثيرة، فتابعتها بهدوء وضحكة خافته، ومشاعرها كلها تبحث عن ذلك الصوت ووقع الأقدام التي أثارتها، وجعلتها تتقلب في فراشها، وتقلب في رأسها إحداثيات وأرقام وحسابات لم يكن لها معنى في حياتها سابقا.. مرت أيام أخر ، والإحساس بذلك الصوت هو الشيء الذي يستولي على كيانها كله، حتى أنها باتت تجهل أصوات الصباح وتغريد الطيور، وصار للصوت الذي تسمعه بجوار نافذتها معنى في حياتها ، كان يحمل في فحواه رجولة ، تنقلها إلى عوالم مختلفة ، تجعلها تنطلق كالمسحورة دون أن يكون لها إرادة .. وبدا الجميع من حولها يشعر بتغيرها، بتلك الأحاسيس رغم أنها كانت تخفيها.. وذات مساء بارد بينما كانت تقف عند نافذتها، فوجئت بأصوات صراخ .. - قلت لك دعيني أدخل إليها، لابد إن أراها حتى أعلمها التربية والأدب.. - انتبهت للصوت القادم من بعيد ، ساد جو من القلق في قلبها، والصوت يقترب، وهي تصمت وتنصت إليه .. كان يقترب، وسمعته بجوارها .. - إلا تخجلون من أنفسكم ، تتركون ابنتكم واقفة ليل نهار، تسترق النظر إلى وجوه الناس وحرمات البيوت، إنني أسكن في الجوار ، ومن كم يوم لاحظت نظرات ابنتكم المسمرة على ابني أثناء عودته من الجامعة، لم لا تجيبين علي يا بنت ، هل أنت خرساء ؟ - انتبهي ياسيدة لألفاظك ، أنها .. - إنها ماذا ؟ تتحرك السيدة، ومعها تتحرك الأساور الذهبية التي تزين معصمها، وتجذبها من يديها لتنظر إلى وجهها، وهنا تتراجع في ذهول، وتضرب بيدها بقوة على صدرها.. كانت الفتاة عمياء .. وفي لحظة اختلطت فيها الأصوات على الفتاة، فلم تعد تميز في هذا اللحظة سوى دقات قلبها التي راحت ترتفع وترتفع..
جسد نحيل
- بدا جسدها في التكوين رويدا وريدا، حتى اكتملت ملامح جسدها النحيل أمامه، نظر إليها من خلف الغلالة التي ترتديها، شمس الظهيرة نفذت بنعومة خلال الأعضاء، اجتازت بدقة مواضع حميمة في جسدها، لطالما عشق هذا الجسد، وكانت يده تتلمس هذه المواضع أحيانا بدعابة أو ضحكة أو لحظة عشق.. " هل يوجد أحد هنا"؟ -ارتفع صوته الأجش، ونظراته تحملق في الشقة الباردة، تردد صوته، فعاد يستمع إلى تردده بمزيج من الضيق والحزن، شعر بثقل ساقاه، وهما تقودانه إلى داخل غرفتهما، بدا جسدها متعبا، اقترب منها، تطلع إلى عينياها الواهنتان، شعر بغصة بحلقه، وبوهن في أطرافه، كانت مشاعره كلها تبكي، وكانت هي تبكي ، لا لا لم تكن تبكي، كانت تحاول إخفاء ذلك المرض، والتشبث بأي شيء، لاح له وجهها المتعب وقسماته .. تأملها من قدميها الصغيرتين إلى جسدها النحيل، سعل بقوة، سعلته المعتادة، شعر بيديها تحوطان كتفيه، ما أجمل الحلم بين أحضانها؟ لاحت له الكثير من الوجوه المتعبة التي رآها منذ طفولته، وجوه متعبة، مظلمة، فيها الكثير من الظلم والوهن والقهر، وكان يرى في كل وجه ملامحها، ومرضها، وطفولتها، والألم.. كان يضربها حتى يتخلص من ألمه، وكان يتألم لألمها، كان الألم في جسدها كبيرا، وكانت تخفيه بقناع ثلجي بارد، اقترب منها أكثر حتى لامست أنامله جسدها، بل عظمها الرخو، فأزاحته قليلا.. " ما بك ؟" أجابت بلا مبالاة.. " لا شيء" لامست يداه أناملها، خدها، وضع الوسادة تحت رأسها.. "أنا بخير، لا تقلق" كانت ترددها دوما في آلية، تذكر حينما أخبرته عن مرض أمها، لقد بكت كثيرا على هذه الأم رغم الطفولة القاسية التي عاشتها على يد أخوتها وأمها.. خلعت ثوبها بصعوبة، مد يديه حاول مساعدتها، أزاحته في رقة، شعر بضيقه ولكنه عاد ينظر إلى جسدها العاري، تأمل التصاقة جلدها بهيكلها العظمي، تمدد بجوارها، استغرب من صمتها، تمنى لو تصرخ حتى يحضنها ويبكي معها.. الشقة في هذه اللحظات تبدو عليه كبيرة للغاية، رغم تعليقاتها المستمرة وشكواها في العديد من المرات بصغرها، وأنها لن تكفي لأطفالهم في المستقبل.. اقترب من السرير، جلس على حافته، تأمل وجهها، أخذ بيديها وقربها من وجهه، بدت دافئة، حنونة، احتضنها، في لحظة مر خيالها عليه، رآها ترتدي البياض، كم عشق اللون الأبيض على جسدها النحيل؟ كانت تعلم عشقه لهذا اللون، وإلحاحه المستمر حتى ترتديه بصورة مستمرة، أربكته الخيالات، وهو يراها تتحرك في أرجاء الشقة، صامته، تؤدي عملها في صمت وخشوع، أقترب أكثر منها، تمنى لو يلتصق بها، مرت عليه أمور كثيرة، صوت قطة الجيران، وهي تسقط تحت عجلة السيارة، بركة الدماء، والأمعاء التي تفجرت ونافورة الدماء التي سالت على الطرق، وقف يتأملها بمزيد من الصمت والخوف، شعر برغبة بالغثيان، تقلبات معدته تضايقه، منظر الشقة في هذا اليوم يبدو غريبا، طيفها يمر أمامه، وصورة أمعاء القطة تحتل مخيلته بجانبها، خرج من غرفة إلى أخرى ، كان يلاحقها ويديه تحاولان الإمساك بطرف ثوبها الأبيض، صوت دقات قلبها، شهيقها المستمر، العرق البارد المتصبب على وجهها.. الوجوه كلها تطوف به، ووجهها يلاحقه باستمرار.. بكى في ألم، ثم عاد يطلق ضحكة مجنونة وعينيه تتأملان خيالها المنكسر وهو يغادره في صمت.. بينما كان السرير خاليا، والجدران خالية
العصور الوسطى ..
كانت صرختها الأولى مرتبطة بسقوط المطر.. لا يمكنني أن أنسى هذه اللحظة ، كلما هطل المطر ، عادت صرخاتها الحادة الصغيرة تقتحمني اقتحاما ، تعود إلي صرخاتها من جديد ، فأنهض من سريري ، والتصق بالنافذة ، أتابع حبات المطر وهي تنزلق بعفوية على سطح الزجاج ، لا تزال صرخاتها ترتفع أكثر فأكثر ، أغمض عيني وأتساءل هل حقا هي موجودة ؟ أم صدى الصوت الآتي من بعيد؟ من حيث المطر القادم من السماء؟ كنت أستغرب من وجودها في منزلنا ، رغم أنه لا يوجد بيننا أية صلة قربى ، وكنتُ أسأل أمي مرارا عنها ، ولكنها لا تجيبني ، تظل صامته قليلا ، تبحث عن أي إجابة ، ثم تغير الموضوع ، فاستغرب منها ، وتظل نظراتي متعلقة بها ، وهي تدور في أنحاء البيت ، تعمل بصمت دون أن تتحدث ، وكلما تحدثت أخرجت صفيرا مكتوما ، ذكرني بصرخاتها العالية ، التي دوما تلازم سقوط المطر. كنتُ أسمعه كلما مشت على درجات السلم ، وكان لوقع أقدامها صوتا شبيها به ، كان يصل إلى غرفتي التي في العلية ، ويجتاز الممرات والغرف وحتى الأثاث ، وكنت أشعر بأن هذا الصوت لن يفارق منزلنا مادامت على قيد الحياة ، أيام تمر علي كنت أخفي رأسي تحت الوسادة ، حتى لا يصل الصوتُ إلي ، ولكنه رغم ذلك يتعمق في ويجتاز حياتي .. ما إن تقترب مني ، حتى تلفني سكينة غريبة ، فأظل أرمق عيونها البلورية ، فأشعر بأنها تريد الولوج في داخلي كساحرة من العصور الوسطى ، أحاول الفرار أو الهروب ، فتعجز ساقاي عن الحركة ، فأظل أحملق فيها.. تضايقني لحظات سقوط المطر، لأنه يذكرني بصراخها أو العكس ، أحيانا تطاول المخيلات ذاكرتي فألمح من خلف زجاج نافذتي زوجا من العيون البلورية ، يرمقني بحزن ، تتكاثر العيون حتى تملأ النافذة ، وهي تلتصق بها ، أرى حزنا غريبا ودموعا غزيرة ، فأتذكرها نفس العيون ونفس الحزن الغريب.. في الصباح تعود إلى عملها المعتاد ، تنظف ، وتمسح الأرضيات الباردة بخشوع ثم تذهب للسوق تشتري ملزمات المنزل ، تعود فتجهز طعام الغداء ، نجلس معا كأفراد عائلة تقدس العادات والتقاليد وتنظر إلينا بشيء من البرود ، لها الحق في ذلك فهي ليست لها عائلة ، ولا تشعر بالحب أو العطف ، تبدو أمامي وكأنها مجردة من الشعور، وميتة في الداخل ، لا أعضاء ، لا أمعاء أو كبد أو حتى مخ أو لسان .. أضحك من تخيلاتي ، فيستغرب الجميع من ضحكاتي العالية ، وأعود إلى النظر إليها هذه المرة ، كانت ذرات المطر قد بدأت في التساقط، والصوت بدا في التناغم مع المطر، كان الصوت عاليا ، وقد شعرت بالصرخات تجتاز عقلي ، وكياني ، وكنت في لحظة أريد الاختباء منها ، ومن زوج العيون البلورية الذي يراقبني في هذا اليوم الماطر..
لم يكن له ملامح........)
لم يكن له ملامح.. يبدو دوما وكأنه غارق في الظلام، هكذا يخيل إلي، جسد متجهم وعينان مرهقتان، يتحرك في وجوم قاتل، منذ أول ليلة لدخولي المنزل، كنتُ أرى في وجهه تقاطيع موت قادم، زواجي من والده أيقظ فوضى مشاعر عديدة لديه، لم أره يبتسم ولا يضحك ولا حتى لم يكن صالح للبكاء، وكأن رحيل والدته في ذلك اليوم الأغبر، ودخولي حياته وحياة أخوته، قد قلب كيانه وجعله يعيد حساباته مرة أخرى في كل شيء، في اليوم التالي لزواجي دفعني الفضول للدخول إلى غرفته، لا أخفي إعجابي الشديد به، حتى قبل زواجي من والده.. كنتُ ألمحه من بعيد، ويتلمس قلبي المندهش بتفاصيل الحياة، كل شيء جميل فيه، عدا تهجمه وسخطه الواضح، وعدم وضوح ملامحه أو نبرة صوته الخشنة.. دخلتُ غرفته، لا يوجد بها ما يثير، صغيرة، بها سرير ومكتبة قديمة، بعض رفوفها مكسورة، حتى الكتب التي فيها تبدو رثة، وقديمة، ولكن ما لفت انتباهي كومة من الجرائد الملقاة على الأرض بإهمال، وهناك دوائر حمراء وأخرى زرقاء، قد وضعتْ على بعض الجمل والعبارات والمقالات بصورة مثيرة، التقطها بين يدي، أغلبية القصاصات تتحدث عن أشخاص ماتوا بطريقة غير طبيعية، مثلاً بصواعق من السماء، أو شحنات عن طريق الرعد؛ تراجعتُ إلى الخلف، وكدت أسقط على ظهري، أثر التفاف ساقي بواحدة من الجرائد المتكومة، لولا يد قوية أمسكتني، وألتفت لأنظر في خوف، كان هو، عينيه الحادتين، وجهه الغارق دوماً في ظلام محير، تلاقت عيوننا في نظرة خاطفة، وأسرعتُ بالفرار.. ظللتُ طيلة اليوم متوترة، ولم أخرج من غرفتي، حتى زوجي- والده - استغرب من تصرفي، ولكنني تعللتُ له بأنني مريضة، وأريد أن أظل في فراشي، ولم يبالي بي، لقد رمقني بنظرة فارغة، ثم خرج لزيارة رفاقه.. وبقيتُ لوحدي في المنزل، أقصد لوحدنا، تسللتُ من فراشي في خفة متوترة، لا يوجد أحد، الأطفال في الحديقة مع المربية، وأنا وحدي، اتجهت ساقي نحو غرفته، فتحت الباب فوجدته جالساً، وفي يديه جريدة يقرأ فيها دون أن يبالي لخطواتي، إنه يبهرني، اقترب منه، أضع يدي على كتفيه، تتحرك في أعماقي رغبات مدفونة، متوهجة، يلتفت إلي في برود، ويزيح يدي بقسوة، يا إلهي، نظراته الجليدية، تقتحمني في عنوة، تثلج قلبي، فأتراجع، ولا أشعر سوى بصفعته القوية.. وتدور في عيني أحداث ماضية.. زواجي من والده.. وفاة والدته .. قسوتي على أخوته.. طفولتي المحرومة.. فأبكي في ألم، وأنا أعدو لغرفتي، لا أعرف عدد الساعات التي نمت فيها؟ ولكنني استيقظت على صداع عنيف، وجلبة قوية، لابد إنه واقف أمامي، هاهي ملامحه تتكون جزء، جزء، في مزيج رائع، ولكن لا لا.. إنه زوجي العجوز، يطلق صرخات أشبه بعواء كلب جريح، أنهض من فراشي في صعوبة، ماذا حدث؟ إنه هو.. ماذا به ؟ يجرني زوجي من ذراعي بقسوة مجنونة، وأجد نفسي واقفة أمام غرفته، لالا أريد الدخول، جسدي يرتعش، روحي تنتفض وكأنني طير مبلل ظل يوم كامل تحت أمطار يناير، كان بابه مفتوح، وهناك جمهرة كبيرة من النساء والرجال والشرطة متجمعين داخلها يتحدثون بأصوات مبهمة، والنسوة كن يبكين بصوت مبحوح، وهن ينظرن لي في احتقار..... اقتربت منهم بخطا مرتجفة، وجسدي يتأوه، ويلفظ حمم بركانية، لالا لا أصدق، لقد كان ميت، جثة ساكنة، لا تتحرك، وسط الجرائد الملقاة بإهمال في المكان، وفراشه، هناك بقعة حريق كبيرة على فراشه، لا أصدق، اقتربت أكثر منه، وضعت يدي على جسده، تلمستُ وجهه الذي طالما تمنيتُ أن أضع أناملي عليها، خفتُ من نظرات النسوة، تراجعتُ وأنا أبكي بنحيب مكتوم، كيف مات بهذه السرعة؟ كيف؟ قبل ساعات كنتُ معه، دارتْ نظراتي في الغرفة، يا إلهي لم يرحل؟ وقفت أنظر إليهم وهم يحملون جثته، وتكومتُ في مكاني، ونظراته الباردة تعود إلي في أنغام سريالية.. بعد يومين جاءتْ نتيجة البحث الجنائي، بأنه مات ميتة غريبة، فلا توجد أعواد ثقاب ولا سجائر، ولم تصل النتائج للسبب الحقيقي للحريق الموجود على فراشه، سوى أنه ربما احترق جسده احتراق ذاتيا.. لقد أراد أن يكون هكذا، هذه غرفته مفتوحة الأبواب، وكومة الجرائد لا تزال موجودة كجثة متعفنة على أرضية الغرفة.
وجوه أخرى للموت
لم تبك.. لم تصرخ.. بل إنها لم تهمس.. لكن نظراتها كانت تغطي المكان.. والدموع تملأ عينيها.. وصدرها يئز بالآهات.. والاستغراب يتملك حواسها. عندما كانوا يقولون على مسمعها: ماتت، لقد ماتت....، لم تفهم، أو أنها لم تتمكن من الاستيعاب، لكنها أدركت مذاق جديد على كيانها مذاق مالح من الفقد والحنين!. اقتربت من الجسد المسجى أمامها فشعرت ولأول مرة في حياتها بصمت وبرود في اللقاء.. ثم أنها أيضا ولأول مرة في حياتها لا تسمع صوت الاحتفاء ونغمات الفرحة التي كانت تسمعها دوما عند عودتها من مدرستها ظهر كل يوم. اقتربت من الجسد المسجى أمامها فشاهدة العينين مغمضة تلك العينين التي لطالما كانت تسهر ولا تنام وهي تحتضنها وتخفف عنها وطأت الكوابيس في الليل. في غرفتها تجلس تتطلع إلى الجدار بنظرة ملئها الحيرة والاستغراب، ثم تنهض تجمع قصاصات من الأوراق مبعثرة في أرجاء غرفتها، ترتبها بتمهل وروية، ثم أنها تبتسم بسعادة بالغة بعد أن تنهى ترتيبها.... ****** " إنك في منتهى الجنون " قالتها شقيقتها في توتر وعصبية.. لقد ماتت أمنا، ماتت يا شمسه، استيقظي من هذه الهلوسة!، كيف تعيشين حياتك وسط هذا الاجترار الحزين لأيام لا يمكن أن تعود؟، كيف وصل بك الحال لرسم خربشات على الورق، ثم تقولين أنها وجه أمنا؟ انك لا تترددين من القول أنها لم تمت وأنها دوما تحدثك؟!!. صرخت شمسه:" أمي لم تمت، أنت واهية، لا يمكن أن تموت وتتركني، لقد طلبت مني أن أرسم ما أحب وما أتخيل..... لقد شاهدة وجهها، لمست بيديها خدي، ثم أنها حكت لي ليلة البارحة حكاية قبل النوم".. لم تفتر شمسة من الحديث طوال سنوات عن رؤيتها لأمها، ولم تكل من رسمها على كل ورقة تقع في يديها... لكن الغريب أنه كلما دلف أحدهم غرفتها يرى شكلا آخر وقصاصة أخرى قد انضمت لقائمة رسوماتها، فأصبحت رسوم أمها بجوارها رسوم أخرى لجدها ثم جدتها فأبيها...... صغيرة يتملكها الحنين والذهول!!
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |