|
قصة قصيرة احتباس محمود يعقوب / الشطرة لم يكن اسمه (تائه),كان اسمه(تايه)،هكذا بحرف الياء الذي يجعل الاسم يسيل تيهاً. ولا اعرف بالضبط كيف امعن الوالدان بترك ابنهم تائها في هذا الاسم منذ ولادته وحتى الموت !.. جمعنا الكدر صدفةً. وعقدت عليه قران محبتي في مأتم..في المأتم الذي كنت المعني الاول فيه،في واحد من شتاءات العقد الماضي، حيث الريح الشرقية الملبدة بالهموم.كان مهضوماً،يردد في اذني : - لا احد يحتفل بي على الرغم من العناء والنكد.. لا احد.. اعتدت ان لا اطيق المآتم.. في المآتم تحتشد المشاعر وتحتدم العواطف،الصادقة منها والكاذبة ايضا.. وفيها يجيء الاقارب بقلب ٍ واحد، وسرعان ماتتفرق القلوب حين ينصرفون.. وفي المآتم يستنفر ذوو الشآن بعضهم بعضا استنفاراً مستبدا لا يحتمل.. حقيقة لهذا وذاك انا لا اطيق المآتم.. في هذا المأتم العائلي، كنت مثل مومياءٍ ملفوفةٍ بأربطة الخيبة،مومياءٍ اخرجت لتوها من قبرٍ غابروألقيت شاخصةً امام فضول المتفحصين !.. ومن اول يوم تحريت عن شيء،ايما شيء، وأقل ما يمكن من الاشياء, اشغل نفسي،وأهدر الوقت الذي ظل يغط في نومٍ عميق في لجة إحتباسي هذا. شعرت انني نجحت، كان جندي المآتم المجهول –ساقي القهوة – طريدتي التي لاحقتها بنظراتي منذ الساعات الاولى. كان يعمل بنفسٍ مهني عالٍ،بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى دقيق.ينحني بتؤدة ووقار، يصب القهوة في الاكواب الخزفية ويقدمها بكياسة ووقار للجميع.بجسده الضامر ووجه المكسو بالتعب و رائحة القهوة وطعم الحنين. وحين يسقي الجميع يعود ليجلس على كرسية المخصوص قرب موقد الدلال، يخلع حذاءه البلاستيكي ويسوي جواربه.كان يعاني من مشكلةٍ في قدميه.. ولربما اثار في نفسي شيئاً من الغرابة عن حالة تناقض واضح بين جرأة مهنته تلك وسيماء الخجل الطافح في وجهه.. ولربما ايضاً بسببٍ من هذا الخجل الطفولي ما يبرر وقوعه في شباك رجال السلطة انذاك. تلقف طعم الصيد مع رهط من اناسٍ بسطاء, وجندوا لحراسة بنايةٍ كبيرة دون مقابل. كان(تايه) يحرس حراسة جائرة، يسهر معظم الليل وفي الصباح يأتي الى عمله مجهداً غارقاً في النعاس وشاكياً من قدميه. ظل مكتفاً بخجله،مترددا،في حين تنصل اصحابه الواحد بعد الاخر،الأ هو، حرس لزمن طويل الى الحد الذي جعله مثار سخرية وتفكه الاخرين الذين نعتوه بأنه فراش وثير للحراسات الليلية. ومن قلبه الماتمي تصعد زفرة من يهفو الى الخلاص وهو يردد : -لا احد يحتفل بي.. ثم ينحني مسوياً جواربه ومعقباً: كم آذتني هذه المسامير اللحمية النابتة في قدمي !.. كان ذلك الشتاء قاسيا وغير مبال فات يجر اوحاله واوجاعه ببطء،غير انه فات..فات وانتهى حتى اخر قطرة مطر.. ولم تنتهِ المآتم.. وكان (تايه) نائياً فيها،مأتم اثر مأتم.. وكنت اراه من وقت لأخر في بعض منها. ومرة هرع نحوي وهمس لي وهو يصب القهوة : - ابشرك،لقد فرجت.. وخارج المأتم،روى لي الكثير من الناس ماحصل مع ام (تايه).. قالو انه تقبل نصيحة امهِ على مضض، تقبلها بعد خصامٍ والحاح، وإمتنع عن الحراسةِ.. وعدته امه بتكفل الامر هذا دون ان يتوجس منه خيفةً. انقطع عن الذهاب يومين فقط، وفي اليوم الثالث ارسلوا بطلبه،فأستعدت امه لهذا الامر.جمعت كل ماجهزوه بهِ (البدلة الخضراء،غطاء الرأس، وحذائهم الطويل،وسلاحهم وعتادهم..)وادخلت كل هذه الاشياء في كيس ٍ كبير ونظيف. قصدت تلك البناية واصرّت على مواجهة المسؤول فيها.. ادخلوها الى قاعة فارهةٍ مسدلة النوافذ، تحتل صدرها منضدة فخمة، يجلس خلفها المسؤول هادئاً ومتجهماً.. وحالما ابتدئت كلامها، واجهها الرجل بالكثير من الحجج, الا انها كانت تقارع تلك الحجج بحجج عفوية صادقة لها وقع في النفس. تشعب الكلام والمرآة واقفة تذب عن ولدها.. حتى طفح الكيل وصاح الرجل المسؤول بحارسهِ الواقف عند الباب طالباً منه تسلم التجهيزات من المرآة، وهاتفا بصوت منزعج - انهم لا يرحبون بمن يتخاذل عن واجبه !.. وبسرعة ٍ فتحت المرآة الكيس، وضعته امام الحارس، فتصاعدت منه رائحة النفثالين التي راحت تمشي من انف الى انف حتى وصلت الى انف المسؤول الذي رفع رأسه والقى نظرة فيها الكثيرمن الهزء الى الكيس. في اثناء ذلك طفق رجل يجلس الى يمين المسوؤل, بألقاء خطاب ذي نبرة عالية على مسامع المرآة..خطاب مشبع بالكلمات المبهمة ورائحة النفثالين،والمرآة واقفة حياله،رافعة حافة سبابتها بين شفتيها،في ذلك الوضع الذي يكشف بوضوح براءة النساء وعفويتهن وبساطتهن، كانت تصيخ السمع، ولم تفهم حرفاً واحداً من خطابه الغريب، وانهى الرجل قوله متسائلا وهو يهز يده بقوة : -اين المبادئ والقيم ؟.. خفضت المرأة بصرها نحو الكيس، وأشارت اليه قائلة بتوجسٍ: - انها في الكيس.. وكل مايخصكم موجود فيه. في ذلك المقام، كتم الحرج رعدة ضاحكة سرت في اجساد الحاضرين، فيما برقع المسؤول وجهه بالوجوم حاسبا ضحكاً تتفجر بين ثناياه !..واذّاك اعلن الحارس ان جميع الاشياء على مايرام. اومأ المسؤول الى المرآة بالانصراف، وحين همت، عاد ذلك الرجل ليلقي خطاباً اخراً, وكان بوسعها ان تسمعه وهي خلف الابواب.. شتاءات قاسية اخرى وفصول مرت دون ان ارى (تايه) او اسمع شيء عنه،حتى لاحقتني لعنة المآتم من جديد. اقامت عائلتي مأتما وكنت المعني الاول فيه ايضاً, ولفت اربطة الخيبة جسدي ثانية، وجلست ابحث عن شيء يواسيني.. وكما هو متوقع، تقربت من ساقي القهوة، وتجاذبنا احاديث كثيرة، وسألته عن (تايه).. سالته عنه كثيرا، فاجابني بنظرات ساهمة يتفجر فيها الحنين : - ان (تايه) بعد ان وجد نفسه وتلمس دربه، ترك مهنته المأتمية، وغير مكان عمله، ولم يعد يسمع عنه الا القليل. غير ان اصدقاء له اخبروه –وهو ليس متأكداً تماماً من ذلك –ان امر الله قد طرق (تايه) ومات من زمن !.. تأسفت من الاعماق وانا يخطرفي بالي كلما دار بيني وبينه.. تذكرت كل اخباره، وتذكرت ذلك الرجل الغليظ القلب، صاحب الخطابات، الذي كنت اعرفه جيدا, والذي بات اليوم في عداد الموتى، واعرف انه بكل سطوته وسلطته وبطول تأريخه النضالي كان على استعداد كامل لان يبيع تلك المبادئ والقيم بقشر بصل يابس. تأسفت كثيراً،وبوجدان مرتعش قلت لمحدثي :- رحم الله (تايه)يوم ولد ويوم يموت.. ويوم يحاسب عن المبادئ والقيم, ارى انه من الصحيح تماماً ان اقول انني وبعد هذه السنوات الوعرة كنت قد نسيت (تايه)، لم اعد اتذكره،نسيت اشياء كثيرة.. اشياء واشياء تصاعدت من داخلي كالبخار.. وصرت مشغولا بأمور جديدة.. امور اخرى تبرق كل يوم مثل الشهب والنيازك وتملاء السماء بومضها ودخانها.. ولكن ذات مرة قصدت مقهى في قلب السوق. واحدة من مقاهي الضجيج والمشاحنات,وحين خطوت داخلها قليلا تسمرت في مكاني والشك يساورني حين رأيت شاباً بثوب ابيض نظيف ووجه ممتلىء ريان،تعلوه الغبطة وهو يمازح اصدقائهِ بصوت مرتفع.. وفجأة يسكت حين يشعر بتسلط نظراتي، ويلتفت نحوي برهبة، ثم يقفز من مكانه ويهرع الي، ونتشابك في عناق حميم !.. وبينما كنت احاول افلا رأسي من بين ذراعيه صحت به: -(تايه)يا عزيزي لم ازل اشم فيك رائحة القهوة.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |