|
قصة قصيرة حين يبدأ الكلام* برهان الخطيب حين يبدأ الكلام يضيع الموضوع، قلت هذا لوالدي ولم يسمعني، كان مشغولا عني لا أدري بماذا، لم يكن حزينا ولا عصبيا ولا فرحا، لم يكن يبدو على وجهه أي شئ، كان ينظر بعيدا، يفكر في جهة سفره على الأرجح. حقيقة كان يبدو أكثر شبابا من المعتاد. ولنفسي بدوت أنا في مرآة الغرفة أكبر منه بأعوام. أثر فيَّ أنه لم يعد يهتم لي كثيرا، كنت أريد أن أعرف لماذا يريد السفر وإلى أين، وإذا قرر السفر فعلا فلماذا لا يريد انتظاري لنغادر سوية فندق "الحياة".. لم يزعل مني حتما، وإلاّ كان قال شيئا أو أظهر ذلك على وجهه، حاولت فهمه، لم يكن مهتما بأي شئ حد الغم. أيضا، لا يمكن أن يكون الشوق إلى بيتنا، أو إلى أمي، هاجمه بغتة وفكر عليه العودة إليه أو إليها. نحن غادرناه منذ زمن طويل. اعتدنا إلى حد ما العيش بعيدا عن مَرتع الصبا والشباب، ذهبت أنا إلى ما يسمى بلد غربتي، هو إلى هناك، و جاء من الغيم الآن لنلتقي إلى هذا الفندق في سفرته الغريبة، مر عابرا للتكلم في شؤون عائلتنا، البيت الكبير، مَن يهتم به بعد غيابه، شكله في الذاكرة غائم، وراء قضبان وأغصان أشجار عجفاء، موشكة على اخضرار دائما ولا تخضر، الحديقة المهجورة لم تعد غناء، لا تُسمع منها زقزقة، ضحكات، مذ أهملها الوالد، الحق اخبرتني أمي بالتلفون انها تراه غالبا يتمشى في الزاوية وراء البيت، أحيانا قرب خزان المياه، الصدئ منذ تثقيبه بطلقات الرعاة ذوي الخوذ الحديدية.. ثرثرت شقيقاتي أيضا عن ذلك، كأن الريح تدوّم خفيفا، تصنع سَوْرة مغزل كلما تناهى صوت الوالد من هناك خافتا، يكلم نفسه، أحب ذلك المكان المشمس على أية حال، كان محميا، سوى من جهة السماء، الأكثر خطرا، خاصة عند اقتراب السمتيات. لعله اخفى في تلك البقعة مالا، حق دفنته، أو صورا، أو وثائق ما. المبلغ الذي حمله معه وضعه أمامي على سرير الفندق، قال هذا كل ما تمكنت جمعه في حياتي، ليس مبلغا كبيرا ترى، لكنه حلال زلال، جمعته بتقشف ونشف عرق جبيني، خبّرني ما رأيك؟ أنت ولدي الكبير وعليك قرار ما نفعل بعدي، تركته ليوم أسود أتمنى أن لا ترونه، ابقاؤه في درج مكتبي أو تحت الأرض خال من معنى، جنود أغراب ومن أهل البلد يدخلون البيوت أثناء حملات التفتيش، يعبثون، يصادرون أحيانا ما ليس لهم، لا أعرف مَن قد يضع يده بعدي عليه، جهد الآدمي حرام يضيع، هدره جريمة، والاستئثار به من طرف واحد لؤم وخسة، اليوم الكل يسرق تعرف، وكل شئ يُسرق.. قلتُ له كنتَ تركته لأمي، خبرتني أيضا الأزمة خانقة، الكهرباء، الوقود، التموين، اعترضَ: أمك لن تحتاجه، تقاعدي على قلته يحميها إلى آخر يوم من حياتها. قرر ابني ما نفعل به، تضعه في بنك، تشتري به بيتا، ملاحا لأنس، سلاحا لنفس، كل يجن بطريقته الخاصة، الأمر لك، كل ما هناك أريد لو وجدتَ أنك أو إحدى أخواتك في ضائقة أن ينفعكم، في تدبير حالكم بطريقة ما.. كان يجب أن أقترح شيئا، الغطاء انهكني، الغرفة ضاقت بي، صورة والدي الملقاة على الدولاب الصغير جوار السرير تحدق بي، السقف الأبيض الأبلق استطال، امتد إلى بيتنا شاشة سينما مطفأة، احترق فيلمها، فارغة، كنت أعرف لو قلت أي شئ خربت جلالة المشهد معه، حين يبدأ الكلام يضيع الموضوع، هكذا تساءلت أخيرا: إذن جئت إلى لتقول لي هذا فقط؟ لم يرد والدي، ظل ملتفتا عني إلى جهة سفره البعيدة، شعرت محبة كبيرة له. منذ تجاوزت الأربعين ونحن تآخينا، اصبحنا صديقين حين وضع كأسا وقال تعال ابني اشرب معي حليب السباع هذا. أثناء قيلولتي بعد الظهر، شعرت غادر والدي الغرفة، التفت إلى السرير الثاني، كان خاليا، مرتبا، مضيت إلى المرافق، دهشت قليلا، لم يبق له أثر في الغرفة، حقيبة لم تكن هناك، عدت إلى مكانه المفضل قرب النافذة. النور تسلل حليبيا، رأيته لحظات، اختفى، ذرات غبار تحركت ذاهبة، آيبة، سديم مجرات بعيدة، تململت الستائر بطيئا مع النسيم، الناس في الشارع تحركوا في فيلم صامت. لم تكن أية حقيبة في أي مكان فعلا، هل جئت إلى هذا الفندق من غير حقيبة! لم يكن هو أيضا في أي مكان. فعلها ومضى من غيري. له حق. المؤكد لم يمر وقت طويل على غيابه عن الغرفة. فكرت قد أجده في بهو الاستقبال ينتظر، يحاسب الإدارة. أو لعله ينتظرني هناك حتى أستيقط من خدري، سوف أنزل إليه.. حقا.. لحقت به عند بوابة الفندق.. أمسكت حقيبة، قلت له، وأنا أعرف حين يبدأ الكلام يضيع الموضوع، أي شئ هذا تسوي بابا؟ كان في امكانك انتظاري حتى نطلع سوية، لا أحب البقاء هنا طويلا بعد غيابك. لم يرد. في ماذا كان يفكر، الله أعلم، المهم لم يكن متضايقا، ولا عجلا، ولا حزينا، ولا فرحا، كان يريد السفر فقط، الأصح كان عليه السفر، ذلك كل ما في الموضوع، لو تكلمنا عنه ضاع. علينا تدبير الحال سوية، التأقلم مع وضع جديد، ليس سهلا على كلينا، لا أحد يريد الاعتراف للآخر قد تكون هي المرة الأخيرة يرى واحدنا الآخر، حدث هذا لنا من قبل وكان صعبا جدا، مؤلم الافتراق على أساس الغياب التام، شبه مستحيل، اليأس ليس من طبيعة الحي، الأمل حفاز، أقوى حقا من كل يأس. أفرحني رغم صعوبة المنظَر والمنتظَر أن يكون والدي بتلك الوسامة والأناقة ورباطة الجأش، تحلى بها حقا وهو في استعداده لسفر مجهول، غمني الافتراق عنه، بلي، رجوته الانتظار قليلا، سوف نغادر معا، أنا أيضا معي تذكرة عودة، غير ضروري أبدا أن تغادر قبلي، كلٌ وميعاد سفره نعم، على أي حال يمكنك تأجيل السفر، أجلتَه غير مرة، هل تذكر، كم مرة قلت لأشرب عصير العنب هذا ثم أغادر، خذوني إلى المستشفى ثم تعلن ليس بي شئ، لا داعي لوجع الرأس، نسيتُ الرحيل، تشبثتَ بجلسات الأصيل تحت النخيل قرب أورادك، تذكر حين قلتَ الهواء أصبح أخضر من خضرة العشب، أشرتَ إلى نمل، زجرتنا بصوت واهن منطفئ، ماذا تفعل تلك الدناصير هناك، قادمة إليّ تفترسني، وجهك تبلل بماء من يد أمي، صفعك عطر الحديقة، عدت إلينا، قلتَ صفعة العطر أقوى من صدمة السيارة وضربة الطلقة. سيارات بغداد سالكة الآن، يمكن المغادرة أي وقت والوصول حسب التساهيل، علام العجلة، لا أحد يهتم على طريق الخطر بمتقاعد ابيضّ ظاهره وباطنه من فوق لتحت.. لم يرد عليّ. كان يعرف أيضا: حين يبدأ كلامنا يضيع الموضوع. ممسكا حقيبة، يرفض تسليمها لي، كأنه يقول: يا ابني لا يجوز اجبار نفسك على الرحيل إلاّ إذا اقتضت ضرورة، ابق بعدي في هذه المدينة الحلوة أياما أخرى، لا مفخخات هنا ولا فخفخات، لا صواريخ ولا مصاريخ، لا كوابح اسمنتية ولا لوتية، تمتع بملاهيها قبل عودتك لمنفاك الآخر. تمهل مترددا، شفقة بي على الأرجح، قلتُ: دقائق وأعود إليك، خليني أعهد أولا بهذه الحقيبة لموظف الاستقبال، أضع عليّ ملابس الطلعة في الأقل، نتمشى قليلا في تلك الحديقة العامة، ونقرر، ما رأيك؟ تركته قرب البوابة، صعدت إلى الغرفة. لما نزلت كان قد غاب عن بهو الفندق. نعم، كما في حلم تماما، موظف الاستقبال بدا كأنه أخبرني أصر على ذهاب حتى لو من غير الحقيبة، خرجت إلى الشارع، قلبت نظري بين المارة والسيارات. التقطت تاكسي ومضيت إلى شركة النقل. الشوارع رغم الزحامات خالية. في الطريق لمحته خطفا يمشي مطأطئا شيبته إلى الرصيف، حاملا الحقيبة، تحت المطر، يا والدي لماذا الرحيل؟! لماذا على الأبناء سماع كلام الآباء دائما، لا العكس، خاصة حين يكون الأبناء على صواب، ما أصعب الفراق، ما أسخف وأقسى الحياة حين تكون أقدارنا ليس في يدنا، التفت إلى بناية الفندق، اختفت عن نظري وراء سحابة عادم، توقف التاكسي، كررت: لماذا تفعل هذا بنفسك و بي بابا، ما لزوم العجلة، لماذا المشي وهذا المطر ينهمر عليك.. في هذا الدخان.. من أين جاء كل هذا الدخان! من أين؟!.. قال: حريق هناك، كيف لا تعرف، قذائف نزلت على الحي المجاور، تسعة من أبناء الأعمام والجيران أخذوهم، أنت تعرف. كدت أصيح: بابا نحن لسنا في بغداد، ماذا دهاك! الصيحة ضربت رأسي من الداخل في صمت. لم يضف شيئا، كان ينظر إلى جهة السفر البعيدة. حاولت اقناعه: أمي تصل قريبا، لماذا لا تنتظرها في الأقل؟ ظل صامتا، هو يعرف، عطر الحدائق أمضى من عطور النساء، في الثمانين وأمي تطالب بعطرها المفضل من السوق الحرة، حين يبدأ الكلام يضيع الموضوع، ليته قال أي شئ وخلصني من تخمين وحيرة.. واصل التاكسي سيره إلى شركة النقل.. هناك قالوا لا لم تصل اليوم سيارة من بغداد، ربما بعد دقيقة، ربما بعد ساعة، آخر تلفون وصلنا منهم كانوا عالقين على الحدود، حالفهم حظ ونجوا من غزوة مجاهدين، تبعتها ضربة سمتية مريخية قريبة من الطريق العام، المهم وصلوا الحدود سالمين، ترسو السيارة هنا قبيل منتصف الليل على الأرجح، نخابرك حين يصلنا خبر جديد منهم، إليس مع أمك تلفون نقال؟ معلوم، سوف تحتاج الخط الشامي، لا تقلق، أزمة اشتدي تنفرجي.. في المقهى القريب تحت الفندق تسارع نبضي، خفت يتوقف قلبي بعد لحظة، سكنت في انتظار أن اهدأ، لا يمكن في دقائق تجاوز شدة مستمرة منذ عقود، هو لم يرغب في شئ، لا يرغب مذ التقينا في شراب ولا طعام أو نوم، عرضت عليه عصيري قبل أن اشرب، ما أومأ حتى برأسه، لا قبولا ولا رفضا، عيناه على مدى الشارع حيث تأتي السيارات وتروح في فيلمنا الصامت. ساكت طول الوقت منذ وصلنا إلى هنا، هل معك خبر مؤسف كبير، لا تريد نقله إليّ؟ حدث شئ لأمي هناك؟ لأخواتي؟ لماذا لا تتكلم عن إي منهم؟ لا أعتقد لم يعد أحد منهم يهمك، وإلاّ ما تعجلت المجيئ إليّ عبر مشوار الهجم والهجن المعروف والمجهول، لنتكلم فقط؟ الآن نويتَ عبوره في الاتجاه المعاكس، إلى أين، ها، قل لي؟.. لم يهمه في الحقيقة ولا همني أن نتكلم عما يدور في بغداد، كفى اتطلع إلى مرآة وأرى ما فيها، أخبارها في الجرائد والفضائيات والمقاهي، لا تنقطع، ما حدث ويحدث في بيتنا وفوقه معروف، يحدث لكل البيوت والشوارع.. وزز.. وزز.. وزز.. سوف تصل أمي وتنقل لي بقية ما أريد ولا أريد سماعه. كان يهمني وأبي معرفة كيف كانت وكيف اصبحت علاقتنا. وجدنا أنفسنا في حساب وعتاب فجأة. بكلمات أو من غيرها، سأل كلٌ منا و أجاب أمام الآخر، ما له وما عليه، علاقة كانت في تغير دائم مذ شبت عن الطوق، مذ كبرت وافترقنا نهائيا، هكذا تصورت في الأقل عندما ودعته، بعد زيارته الأخيرة لى، في بلد غربتي أو منفاي لا فرق، هناك قرب حاجز افتراق المودعين عن المسافرين، التقت عيوننا طويلا، فكر كل منا لحظات في هاجس عميق، في ذكرى تفارقه، الأبن لم يعد صغيرا، الأب لم يعد كبيرا فقط، غادر كل منا في شجن حينه، قيدت في ذاكرتي هي المرة الأخيرة أرى الشيخ الطيب ويراني، لم يعد مسموحا سرقة الزمن، نلهو كما نشاء على هذا الطرف أو ذاك من المعمورة، أسماها هو المهجومة، له حق، بعد مسعورتين احرقت الأخضر واليابس في بغداد ماذا عليه أن يقول؟ عاد هو إلى حَر بغداد، وأنا إلى زمهرير تلك البلاد، ثم نزلت المسعورة الثالثة الأشد، الشيخ الطيب الفتي دائما شاخ على أية حال، آن أوان رحيله، كم كنت أحب أن يكون فراقنا النهائي لا غفلة، عند ذلك الحاجز العسفي، بل أن اكون جواره في استعداد مناسب للرحيل الأخير، اسمع منه آخر كلماته، تمر أناملي على جبهته، امحضه عهد وفاء، لإبقاء ذكراه حية، بقاء الخير الذي عرفته منه وعنه حولي.. ذلك لم يحصل. تمنيت لو أنه كان في إمكاني أفعل المزيد يؤنس حياته، كما آنس هو حياتي بالكثير، نعم اصبحنا صديقين، لا تخلو صداقة من نكد وخصام أحيانا، غالبا تساءلت، هل كانت علاقتي معه تعيقني أو تساعدني على درب الحياة؟ صورته هذه إلى متى أحملها معي، هل كان ظله يخفي صورتي الحقيقية عن الظهور على الملأ كما يجب، يجعلها قاتمة، أو أنه أبرزها مجسمة، ملونة، ببعد إضافي غير مرئي، دون أن يعلم اي منا حقيقة ما كان معنا. و.. طالما لم يزعجني الرد على ذلك التساؤل اقتنعت لا ضير فيه، ليكن وجودنا مشتركا ولو إلى حين، في حضوره أو غيابه، كلنا في النهاية من سديم، بلوزتك هذه عليّ تعني أو لا تعني الشئ الكثير؟ حنين لما اختفى في ثنايا الزمن؟ ليكن. المرة الأخيرة في غرفة الفندق، بُعيد وصول أمي، توقف قرب النافذة، مكانه الأثير، الستائر المتحركة بطيئا تحجب النور، انعكاسات أشعة مصابيح الشارع، هالة متلاشية في زرقة السماء وعتمة الغرفة تحيطه، قلت: تمدد بابا، لا تتعب نفسك بلا طائل، أجاب: تعبت من التمدد. اجلس إذن. قال: الفراق حق. بقيت على الحوار معه رغم الصمت. أمي حدثتني عن كل شئ. أعرفُ لا تطيق أنتَ البقاء في البيت حين تحلق الطائرات، و لا تقدر على مغادرة، طلقات الخارج حشرات نارية، لسعاتها تقرب الأوان، كذلك لا يمكنك الابتعاد عن أوراد الحديقة، لا يظل بالك عليها، أمي، أخواتي، الجيران، يسقونها عند الحاجة، اهتمامك بها عجيب وأنت تعلم الورد أصبح أخرس هو الآخر، العشب امتلأ أفاعي، لكن لو تحولت الأشجار هياكل عظمية محروقة تخضر أخيرا لا محال، قد يسقط صاروخ على البيت أو الحديقة، ينبتها أزهار شر؟ مَن قال هذا؟ أنت؟ أنا؟ شاعر بطران؟ لا فرق، يعلم كلانا، حين يبدأ الكلام يضيع الموضوع، إنما لم تقل لي، بعد احالتك على التقاعد كم يوما بقيت تذهب إلى مدرستك وتديرها كأن شيئا لم يكن وبراءة المتقاعدين في عينيك.. ها؟ مضحك حقا، حين خلت المدرسة، لا تلاميذ في المدرسة، لا معلمين، لا فراشين، تفتح البوابة، رأسك غزاه الشيب، تقرع الجرس، دوي صفارات الانذار يخدشه بعيب، يمتزج بتطريز طلقات حافة الأفق، لا أحد يدخل إلى الصفوف، العلم المثقب يرفرف وحده، الدرس تبدأه وتنهيه في صمت، تسأل نفسك ماذا تفعل هنا، تعود إلى البيت، تقول لأمي: الكل غائب أو مضرب عن الدوام يا فطيم، لماذا لا نضرب نحن أيضا عن الأكل، عن النوم، عن الحب، ترد عليك: إضرب أولا عن التمشي في الحديقة ليلا.. هكذا قالت.. حب قال، والله ما عرفت شنو الحب إلاّ بعد رحيله، الحب الحقيقي لا نتكلم عنه، نعيشه، لا نراه، حب المرأة لأولادها، حب الابن لأهله، حب الرجل لذريته، حب الزوج والزوجة المستورين، حب النشمي لأرضه، سمعتَ أنتَ في يوم أحدا منا تكلم عنه؟ كلام تلفزيون هذا، لقفته أنت وغيرك منه والساعة جئت تصبه على راسي، مَن منا تزوج وخلف عن حب وتفاهم كما تفضل حضرتك؟ لا أنا ولا أمي ولا خالاتك ولا أخواتك، كلهن عشن وإياهم نعم العيشة، خلفوا نعم الخلفة، هذا أنت أمامي، ما عازك؟ طول، عرض، عقل، فهم؟ لا تفوّت هذي الفرصة، أخرجت من حقيبتها اليدوية جلد التمساح دستة صور، اريد قبل ما اغمض عيني آخر مرة أشوف أولادك، هذي الصور منتقاة من عشرات البنات، كل واحدة تقول للقمر غب أنا بدالك، من غير دلالي ما يحلا في الدنيا دلالك، لا تبق في ظنونك وحيرتك، تزوج من بنات بلدك المجربات، وليكن من عازبات وأرملات بالملايين اليوم، أفضل من بنات غير مجربات، هيا، شف مَن منهن دخلت روحك من الصورة، نرسل إليها مع سائق، تجيئنا مع محرم من أهلها إلى هنا، تعقد عليها وخذها معك، أجر لها بيت هنا، بكيفك، بس رجعة لبغداد ماكو هسه، الذي يطلع من بيته لشراء خبز رجعته غير مضمونة.. والدي نظر إلي من غير حزن، من غير معنى، كأنه قال من قرب النافذة: لا تسمع كلامها، الوقت الآن وقت موت وحساب ما وقت زواج وكتاب. والدتي تذمرت: الناس ما تبطل تعيش وتبني حتى لو خربت الأمة من زاخو وبغداد لبصرة. الصخب في الشارع مكتوم، الفلينتان في مكانيهما من أذنيَّ، الحديقة العامة المبقعة بالنور والعتمة، المقهى المزخرف بالصحف والنرجيلات، الرصيف الطويل المتلاشي تحت الأشجار، رحبة السماء المدلهمة، ما وسع مكان لمن ضاق به صدره وفسحة الزمان.. أخيرا اقتربت إلى ملهى ليلى، غير بعيد عن الفندق، قلت لأجرب حظي، لعل نصيحة والدي نافعة. وزع النادل صحون المقبلات على المائدة كما لو أنه رسم لوحة، سأل في كبرياء قبيل مضيه لو كنت أرغب في فتاة تسليني، قلت عندي عشرة في جيبي. جاء عازف كمان بائس. اكرمته بما تيسر، انسحب في حزن، قرب المسرح ضحك عاليا، تغيرت الأنوار، أصبحت ساطعة، زاهية، دق الطبل والمزمار، ظهرت مغنية بيضاء، لبنطلونها الجنز منطقة العانة أشياء غريبة مرسومة بالأسود، رواد في فرح غامر، خليجيون تمايلوا متراقصين، عراقيون نظروا حولهم في حذر. انتهت النمرة. ظهر شاب أسمر، صاح بوذية هزت الصالة بشجن قاتل. بكى خفية من بكى. أبى من أبى. تواصل في زاوية صياح غير فطنين لما في الأغنية. عادت الدبكة بعد حين. اختلطت القهقهات ببقايا التهنّف.. لم أكن أعلم حقا مَن أنا، ماذا أريد، حين أبدأ كلامي يضيع الموضوع، أريد امرأة ولا أريد، أريد العودة إلى بغداد ولا أريد، أريد التراجع الى بلد الثلج والغربة ولا أريد، أريد أن يبقى والدي جواري ولا أريد، اريد أن أواصل الكلام مع أمي ولا أريد، أريد أن أريد، لا أريد أن لا أريد، كيف يمكن أن لا أريد وأرامل بالملايين هناك، أضف إليهن أو أنقص نمرة اخرى، رقما محظوظا أو غير محظوظ قد تكون، النازلة هنا، العزلة هناك، حكاية أخرى يسردها مجنون لمجنون، لا فائدة من تكرار، حين يبدأ الكلام يضيع الموضوع.. لم يرغب والدي النوم مع والدتي على نفس السرير، ظل طيلة الليل واقفا مكانه قرب النافذة، فجرا تحركت الستارة واختفى، لم أحدث أمي عنه، همومها لا تنتهي، استرجَعَتْ الصور عن الطاولة الصغيرة، كانت بينها صورة والدي، بسطَتْها وأقفيتها ظاهرة على سجادة صلاتها المفروشة بين السريرين، كأنها ورق اللعب ناقلتْ الصور واحدة فوق أخرى، دمدمَتْ في حيرة، إذا وقعت الخيرة، على واحدة منهن مرتين، يعني هي الصالحة لكَ حتى لو ما رضت العين. لم أدعها تكمل طقوسها، لملمتُ الصور، وهي مستاءة، واعدتُها جميعا مع صورة والدي إلى حقيبتها جلد التمساح. وتصاعد ضجيج السيارات والمارة في الشارع عبر النافذة قويا مفعما حيوية..
ــــــــــــــــــــــــــــــ * عن صحيفة (العرب) الندنية ـ عدد 7791
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |