|
قصة قصيرة إنها واقفة هناك .. فاطمة المزروعي / الامارات أمام المرآة ترمقها بشيء من الضجر والتعب الجسمي، والواضح في ملامحها منذ فترة ليست بالقصيرة.. وضعت بعض البودرة تحت عينيها، حتى تخفي ذلك السواد الذي بدا يتزايد بصورة مرعبه في الأيام الأخيرة، مرضها المفاجئ، شعورها بالغثيان والدوار الذي بدا يلف بها.. كانت تنظر إلى وجهها في المرآة ، تتأمله بصورة جديه، فهو لم يعد فتيا كالسابق، منذ فترة طويلة لم تقف أمام المرآة، كانت تغلق على نفسها الباب، وتطفئ الأنوار حتى لا ترى وجهها، عقدتها في الحياة المرآة، لأول مرة تقف وتتأمله في إمعان، كيف تركت تلك التجاعيد تغزو ملامحها بهذه السرعة؟ لقد كانت امرأة تقدس الحياة بصورة مطلقة، لقد تربت تربية دينية بحته، بحيث إنها لم تخلع الحجاب يوما، هالها منظر الحزن والألم في وجهها وعينيها، لابد وأن جميع من حولها شعروا بذلك الحزن الداكن الذي يسكنها منذ طفولتها.. استيقظت بغتة من شرودها اللانهائي، على صوت يناديها، فتأففت في ضيق، انه يناديها، لابد وانه على عجلة من أمره، إن زيارة صديقه وزوجته، أمرا يضايقها، لم اختار هذا الوقت بالذات حتى يزوروهما، انه على علم بذلك المرض الذي يضايقها من فترة، لقد نصحها الطبيب بعدم إجهاد نفسها في العمل وتناول الطعام حتى تستعيد قواها بسرعة، إنها تتقيد بمواعيد الدواء المقدسة، ولا تحاول أن تنساه ... تتذكر في طفولتها كيف كانت تؤدي واجباتها بصورة مستمرة؟ والمرة الوحيدة التي نست ذلك ، تعرضت لعقاب وضرب مبرح على يديها، لقد ظلت طوال اليوم تبكي، في الطريق بين المدرسة ومنزلها، كانت تبكي بصوت عال.. ولم تكررها أبدا ... كانت دفاترها نظيفة، مرتبة، وخطها جميل، وكانت هذه الدفاتر مطلبا لجميع الفتيات في صفها، ولكنها في نفس الوقت لم تكن تفقه شيئا، وربما هذا الشيء هو الذي جعلها لا تطيق رؤية وجهها في المرآة حتى لا تنتقد نفسها.. عاد صوته مرة أخرى ينادي عليها، ولكن هذه المرة بصوت أعلى، نهضت من مكانها، وارتدت حجابها في صمت مهيب، وفي استسلام واضح، سوف يقومان بزيارة صديقه، هو يحبه ويحترمه كثيرا، رغم إن زوجها وهي لم يكونان من الذين يحبان الاختلاط بالناس، زوجها هذا لا تعرف كيف شاءت الظروف أن يتزوجها، لقد ولدت في بيت عادات وتقاليد، والدها رجل صارم، قاس، لم يكن يسمح لهم بالخروج من المنزل إلا نادرا لشراء ما يحتاجونه من لوازم ضرورية، وهي لم تكن تحب الخروج، حياتها كلها في غرفتها، كانت تعشق هذه الجدران، ربما لأنها تحميها عن العالم الخارجي كما كانت تتخيل وعن كوارثه العديدة، لم يكن لديها طموح أبدا، حتى فكرة الزواج كانت أكبر من أي حلم رأته،ليلة زفافها كانت عادية، لم تتزين كثيرا، ولم تضع الكثير من الماكياج، وقفت تتأمل نفسها في خجل أمام المرآة، ثم ابتعدت عنها وكأنما اعتبرت إن هذا الأمر محرما عليها، ومن المفروض إلا تفعل ذلك، لقد وافقت عليه، لالا إنهم لم يشاورونها حتى في الأمر، لقد قرر والدها وبعد أسبوع ، زفت في صمت، وكأن الأمر يبدو وكأن في ميتم، ومرت عشرة سنوات على زواجها، لم تسأله حتى إن كان يحبها أم لا، ولكنها لاحظت مع الوقت انه لم يعد يهتم فيها، وكلما جلست بجواره أو جمعهما السرير، تشعر بأنه يتجاهلها، أو نصاها، كانت تتحرك في المنزل، وتؤدي عملها في صمت، ولا يحاول أن يتحدث معها، أو يتكلمان في مستقبلهما، أو أي أمر آخر، بل الصمت هو المسيطر عليهما، ربما الحزن الدفين المرتسم بخطوطه العريضة على وجهها الأسمر الصغير، يرجع سببه الرئيسي إنها لم تنجب له طفل..
تتذكر كيف كان هذا الغثيان ملازما لها طيلة حياتها معه؟ وكان في بداية الأمر متفائلا، ولكن مع الفحص ، يشخص الدكتور مرضها على تعاني من مرض مزمن في المعدة، يسبب لها هذا الغثيان،، ولكنها كل يوم تحاول أن تتفاءل، ربما إذا أنجبت طفلا، سوف تختفي نظرة التجاهل في عين زوجها وعين الآخرون، وسوف يهتمون بها.. انتزعتها هذه المرة صرخة زوجها، حتى غضبه لا يقارن بغضب باقي الرجال، انه يصدر صوتا حادا، فيه برودة ولامبالاة، سوف تصاب حتما بالسأم كعادتها، فزوجه صديقه، امرأة تتحدث كثيرا، وتمارس شخصيتها القوية على زوجها المسكين، كذلك منزلها رغم أناقته واتساعه إلا إنها لا تختار أثاثه إلا بما يناسب أذواق الآخرين.. هنا الفرق بينهما ، وهذا ما يصنع هوة سحيقة بين الطرفين، وكعادتها ركبت سيارة زوجها وجلست بجواره صامته، وهو يتأمل جسدها الضخم، وثوبها الأزرق الواسع، ثم يهز رأسه يمنة ويسرة، إنها تعلم بأنه لم يعجبه جسدها خاصة في الآونة الأخيرة، حينما تركته دون اهتمام منها، ولكنه لن يتحدث ولن يعلق عليها، سوف يكتفي بالتحديق، وينزل من السيارة إلى بيت رفيقه وهي تتبعه، وتجلس على المقعد تتناول الكعك وتشرب الشاي ، وتترك رفيقتها تعلق ، وتتحدث وتلقي النكات، أما هو فسوف يتحدث عن عمله بافتخار شديد، وسوف يناقش مواضيع الأخبار السياسية، وحتى إطارات سيارته القديمة، وأمور أخرى، آه لسانه هذا لا يتحرك ولا يمل في حضرة رفيقه العزيز ، أما عندها فهو والصخر سواء، انه ينسى وجودها معه، ولا يفكر فيها بتاتا,, وزوجة رفيقه هذه من النوعيات اللواتي يتعب المرء معهن حينما يبدأ في فتح أي موضوع من المواضيع،إنهن هكذا مملات، ومتعبات، لا يهتمن سوى بالمظاهر المخادعة، والمجاملات البراقة، والحديث الذي يحتوي على الكثير من الأطالات، الذي لا يمكن الاستفادة منه، لا تزال المرآة عدوها، لقد أظهرت اليوم كافة تفاصيل جسدها، ذلك الجسد الذي لم يحاول زوجها يوما تأمله أو الوغول في أعماقه ... هاهما كعادتهما يتمشيان معا بجوار البحر، نادرا ما كانت أصابعهم تتشابكان معا، كل واحد في حدة، لابد وأنهما يريدان أن يتحدثا، أن يناقشا حياتهما معا، أن يقول أحدهم شيئا عن الآخر، ولكن الصمت ذاته يعتريهم.. وأتوقع أن هذا الصمت سوف يستمر طويلا، بحيث أنهما سوف يتعبا من الشيخوخة ومن الصمت والنظر في المرآة طويلا، وسوف يتعب هو من التحديق في ثوبها الأزرق وجسدها البدين..
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |