|
قصة قصيرة أمــي فاطمة المزروعي / الامارات عندما ندخل أنا وأصدقائي في مواضيع مختلفة، فيحدثوني مثلا الطهارة والنقاء ، أو عن أي سلوك سواء كان جميلا أو قبيحا، تعود إلي ذاكرتي صورة نعلي أمي القديمين ، ليست أمي بذاتها، أو عنقها أو حتى وجهها الجميل ولا ملابسها، أو عطرهذا ذو الرائحة المسكرة، لا أنهما نعليها الذين تعودت أن تضعهم أمامي حتى أتذكر دوما حماقاتي، التي كادت تودي بشرف العائلة.. في الصباح الباكر توقظني تلك الأصوات الآتية من غرفتها، ضحكات عالية، ممزوجة بأصوات نسائية ورائحة غريبة، قديمة، هي مزيج من المسك والعود والعنبر والزعفران، كعادتها تجلس بين صديقاتها، يدخلن في قصص وأحاديث لا تنتهي، أمي في وسطهن، بيديها الكبيرتين فنجان من القهوة، تشربه وهي تتلذذ به، وصديقاتها يصنعن حولها دائرة، كانت الأحاديث تنطلق من بين شفتيها، إنها تتحدث عن أمور كثيرة، عن مجتمع يسود فيه الحب والأمن والطمأنينة، أحيانا أريد أن أطلق من حلقي قهقهة عالية، تبدو كأرسطو أو سقراط، ولكن منظر النعلين القديمين، يثيران الغيظ في، فأستجمع شجاعتي، وألوح بيدي، أخبرها بأنني سوف أذهب إلى الجامعة، أمي إنها امرأة رائعة، كل المناسبات والحفلات وحتى العزاء لا تفوته.. يقولون عنها بأنها امرأة ساحرة، تستطيع بكلامها، وبصوتها العذب الرخيم ومنطقها الغريب أن تجعل المرء يرجع إلى صوابه، كل مشاكل الحي من زواج وطلاق ومشاكل أسرية ومادية ومعنوية، تسعى والدتي لحلها بهدوء، وهذه الأمور كلها تثير في داخلي الكثير من النشوة والسعادة، كل أفراد الحي يتحدثون عن أمي، ويصفونها أنها أروع من أي شيء، وأنا أحبها ولكنني لا أستطيع القيام بأي أمر قد تعتبره شيئا سيئا، أن أخرج مع فتاة وأواعدها كأصدقائي أو أشرب، نعلي أمي، صورتهما لا تفارقني، إنهما هدية من والدي المرحوم، وهما الذكرى الوحيدة التي تركها لنا بعد وفاته.. لوهلة أشعر بأن أمي عالم جميل من الطهارة والنقاء، مرارا حاولت أن أتقرب منها، أن أعرف ما الذي تفكر به، أحيانا تجلس الساعات الطوال أمام النافذة، أتأمل أصابعها الطويلة، هناك أمرا ما يضايقها، يوتر أعصابها، ولكنها تبدو هادئة أمامي، تبدو كقديسة لا إنها ككاهنة، هذا اللقب يناسبها، إنها امرأة رائعة ... وحدث ذات مرة أن جاء رجل غريب إلى الحي ، كان غريب الأطوار، لا يتحدث مع أحد، ويحمل في يديه كتبا كثيرة، ان أهالي الحارة يتحدثون عنه كثيرا، وأخبرت أمي بهذا، وكانت قد علمت من جاراتها بأمره، رأيت توترها، حينما بدأت في الحديث عنه، هذا شعور عادي يا بني، انه رجل غريب، لم أهتم بحديثها، وانصرفت إلى كتبي أقرأ فيها بتململ، فأنا لست من الشباب الذين يتعلقون في الدراسة، أريد النجاح، إنني عكس والدي في كل شيء.. بعد يومين، بينما كنت عائدا إلى المنزل، رأيت في طريقي، شخصا واقفا يتحدث مع آخر، واقتربت، لم تكن الملامح غريبة علي، حتى الملابس السوداء الطويلة، إنني أشتم رائحة النعلين القدمين، إنها أمي، إنها تتحدث مع الشخص الغريب، إنها تبكي، إنني لا أخطأ صوت أمي أو بكاؤها، هل فعل بها شيء؟ لم أحتمل فكرة حدوث أمر ما، فهجمت على الرجل، ورحت ألكمه، وأمي تصرخ ، كفى، والغريب أن الرجل كان لا يدافع عن نفسه، كان صامتا، يتلقى الضربات مني، على وجهه وصدره، كان يتطلع إلي بنظرة صامته، حزينة، وجذبتني أمي من ملابسي، تريد أن تبعدني عن الرجل، دعه يا بني أنه رجل غريب، ولم يفعل شيء، كان يسأل عن مكان ما، ولم أقتنع بالأمر وأنا ابتعد عنه، كنت أشعر أن في نظرته، شيء أعرفه، كان يتأمل ملامحي في مزيج من الحنين والحب والحزن، ولم أحاول من تلك الحادثة أن أتحدث مع أمي ولكنني لاحظت أنها بدأت تتأنق كثيرا، وتهتم بملابسها بشكل ملفت، وتضع الكحل في عينيها، وكانت تكثر من الخروج، متعذرة بزيارة جاراتها، وتعود حزينة، فتظل طيلة الليل تبكي ، أسمع صوتها وهي تبكي، وعندما اقترب منها، أجدها تبكي وهي تحضن النعلين، تحضنهما بكل قوة.. اختفى الرجل من الحارة، قبلها كنت قد رأيته أمام منزلنا، يتأمل المنزل بشرود،ولكنني عندما استيقظت في اليوم التالي، اخبرني رفاقي بأن الغريب قد رحل، وعلمت أمي بذلك، فعزلت نفسها في غرفتها، ولم تخرج، ظلت يومين، لم أرى وجهها، وكلما طرقت عليها الباب، لا ترد علي، سوى إنها تريد أن تبقى لوحدها، ولم أمنعها، بل على العكس، لقد تركت المنزل، ولأول مرة منذ ولادتي، لم أرى نعلي أمي، وربما هذا الشيء الذي شجعني على الشرب في هذين اليومين، وتعرفت على الكثير من الفتيات، وعندما عدت إلى المنزل ، وجدت النعلين أمام الباب، واقشعر بدني وكدت ابكي، ماذا أقول لها؟ إنها جالسة هناك في وسط المجلس، من حولها صديقاتها، وتطلق قهقهاتها المعتادة..
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |