قصة قصيرة

خــــط الأحــــــلام

 

 محاسن الحمصي كاتبة وصحفية/ الأردن

  "وقد يجمع الله الشتيتين بعدما

    يظنان كل الظن أن لا تلاقيا"

- ابن زيدون-

هل كان عليّ أن أتسلق أغصان شجرة العائلة لأبحثُ بين الأوراق والفروع من جدي الأول حتى جدي السابع الذي- سامحه الله- أورثني جيناته المختلفة وليست المتخلفة، فأنا حتما لا أمتُ بوصف يتطابق مع أحدٍ من أفراد أسرتي الحالية ـ لا من جهة الأم، ولا من نسل الأب شكلا ومضمونا، ولولا معرفتي وثقتي بأمي لقلت أني ابنة (حرام) في ليلة عابرة..!؟

عرفت أني طفلة  معجزة حين حسم أبي الأمر في جلسة مغلقة جمع فيها أمي، إخوتي العشرة بما فيهم أنا.. وأفتى بصوت صارم وواضح :

  - أختكم.. لا يركبها عفريت ولا يصاحبها جان، ولا (مرفوع عنها) الحجاب.. وليست قديسة أو ولية من أولياء الله الصالحين..

 - لكنها تعرف كل شيء ومناماتها تتحقق سواء كانت خيرا أو شرا..

- حباها  الله وميزها عنكم  بشعلة  ذكاء إضافية، فراسة،طاقة زائدة، قوة حدس واستشعار عن بعد، قد  تتنبأ بأحداث  تحصل للبعض بقدر ملحوظ يفوق من في مثل سنها، لذا توقفوا عن الشكوى والخوف ودعوها تعيش بسلام وأمان بينكم لا مبرر لعرضها على أطباء ومشعوذين مادامت لا تؤذي أحدا..!

 ورغم كل صفاتي الخارقة، كنت متواضعة، ودودة أبتعد عن المشاحنات بين إخوتي، أحاول تقريب وجهات النظر، إسداء النصح، ومساعدة الجميع دون كلل أو ملل.

أحببت المدرسة وكرهت أي تخصص علمي  من رياضيات وفيزياء وكيمياء، أغوص في كتب الأدب،الشعر، الفلسفة،التاريخ و الجغرافيا..

أجمل الساعات لدي  تلك التي يسود فيها السكون، ويخلد الجميع إلى النوم  لأمشي وأتجول في أنحاء البيت مغمضة العينين في (العتمة) وأحفظ أين هي الأشياء..!

هواية عجيبة كلفتني بقعا زرقاء ترافق جسدي من طوبة باب، طرف سرير، زاوية طاولة.. رضوض ساق، تورم جبهة، كسر أنف عند تلمس الطريق إلى البراد وخزائن المطبخ، مفاتيح الكهرباء، الحمام، القبو، السدة، الدرج والسلالم..

وحين أعود إلى غرفتي أبدأ في ترتيب أشيائي في ذلك الظلام الذي اخترته  برغبة جامحة ..

العمى والصمت تجربة أخوضها والهدف مجهول إلا الشعور والإحساس بأن هناك  حكمة وراء هذه الهواية الغريبة  التي احتار بها أهلي..!

 الكتمان ورؤية الأحداث قبل وقوعها أمر آخر.. فحين ينقبض قلبي ويزوغ بصري  فجأة، أو أرى كابوسا مزعجا وأحلم بشخص ما، فإن يومي ينقلب إلى قلق صامت، أبتعد وأختلي بنفسي.. فما  بداخلي لي وحدي وليس ملك أحد وأبدأ في الصلاة..

    أرى ملاكا يجلس معي وواحدا  يصلي،  وآخر يحرسني واثنان يحملان روحي بعيدا، حتى يعود جميع أفراد العائلة  لتنفــرج أساريري ويهدأ بالي..

 دخول المجتمع والاندماج مع الناس لم يشكل عائقا في حياتي، أتصرف بتلقائية وأصيخ السمع في الوقت المناسب، وغالبا ما كنت ألتزم الصمت، أتنقل بين وجوه الشخصيات التي ألقاها، أراقبها وأكشف المستور في زيف الأقنعة من خلال العبارات والجمل وفي معظم الأحيان  يصدق حدسي في  قراءة ما خلف الظاهر..

 

كبرنا وبدأ رف العصافير يطير، لكن العطل تجمعنا حول المائدة في جو أسري حميم، كل واحد يحمل همومه، أفراحه، مشاريعه، نبحثها معا، نجد الحلول إن اعترضت طريقنا مشاكل، ثم ينهال علي الجميع بالأسئلة :

- هل سأجتاز الامتحان بتفوق ؟

- من جد وجد.

- هل سأجد فتى  أحلامي ؟

- الزواج قسمة ونصيب.

- هل سينجح مشروعي التجاري ؟

- استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان..

- هل.. وهل.. وهل ؟

- قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، والله لطيف بعباده..

 أجد الوسائد والمخدات تتجه نحوي والضحكات تملأ أركان البيت، وأنا أدرك أن هناك من سيقع، يمرض، ومن سيغادر إلى الأبد..! أما أحلامي فقد  تفرعت بين العلم، العمل، السفر، الصداقات، والنشاطات الاجتماعية إلى أن  تشابكت أصابعنا في (دبكة) جماعية ليلة زفاف أختي..!

لم أخفض بصري، ولم أسحب كفي فقد سحبَ خيط روحي ولفـه حول معصمه، عرفت أنه قدري واستسلمت..!

حُزن أبي، انكسارُ أمي، استهجان إخوتي بدا واضحا دون اعتراض على  اختيار يرجح كفة ميزان الفوارق الطبقية علميا، عمليا، اجتماعيا، وتجاهلت كل من طرق بابي (يطلب اليد) ويعرض الود.

وقف  قلبي على زاوية الشارع محتجا، يحمل الراية البيضاء، أعدته وحبسته بين الضلوع، ونزفه أسود.. أسود..!

وبدأت سلسلة الكوابيس الليلية والمنامات التي تنذر بالخطر وتحول الألم إلى سلاح يهدد صفو أيامي، يِؤرجح أعصابي بالخوف ويبلور الإحساس المبهم في انتظار مفاجأة قد تأتي بغتة أو ضربة موجعة لا تترك للشفاء  سبيلا..

ذات الحلم يطاردني، أموال، اختلاس، امرأة، شرطة ورصاص، فأهبّ من نومي أتلمس تمثال ثلج، قريبا من قلبي بعيدا عن عالمي..!

 حوار ضبابي  يدور في الوقت الضائع بيننا:

- أما زلت تحبني..؟

- أي حب يا امرأة في هذا الزمان الغادر؟  أكرس نفسي لقضية تستحق العناء: (الوصول) .

- الوصول إلى حبل المشنقة بأساليب الشر المتعددة.. وثمرة الحب التي زرعتها في أحشائي

 أتتركها تنمو  دون ريِ بماء الحنان؟

- ماهذا التخريف؟ قلبي معك وها أنذا أمامك أستمع لهواجسك، وأتعايش مع مخاوفك وتخيلاتك..؟

- شكرا.. إن احتجتُ إلى قلب سأطلب قلبك لأنه غير مستعمل إلا للضخ..!

 وهاهو الهاجس والكابوس بعد عام يأتي بأحداث متسارعة، وقد ترك أرملة متشحة بالسواد، وأما ثكلى خُطف طفلها لحظة ولادة عسيرة..

 إنه الموت، والموت قاسٍِ لا يفرق بين صغيرولا كبير، يُحرق القلب، ويشل الحياة.

أكفكف الدمع، أجفــف حليبا يتدفق من صدر أم حنون، أهز بيدي سرير طفلي المفقود:

-  لو أبصرت النور ياولدي، كنت  ستبصر اليتم.

حاولت إبقاء حلمي حيا، حافظت على قانون حياتي المقدس.. ففشلت.

لن أغمض عيني في الظلام بعد اليوم، كنت عمياء البصيرة لا البصر، هزمتني امرأة خارقة تملك علم الغيب، ترضخ لأوهام  حديث العقل الباطني، تعيش في دائرة الأفق الضيق.. سأشعل الأضواء، وأمشي على درب المجهول، وبعينين مفتوحتين سأجد  كوة تفضي إلى نور الحقيقة..

يخرج صوتي عن صمته في (العتمة)، وأصرخ..

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com