قصة قصيرة

الغرفة رقم 6


خالص عزمي

ها هو شهر نيسان يسرح على اعتاب ابوابنا الموصدة ينبهنا ان فصل الشتاء القارس قد غادر مناطق الفخاو وحبيبها الازلي الدانيوب ؛ وحل مكانه الربيع المونق المسر ؛ فما كان منا الا ان أخذنا نتهيأ ؛ كباقي الاسر الساكنة في القرى المتعانقة في تلك الربوع ؛لكي نقوم بجولة على الضفاف ؛ نستنشق عبــــــير ( القداح ) العذري ؛ ونسيمات الطيب العفوي .

لكن هذا الامل المتمنى قد تبدد تماما ؛ حينما داهمني ما لم يكن بالحسبان ؛ فقد سقطت مغشيا عليّ في المطبخ وانا أساعد في تهيئة ( ترموس ) الشاي و بعض ( السندويجات ) ؛ وكان لسيارة الاسعاف دورها العاجل في نقلي الى المستشفى .

حينما استيقظت من منامي كانت الساعة الخامسة صباحا ؛ وكان صوت رئيسة الممرضات ؛ رقيقا حنونا ؛ وهو يعلن عن بدء العمل في الطابق السادس من ذات المستشفى التي سبق لي ان دخلتها قبل عام ونصف تقريبا ؛ اذ ما زال النظام الدقيق كما هو في اسلوب توزيع علب الادوية الخاصة بكل مريض ؛ وفي وضع قناني الماءوأبريق شاي الورد البنفسجي والاقداح الناصعة على المناضد المتراصة قرب الشبابيك المطلة على نهير كريمس . وبينما كنت اتناول فطور الصباح ؛ اطلت زوجتي عليّ فوجدتني أستقبلها بضحكة متواصلة ؛ سألتني : ما الذي يضحكك ؛ قلت أتتذكرين ذلك اليوم الربيعي الذي خططنا فيه لسفرة عائلية الى الصدورفي ديالى ؛ لنتمتع بقضاء يوم خلاب بين الاشجار المزهرة ثم لتناول الطعام على تردد خرير المياه ؛ وأن مشروعنا ذاك قد بدده ذلك الانقلاب العسكري الذي وقع صباح الجمعة من عام 1963 ؛ قالت اذكرذلك الحدث طبعا؛قلت اما هذه المرة فقد توليت انا الاجهاز على المشروع ؛ بانقلاب صحي فردي لم يكن منه مفر ؛ ....نظرت اليّ مبتسمة وقالت : انه أمر خارج الارادة ... المهم سلامتك

لم يكن هناك شيء جديد في اسلوب الرعاية والجدية في الخدمة مما شاهدته من قبل في الغرفة رقم 7 ؛ الا ان العناية هنا تختلف بسبب نزلائها . فالا ّسرة الخمسة التي يشغلها زملاء هذه الغرفة ؛مخصصة لكبار السن الذين تجاوزت اعمارهم الثمانين . فاغلبهم لايستطيع الحراك حيث اصبحوا وبمرور الزمن جزءا من الافرشة التي يرقدون عليها ؛ و لايميزهم عن بعضهم البعض غير انات وآهات التوجع ؛ التي كانت اقرب الى الصرخات المكتومة المكبوتة التي لا تخرج عن تكرار التماسات الرحمة والعطف والتوسل . لقد سمعت من رئيس فريق الاطباء الذي يزورونا عادة كل صباح ؛ ان ثلاثة من المرضى يعانون من التهابات حادة وتضخم وتشمع في الكبد ؛ اما الرابع فقد كان يعاني من مرض القولون المتهيج والالتهاب المعوي المزمن ؛ على ان الاخير الغائب عن الوعي تماما ؛ كان في حالة ميئوس منها لاختلاطات مرضية متعددة وعجز في القلب والرئتين .وعلى هذا فقد أبديت أستغرابي من وجودي في هذه الغرفة لكن رد الطبيب المختص جاء و في غاية التهذيب حينما قال ( لم نستطع ان نجد لك سريرا في الغرفة الاخرى فأضطررن لأنزالك هنا ؛ مع علمنا بأنك من المرضى الذين يتحركون بحرية ويسيرون على اقدامهم دون اية مشاكل )

ما يكاد خيط الفجر يطل بنوره من النوافذ الواسعة ؛ حتى تجد الباب قد فتحت على مصراعيها

ودخلت مجموعة من الممرضات تتبعهن المساعدات واغلبهن من طالبات مدرسة التمريض المطبقات في هذه المستشفى التعليمي وهن يدفعن عربات المستلزمات الضرورية ؛ ليبدأن عملهن اليومي الخاص بتنظيف أبدان المرضى دونما اي تقزز ؛ و لينتهين بتبديل ملابسهم باخرى نظيفة ثم تعطيرهم ليكونوا أكثر نظارة وحيوية

حينما انتهت احداهن من واجبها الانساني النبيل ؛ وتقدمت مني لاجراء الفحص الروتيني بعد ان مرت على آلة معلقة في ركن الغرفة لتطهير يديها ؛ ؛ سألتها : لقد شاهدتك وانت تعنين عناية فائقة بمظهر ذلك الرجل فاقد الوعي ؛ بخاصة حينما كنت تحلقين له وجهه ... اذ بدا لي من جمود خلجاته انه لم يشعر بما تقومين تجاهه ابدا ؟ ! نظرت اليّ مليا واجابت والابتسامة لم تفارق ثغرها :

اولا....يكفيني سرورا هو أحساسي بما اقوم به من واجب ؛ وثانيا من ادراك انه لايشعر بكل ذلك ؟ فذات مرة وانا اعطر وجنتيه ؛ لمحت ما يشبه ابتسامة صغيرة على الركن الايسر من ثغره .

كان جل عواد المرضى يأتون عصرا ؛ وكان هؤلاء المرضى يستبشرون كثيرا بقدومهم ؛ فأغلب العواد يحملون معهم اخبارا يود الراقدون سماعها ؛و كنت ألاحظ ذلك واميزه من الضحكات التي كانت تنطلق من افواههم بين الحين والآخر ؛ الا مرة واحدة ....

فقد جاءت سيدة انيقة في مظهرها يبدو انها لم تتجاوز الاربعين من عمرها وتقدمت من سرير ذلك الرجل فاقد الوعي ثم مالت عليه تقبله بحرارة وهي تبكي بحرقة شديدة وتقول بصوت مسموع :

( أعذرني يا ابي ؛ لم اسمع غير اول امس ؛ لقد أخذت اول طائرة وجأتك ياأبي ؛ ارجوك سامحني

؛ أبي .... ابي ... هل تسمعني ؛ ارجوك أعطني اية اشارة افهم منها انك سمعتني وسامحتني .... ارجوك ابي .. ) ؛ ولقد ظلت على هذه الحالة من البكاء والهمس والتوسل ؛ حتى جاءت الممرضة ؛ لتقول لها ( عفوا ؛ انه في الرمق الاخير ؛ ان القس في غرفة الاطباء وسيحضر عما قريب ؛ ليقوم بواجبه الديني) ؛ عندها ابتعدت السيدة عن السريروالتفتت الينا معتذرة !! ؛ عندها دخل القس ؛ فحرك ساترا من القماش الابيض ليفصل ما بين هذا السريروالآخر المجاور له؛ ثم راح يتمتم بعبارات او تراتيل صلاة . ولم تمض مدة طويلة...حتى أشار بيده الى احدى الممرضات الواقفات قرب الباب معلنا ان المسجى قد لفظ انفاسه الاخيرة ؛ في تلك اللحظة دخل المعينون ليسحبوا السرير الى الممر الخارجي ؛ ومن هناك الى الغرفة المخصصة للموتى لحين اتخاذ اجراءات الدفن .

في مثل هذا الجو الحزين المليء بالزفرات والتأوهات مرت بي ساعات من الكئابة والقنوط والتوجع . الا ان هذه الحالة لم تدم طويلا ؛ ذلك أن الفتيات المواظبات على عملهن واللواتي تعودن على مثل هذه النهايات الحتمية ؛ كن قادرات على تبديد مثل هذه الغيوم الداكنة باسرع وقت وذلك بما يسبغن على جو هذه الغرفة بالذات من نشاطهن ومرحهن وتأكيدهن على ضرورة التشبث بالحياة

في صباح جمعة مشرق بسام ؛ دخل رئيس الفريق الطبي وتوجه نحو سريري وهو يقول :( كل شيء على مايرام ... ستغادرالمستشفى يوم الاثنين صباحا ؛ وستمر عليك المرشدة الصحية لتبلغك بالنصائح الطبية اللازمة ؛ كما ستزودك بنسخة من تقريرنا النهائي؛ ارجو لك اوقاتا سعيدة ).

وفي الساعة المحددة من يوم الاثنين دخلت المرشدة الصحية وأخذت تنبهني الى ما يتوجب علىّ تناوله من طعام وشراب ؛ وما يتحتم عليّ القيام به من رياضة تناسب عمري ؛( مع الابتعاد عن أي مجهود فكري يسبب لك الاجهاد ؛ والاكتفا ء بالمطالعة المعتدلة والاستماع الى الموسيقى )

ما كادت تصافحني متمنية لي الشفاء التام ؛ حتى توجهت الى زملائي المرضى مودعا والى مجموعة الاطباء والممرضات والمساعدا ت شاكرا لهن حسن عنايتهم .

خرجت من الغرفة رقم 6 الى الصالة الكبرى فالحديقة المحيطة بالمستشفى ثم الى الشارع العام ؛ حيث موقف الباص رقم 3 المتوجه الى لنخنفيلد وهي أقرب قرية من موقع سكناي . في هذا الباص ؛ الذي تعودت عليه وتعود عليّ ؛ احتدم عندي الصراع الداخلي ما بين الحالة الموحشة التي كنت عليها ضمن مجموعة من المرضى العجزة ؛ وبين ما خفف عني وانا أشاهد فتيات بعمر الزهور يتجولن بين صفوف أسّـرة كبار السن ليقدمن لهم كل رعاية وكأنهن يتجولن في حديقة غناء زاهية بالنرجس والياسمين والورد الجوري ؛ ولا يبالين ابدا بكل ذلك الارهاق النفسي والجسدي الذي يقمن به .

عند الموقف الآخير نزلت من الباص ؛ وتوجهت نحو الاحراش المليئة باشجار الكرز والمشمش والعنب ؛ فقطعتها نحو ذلك الزقاق الذي يقع في وسطه بيتنا المتواضع ؛ وما كدت اقترب من الباب حتى رفعت رأسي عاليا ؛ وتطلعت نحو السماء الزرقاء الصافية فوجدتها اكثر بهاءا ونقاءا ؛ عند ذاك شعرت بأن جوارحي قد أطلت على شرفة زاخرة بالمسرة والأمان ؛ ومحاطة بعبير أريج نعمة الصحة والقناعة والزهد والأطمئنان ......

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com