|
قصة قصيرة سلوى وشجرة الميلاد البغدادية
خالص عزمي
هاهو كانون الاول من عام 1966 يترقب حلول العام الجديد بكثير من معالم المسرة والحيوية. كان من عادتي في مثل هذه الايام من كل عام ان أمر على مكتبة (كورنيت) في الباب الشرقي لاطلع على ما وصل اليها من كتب ومجلات واسطوانات ومعايدات بشتى اللغات الاجنبية. دخلت المكتبة وقبالة رف الكتب الحديثة تسمرت في مكاني فقد وقع نظري على رواية بعنوان (القدر الكبير) للشاعرة سلفيا بلاث زوجة الشاعر الانكليزي الكبير تيد هيوز، كان هذا الكتاب قد نشرلاول بأسمها المستعار فكتوريا لوكاس، وحصلت على خلاصته الموجزة التي نشرت في احدى الصحف الاسبوعية ايام دراستي في لندن ولم استطع شراء نسخة منه في حينه . وعلى رف المجلات االاسبوعية طالعتني مجلة فنية ملونة تحمل صورة لاسطورة الغناء والناشطة الشجاعة ضد التمييز العنصري المطربة مريام ما كيبا، حيث نشرت صورتها لمناسبة فوزها بواحدة من اعظم جوائز الموسيقى العالمية وهي (غرامي). تأبطت الكتاب والمجلة وخرجت من المكتبة وانا في فرح غامر،حيث عدت ادراجي الى الزقاق المحاذي لعمارة مرجان لأجلس في سيارتي الصغيرة وأبدأ بمطالعة ما حملت من متاع، منتظرا قدوم زوجتي وابنتي من جولتهما السريعة على بعض مخازن ملابس الاطفال في تلك المنطقة . حينما عادتا، انطلقنا حيث الساحة التي تعرض فيها اشجار عيد الميلاد . لم تكن هذه هي المرة الاولى التي نبحث عما يروق لنا من تلك الاشجار في معارض الزهور، وانما كانت هي الاولى التي نجد ها وقد افترشت ساحة حديقة الاوبرا طولا وعرضا، اذ كان احد خريجي كلية الزراعة قد جلب اكبر عدد من اشجار العفص والأثل و السرو وما الى ذلك من مثيلاتها؛ واخذ بتشذيبها وتنظيمها بشكل انيق ثم وضع على كل منها بطاقة خاصة تشير الى سعر ها وهي صيغة حديثة لم نكن نألفها في معارض الزهور من قبل . كانت ابنتي الصغيرة سلوى، و التي لم تتجاوز الرابعة من عمرها،سعيدة بما شاهدته في هذا الحشد المخضل الذي يشبه البستان، كانت الشجرة بالنسبة لها هدية لاتقدر بثمن؛ بعد ان شاهدت بالامس شجرة تتلألأ بالاضواء الملونة في بيت جارنا المهندس جبرائيل والد جانيت زميلتها في الروضة . راحت زوجتي تجول بين صفوف الاشجار وهي تدفع بعربة سلوى امامها، ثم غابت عن ناظري وهلة، حتى سمعتها تنادي عليّ وهي تقول : لقد اخترت واحدة جميلة ... كانت شجرة سرو صغيرة ولكنها ممتلئة باغصانها الطرية، ... حملها البائع الى حيث تقف سيارتنا، لقد حاولت جاهدا ان ادخلها من خلال فتحة الصندوق الامامي، او من خلال الشباك الجانبي فلم افلح، كانت سيارة الفوكس واجن اصغر من ان تحمل حتى مثل هذه الشجرة المتواضعة، ازاء ذلك لم يكن امامنا سوى انتظار مرور واسطة نقل يمكن استأجارها لنقل الشجرة، فجأة مر بنا صديقي غانم ومعه زوجته ليقتنيا هما ايضا واحدة، وعرفا بما كنا عليه من مأزق، فتبرعا بايصال الشجرة الى بيتنا بعد ان يتبضعا من اسواق اليرموك القريبة من دارنا في المنصور . حينما سلمته شجرتنا الصغيرة لاحظت علامات الاستغراب على وجه سلوى فطمنتهابأن كل شيء على ما يرام وانها ستصل سالمة . احست سلوى بالجوع، فتوجهنا الى اول مطعم لبيع الاكل الجاهز،اسمه ( ابو يونان )، اخذنا منه الهامبركر اللذيذ الذي كان يجيده ومعه بعض المشروبات الغازية، ثم انتحينا جانبا فتناولنا الوجبة على عجل، ...... ثم عدنا الى البيت . مع ان ابنتي كانت مرهقة حقا الا انها ظلت تراقب باب الكراج وتستفسر بين الحين والآخر عن مصير شجرتها، وحينما طال انتظارها لم تستطع مقاومة سلطان النوم فغفت على كتف امها اولا ثم نقلتها الى سريرها . وصل زميلي غانم حاملا الشجرة الى داخل البيت و معتذرا عن التأخيروهو يقول مازحا ::(لقد كانت زوجتي راغبة بشراء كل ما في المخزن ولكن شحة النقود كانت هي العائق) . وما كاد غانم يغادرنا حتى هرعنا نضع جذر الشجرة المحاط بقاعدة خشبية في آنية خزفية بغدادية قديمة كانت في الاصل لحفظ الطرشي البيتي ايام رمضان، . لم تكن معنا في البيت اية ديكورات زجاجية لنعلقها على الاغصان، فاقترحت تزيينها على طريقة الريف الاوربي الذي عاشت بين ظهرانيه . عندما رحت اضع قليلا من الحصى في داخل الآنية لتثبيتها باحكام، جاءت زوجتي وهي تحمل صندوقا مليئا بفواكه صغيرة كانت محفوظة في الثلاجة مثل( التفاح العراقي واللالنجي والليمون )، بل وجلبت معها حتى تلك الاكياس المليئة بالتمر الأشرسي؛ والمن السما، والتين والمشمش المجففين، والجوز والنستلة وما الى ذلك ...، جلسنا، نغلف المواد الصغير باوراق الهديا اولا ثم نشد كل ذلك الكم بالخيوط الملونة لكي نوزعها على الاغصان بتناظر أنيق .. كان الليل قد انتصف حينما اكملنا مهمتنا، وكان التعب قد أخذ منا مأخذه فاغلقنا باب غرفة الجلوس باحكام، ثم خلدنا الى النوم. كان من عادتنا ان نتباطأ في النهوض ايام الجمع، الا ان سلوى ايقظتنا ذلك الصباح مبكرا : ـ بابا هل جلب عمو الشجرة ؟ ـ نعم جلبها ... ـ ممكن اشوفها ـ بالطبع، ولكن بعد الفطور التهمت فطورها بسرعة غير معتادة، وظلت تنتظرنا لحين أكملنا فطورنا نحن ايضا . ـ بابا .... الباب فتحنا لها الباب ونظرت الى الشجرة المرتدية حلتها الجديدة، فظهر الحبور طافحا على وجهها، لقد تأكدت الآن ان الوعد الذي قطعناه لها بالامس قد تحقق فعلا . نظرت الينا بزهو وهي تخطو نحو الشجرة رويدا رويدا، صعدت على الصندوق الخشبي الفارغ من اية محتويات سوى بقايا الخيوط واوراق الزينة ... وراحت تتملى تلك العروس عن قرب، وما هي الا لحظات ...سحبت احد الاغصان المتدلية لتلتقط واحدة من الحلوى فهوت الشجرة على الارض وتناثر كثير من معلقاتها على الارض، أخذت سلوى تصرخ بحرقة وهي ترتجف والدموع تتناثر من عينيها ...و تتطلع الينا مذعورة، لم نحاول ارباكها أكثر، تقدمنا نحوها ونحن نضحك وحملتها الى أعلى مهدأ من فزعها، وراحت امها تربت برفق على خدها ...ثم أمسكت بيديها وهي تقول : ـ سلوى .....هل تعرفين لماذا سقطت شجرتك على الارض ؟ نظرت اليها .. والدموع ما زالت تتساقط على وجنتيها : وهزت رأسها نفيا ـ لانها ارادت منك أنت بالذات .. ان تساعدينا في تزيينها وهززت رأسي علامة الايجاب وجدت زوجتي ان الوقت مناسب لسماع بعض اغاني عيد الميلاد، فوضعت على( الكرامفون) اسطوانة مشهورة لكبار الفنانين (بنج كروسبي، فرانك سيناترا، نات كنج كول، هنري بلفونتا، دين مارتن، بيجي لي، ..) فراحت اصواتهم تصدح في ارجاء الغرفة، وسارت مع سلوى وهي تقول لها، لما كنت صغيرة بعمرك كنا نسكن في قرية على الدانيوب .. وكان ابي قد اشترى شجرة كبـ ـيرة....... ثم اخذ الصوت يتلاشى كلما ابتعدتا عني الى ركن قصي من الغرفة الواسعة بعد دقائق عادتا نحوي ... كان مزاج سلوى قد تغير تماما حيث اخذت تتقافز، وتضحك ببراءة ..... ثم فجأت ركضت نحوي و احتضنتني وراحت تقبلنيلاكثر من مرة .... جلسنا ثلاثتنا على السجادة وأخذت سلوى مهمة جمع ما كان قد تساقط من الشجرة وتعيده الى الصندوق، ثم بدأنا بتزيين اغصانها مجددا ..... عندما تكاملت مهمتنا احضرت كاميرا التصويرالاوتوماتيكية ووضعتها على قاعدتها ثم جهتها نحونا ونحن نقف امام شجرة الميلاد البغدادية، فالتقطت لنا صورة تذكارية واليوم حيث يلتأم شملنا مجددا .. نعاود النظر الى تلك الصورة؛ فتهب علينا نسمات ذكريات الامس الساحرة التي تحمل معاني المحبة والعطف وعطرالتسامح والأمان .
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |