قصة قصيرة

في صباح بارد

 

   رحيم الحلي

 رأيتهن يجلسن على الطريق وقد اوقدن بعض الإعشاب والاخشاب الصغيرة يطلبن دفئاً لاصابعهن المتيبسة ليس فقط بفعل البرد ولكن  أيضا من العمل اليومي المضني فهن عاملات يقبضن اجورهن بعدد ساعات العمل فمنهن من تركت ورائها مولودها الصغير ومنهن العجوز التي لملمت جسدها النحيل، وقد آذاهن البرد الشديد فالوقت الآن هو ساعات الصباح المبكرة أما أنا فاركب دراجتي واشعر بارتجاف جسدي المنهك وبتجمد اصابعي التي تتمسك بالمقود لاقطع اميالاً عديدة باتجاه عملي، كنت كلما أمر بهذا المسطر الصغير وارى تلك النسوة أتذكر مباشرةً الإمام علي وهو يحلم بقبر الفقر، أتذكر ماركس وجيفارا وفهد وسلام عادل وفاخر الخليلي هؤلاء القديسون الذين دافعوا عن الإنسان دون النظر إلى جنسه أو لونه أو قوميته أو معتقده، أعود إلى تلك النسوة الجالسات بشكل نصف حلقي حول النار المشتعلة ببرود وببطء حيث جمعن من حافة الطريق بعض الإعشاب وقطع الخشب التي بللها الندى الصباحي والمطر المتبقي من المساءات الممطرة، يرقبن السيارات المارة على الطريق الريفي، حيث نبتت على حافاته بعض الشجيرات وقد غطى الندى الأبيض المتجمد اغصانها العارية فالصباح تلون بلون ابيض شاحب، كان الجو حزيناً هذا ما بدا لي في تلك اللحظة فاليوم هو الأول من عام جديد لن يختلف كثيراً على البؤساء، فالاغنياء قضوا ليلتهم بشكل مختلف في قصور منيفة واضواء مبهرة وموسيقى صاخبة تزداد اموالهم بسرعة في كل يوم جديد والفقراء يزداد بؤسهم وحرمانهم بسرعة أشد، كيف قضت تلك النسوة الفقيرات ليلتهن الأخيرة من العام الماضي فقد نمن ليلتهن تحت خيمات صغيرة صنعت من اكياس بالية وعلى ضوء الفوانيس المسودة فهن يجهلن الأيام ودورتها كدورة اسطوانة حزينة في مقهى مهجور، ربما انشغلن برضاعة الوليد الذي اعتصره المغص أو الجوع، أما الرجل في عالمنا الشرقي يتحول إلى فارس في بيته فهو يستفرغ اوجاعه وبؤسه في عالم غابي يظلمه هو الأخر، عالم رأس المال القرشي الذي تستوحش ماكنته في الشرق ففي الغرب استطاع الإنسان بنضاله الطويل أن يقلم اظافر الدب الراسمالي ويجعلها اقل ايلاماً، أما في الشرق فلا رقيب على رأس المال وقد عقد شراكته مع رجال الدين والساسة، أما المرأة فقد كانت مركز كل دوائر الظلم المتقاطعة .

أعود لقصتهن الحزينة فقد تحلقن في احد الصباحات حول بائع الصمون المحلى ليشترين بعض الصمونات، وليفطرن في هذه الصباحات المتجمدة فالبطن الخاوية تشعر بضراوة البرد أكثر، بدا هو الاخر حزيناً وبائساً ونحيلاً وهو يدفع عربته الصغيرة، كن يتجادلن معه لتخفيض سعر الواحدة فيما راح يغلض الايمان بعدم قدرته، كل واحد من هؤلاء البائسين يحاول أن يلقي باوجاعه وضعفه على الأخر، فعندما يشتد الألم يصبح الفرد أكثر فردية وعندما يزداد البرد يلتم الجسد البارد حول نفسه ويلتف مثل قوقعة صغيرة، تذكرت الحروب الصدامية وكيف مات بالتدريج الإحساس بالأخر وأصبح كل فرد يغوص في ذاته، هذه إحدى اكبر أهداف الحروب وهي قتل الإنسان الذي يعيش في دواخلنا .

في لحظات توقفت إحدى السيارات الصغيرة تفرقن وتركن الصمونات على الصينية، فوق الكيس الشفاف المتماوج ذهبن للحصول على فرصة للعمل في هذا اليوم، راح الرجل الجالس خلف المقود يتأملهن واحدة واحدة فهو يرغب باكثرهن فتيةً ومن في وجها بقية من جمال الحياة الذابل في وجوهن المتعبة، فالرجل يريد أن يشتري ليس فقط سواعدهن فهو يطمح لاكثر من ذلك فهي صفقة على كل حال والفوز للاقوى والأفضل، اختار أربعة منهن وانطلقت سيارته بسرعة مثل ذئب انطلق بفريسته .

أما الشاب بائع الصمون فقد راح يعيد وضع صموناته تحت الكيس الشفاف الذى يغطي الصمون والذي فقد بعض شفافيته وأصبح مائجاً حيث تجمعت فوقة حبات السكر وبقع الزيت المستعمل في صناعة الصمون  طلبت منه إحدى العجائز التي لم تحصل على فرصة عمل هذا اليوم أن يشحذها إحدى الصمونات، فقبل الشاب وراح يعد الصمونات وهو ينظر إلى القصب الذي امتد على طول الطريق حيث اصفرت اطرافه بينما بقي الجزء القريب من الأرض اخضر شاحب تشوبه بعض الصفرة، دفع عربته إلى الإمام وهو يأمل أن يعود إلى بيته ببعض الطعام وبعض الدفء .

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com