قصة قصيرة

الصراع الحضارات

 

اخضر بن هدوقه

 ذات يوم كانت تحجز امتعتها القدسية،عيناها تطوفان منذ امد بعيد في ادغال الشعر، تتنقلان في عربة فروسية، تغازل عنتره، تشهر فنها وجمالها الاخاذ امام خصمها العنيد، تقاتله بشجاعة، والمشهد ثابت لم يتغير يرسم على اطلسها اوسمة الكبرياء، كانت مخيلاتها تبحر في سراديب اليونانيين، العواصف تشتد وهي ماضية في القبض عن النوارس الجميلة،فجاة ارتسمت على وجنتيها جملة من الاطياف المتناقضة، تتزاحم فيها تساؤلات مستقبلية، تعبث بشعرها المصفف، تلعن حظها الاتي

 الاعاصير الهمجية لم تتوقف عن سخريتها، شعورها بعدم تبليغ الامانه كان يعكر جوها، يفجر في قلبها بركانا من الدموع المحرقة، تعبس،تحزن، تتخبط كطير مبتور الجناحين يبحث عن منفذ، لكن كل الجدران المحيطة بها اوصدت اذانها

 لم تبق الا الزوابع في حالة هرج وصخب، تريد ان تقتل تقاسيم الورود الجميلة، حتى الزمن الذي مضى في

 سفره دون ان يترك تذكرة كان مهرجا لم يترك لها فرصة للراحة، فما اقساك ايتها القيود الشريرة.!..ومادهاك ايتها الصليبية العريانة !حين استدمرت كل ارقام الحياة..

 ذات يوم كانت صغيرة بعد ان شاخت وماتت وولدت من جديد في البيت العتيق، كان هذا البيت يشع سعادة رغم العراء، رغم الحرمان، رغم العواصف التي كانت تقاسمها الحزن والرعب، رغم صمت الجدران الخارجية كانت تشعر بالدفء والحنان والحرية الطفلة الصغرى مدللة، يعشقها كل الاخوة الى العبودية، ابوها لطيف لكنه لايحب التهريج، صريح، عنيف، شجاع

 بعد عودته من الشغل كان يتمدد على حصير، يتناول فنجان قهوته، يشعل سيقارته التي صنعها من حشيش مزرعته، يترشف جرعات من القهوة ليقتل اتعابه وهمومه . كانت الطفلة تسند راسها بحشمة الى صدره، وانامل يد الاب في حركة مستمرة تداعب خدي الطفلة الصغيرة، ترقص، تمرح، والصغيرة كل يوم تكبر، والامل يكبر والحب ينمو ويتعاظم في صدره الرحب، ثم تسترجع البدوية الصغيرة الكبيرة شريط حياتها كيف نشات بين اخاديد الكتاب وتجاعيد الوديان ودموع الروابي الجزائرية، تذكرت كيف بدات تحبو بعد ان ولدت من جديد في خضم الاوحال وهي ترتدي برنوسا مطرزا بالهلال الاحمر، تريد ان تمسك بالشمعة المتبقية

 الامطارتهطل بغزارة، العواصف تلد اسهما من البرد القارس، الدموع تغمر كل الاماكن . تاهب الوالد دون كلل، وقف في الساحة المنحورة منهك الجسم، مد يده الى جيبه اخرج المنديل، مسح دموع صغيرته ذات العينين السوداوين، النور الذهبي يقبلها، يعانقها والحب يقرا تراكيب متناثرة اجتهدت البدوية على استجماع شملها فتمسك بالشمعة المتبقية . الاب منحني الظهر يتعبها بخطواته المتثاقلة، يحاول الا تفر منه عمامته البالية، البدوية وردة تفتحت في ضوء القمر، حسدتها جارتها على هذا الجمال القدسي الاخاذ، والدها المجاهد كان قد فارق الحياة مع هول العاصفة. تشجعت، تقدمت نحو حلبة الصراع من اجل البقاء، من اجل الحياة

فوق التلال التي ولدت فيها وبين المروج الساحرة التقت بحبيب اخر لايقل حبا وحنانا عن الاب، احبك..اعبدك..كم انت رائعة بدويتي..وفجاة ضمها الى صدره وراح يقبلها واشعة الشمس تقاسمهما فرحة اللقاءاثرها ااخذ يرددان: مااجمل الحب.!..مااجمل الحب.! انطلق المركب سريعا، مركب تدفعه مجاديف خشبية نحو شاطئ مجهول ليس له نهاية تغمره نقاط استفهام. المركب لايسمح الا للبدوية وحبيبها والشمعة المتبقية، لن يسع اكثر. كانت البدوية تبحث عن هذا الحب المشترك بعد رحيل الاب .تزوجت من هذا الفتى وانجبت منه صبيا وسيم الطلعة سمته العربي

 لقد اختفى الوالد شهيدا وهو يؤدي واجبه المقدس، سقط يابسا من شدة الصقيع وتكالب العاصفة التي اكتسحت كل شئ حتى الحيوان، مات الامل الاكبر الذي كان يضمد جروح البدوية، مات الحنان الاول، مات الحنان الابوي

انتقلت البدوية من كوخها الذي اصبح متحفا للذكريات والاغنيات لم تبق منه الا اطلال تعزف ملحمة هؤلاء الخالدين، العاصفة كانت هوجاء فعلا، كل الكائنات رحلت عن موطنها الذي بقي يستجمع صفير الرياح الجنوبية المجنونة، فرت المسكينة مع عشيقها الى حيث الامان والسكينة، نزلت ضيفة جديدة بهذا الحي حيث اهله لايقلون عطفا وحنانا عن حنان الاب...اهلا بك...مرحبا...نحن اولادك ..نحن خدامك..نحن حماتك وتتعاظم صورة البدوية في اعينهم..انك تشبهين الاب، مدهش، ياله من جمال اخاذ...!. اه..ترتدين اسمالا بالية..ياله من عار.!.لقد قسمنا منذ امد بعيد ان نفديك مهما كانت نتيجة الصراع، انظري هاهي ملايين الاجنحة الذهبية تجوب الفضاء الرحب، تحلق في سماء الحرية، بلابل ذات الوان زاهية تقيم لك عرسا تعانق اشعة الفجر الاتي، والراقصون والراقصات في جنة الضاد يصفقون لك ..انك شجاعة..واصلي المعركة لم نمت، نحن احياء، نحن جزء من جسدك ستنهزم جبابر الحانات، ستنتحر الضرة التي تركتها جحافل الصليبية. انقشعت الحيرة عن نظراتها، دبت حركات الحياة من جديد في جسدها، شعرت بالسكينة والراحة وهي تسمع صدى الانتفاضة..نحن جنودك..نحن حماتك لاجلك ولدنا..لن ندع شبح الغين يقتلك ..هيا تقدمي، العاصفة المجنونة مازالت تتربص بك

بدويتي: كم انت جميلة،!..كم انت رائعة..!.هيا ارقصي، اقتلي همومك..قطعي هذه الاغلال المتبقية..هيا دونك المنشار..مزقي هذه الملابس الرثة لا اريد ان اراك حزينة، ارتدي هذا الفستان الابيض العصري انه يناسب اناقتك،ـ انه جميل لقد صنع في بلدك ستحقد عليك ضرتك وانت ترتدينه كالملاك...انها تتربص بك شرا،لقد دنست كرامتك..اهانتك في الحفلات..اخف مصحفك جيدا..احترسي ان يضيع منك

عشقت البدوية كل سكان الحي، سلمت قلبها لهم وراحت ترقص منطلقة وراء رقصات بلابل الحقول واختفت في داخل اهازيج الحصادين، ثمة عرق لايجف، الطريق مشلول تتخلله احراش وادغال وقطعه امر صعب . تمر السفن في عيني البدوية، تواصل زحفها بعد ان اخذت اشارة التشجيع وصورة الضرة مرتسمة في مخيلاتها تتبعها، لاتريد ان تتوقف ثم مضت تردد: انا ثائرة...اناثائرة ضدك ايتها العواصف الحمقاء .. ايتها الضرة المنحوسة، لقد عرفت معنى التشرد، لقد عرفت معنى التيتم، لن اسقط

لقد سافرت منذ سنوات، ودعت امي تبكي خلف تلك التلال، واخوتي الذين احببتهم حبا جما اظن انهم يفتشون عني، بدون شك سيذكرونني كم كنت لطيفة معهم، لم اهاجرهم ولكن مشيئة القدر اجبرتني على هذا، نعم تركت اطلال منزلي لارسم الخريطة الازلية، لابني الاصوار المتبقية في ذاكرة الاجيال القادمة

 اذن انا وحدي في هذه الغرفة المهجورة بعد ان اجبرتني المعركة على ذلك. الظلام يخنق اجواء الكون، حاول المغتصبون ان يخفوا نور الله بايديهم، وامام غرفتي اقامت الذئاب القطبية القادمة من وراء البحركرنفالا شيطانيا، اه..ماذا اسمع؟...اجراس الافاعي الرقطاء تحاصر الجدران، الباب الحديدي موصد، لا، انه مفتوح ..سافر، لا لن افر ماذا يقول عني التاريخ؟..انا لست جبانة الى هذا الحد، مستحيل .. كلا لن افر

 هواجس الاشباح صفعت المسكينة، ادركت بان المعركة ليست سهلة لهذا فلن تستطيع التراجع مادام ان الجيران والاخوان اجبروها على اكمال المغامرة. المساجد ماضية في تشجيعها، والمدارس في اضراب عن الغناء والرقص

 عبرت المسكينة موسوعة الحياة الا انها كانت تتنشق مساحق الضرة في كل مكان، هناك بصمات قذرة مرتسمة وملتصقة بالواح الدكاكين، وحتى في خطوات بعض المارة الذين اندسوا في غمرة النبيذ المستورد، الاحلام المزعجة تتكدس في ذاكرة البدوية من جديد، القمر نوره يتصارع مع حماقة الظلام، وماركة الغين مستمرة في تحديها لضوء الرحمة، الذئاب القطبية المرتدية لسروايل الجينز المتحدية للبدوية المكشرة عن انيابها لاتريد ان تتوقف عن الرقص، الضرة جالسة متبخترة في اريكتها الاسطورية تسير الكرنفال، والعبيد الوهميون يوزعون النبيذ على العملاء الذين نجوا من طوفان الاب رحمه الله، البدوية ثابتة تجابه الموقف المرعب بشجاعة في الخلاء الملتهب، معظم العصافير فقدت جوازات سفرها في هذه الرحلة العاصفة، ابناء الحي العتيق سلبت منهم بطاقات هويتهم، الماشية العصرية لم تعد تنجب فحولا، الاسود الاسطورية اصبحت اليفة فقدت ملكيتها، الذكور تخنثت، الاناث استرجلت، العاصفة الكرنفالية دمرت كل شئ، والبدوية ماضية في قمع اعاصير العاصفة المتبقية وفي هذا الجو المشحون بالرعب فجاة زار العربي من وراء حجاب نور القمر: انا قادم..انا خلفك لاتخافي..لست انت وحدك في صدر المعركة، اعرف انك مرهقة لن تعرف الضرة الراحة في حينا،

 ستسقط الاقنعة، هيا دونك مصحفك المقدس وامتطيه لنواصل المعركة من اجل البقاء

نشرت في جريدة النصر بتاريخ:24-1-1983

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com