قصة قصيرة

"الطيف"

سحر حمزة

في قصتي رسالة لكل أمرأة وكل رجل وكل من فقد الدفء الإنساني

منذ تفتح براعم اللوز، كانت سوسن تبحث عن طيف يلاحقها في نومها، يخطفها من سجن بين الصخور، مختبيء في كهف تملؤه الحجارة، طيف قادم يحملها بين ذراعيه، يذهب بها إلى حضن بيتها التائه في خرائب الخزعبلات، والفرقة، تنام سنة بعد سنة، ثم تصحو لتجد نفسها في ذلك الكهف المقفر، يأتي من جديد يحملها، ويعود بها إلى حضن غير دافيء بمقربة من أمها، هي ترعاها بعيونها وقلبها، لكنها لا تشعر حقيقة بعطف الأم ولا بحنان الأب،ولا دفء الأسرة، فأسرتها مشردة في وجدانها، رغم إزدحام الأهل والجيران، تغفو سوسن من جديد، وتنام هنيهة، ثم تصحو لتجد نفسها مرة أخرى في الكهف المقفر عطشى، جائعة، طعامها بضع لقيمات من الخبز اليابس، يصدق بها السجان عليها كي لا تموت، في الأصل هو لا يريدها أن تموت يجب أن تعيش مثل الآخرين صامتة، راضية، طائعة، غير مشتكية أو متذمرة، تنتظر الطيف طويلاً ’ لكنه يختفي بضع سنوات، تحاول أن تحلم به، لكنه حتى في حلمها، غاب عنها .

كبرت سوسن، رسمت لوحة متلعثمة، كتبت قصة، غير واضحة، لا هدف ولا فكره فهي تبحث في القصائد عن طيفها، تتمرد أحياناً، تمطر دموعاً، تصرخ، لكنها ضائعة، أمها تراها عروساً، يجب أن تتزوج مثلها كغيرها من بنات العائلة، شعرها الطويل قص من جدائله، غيرة أختها منها دفعت بها لتسلم رأسها لحلاقة ماكرة، عرفت مبتغى الأخت، فأذعنت لها، وما عادت جدائلها تمتد متمرد على ضهرها، كروافد نهر يريد أن يتدفق بما لديه من عذوبة وألحان،وشذى يستنشقه الآخرين ليحسوا بوجودها، تبقى عالقة في الكهف، تتمرد، تتلون، تتحايل، كي تحقق جزءً من ذاتها، لكن الإحباط يحيط بها، تحصيلها كان بالكاد تجاوزاً وتحدياً بحد ذاتها، حرص أبيها على تسويقها كعروس، كما في سوق الحريم أيام الجهل، هل من مزاود، من يدفع اكثر، ولفقدانه الإبتسام، والصمت الذي يكتسح ملامحها، بقيت سوسن بمنأى عن عيون بعض الطامعين بعروس ودمية يلعبون بها كما يشاؤون ومتى يشاؤون، وهي ضائعة تبحث عن طيفها الذي ما عاد يأتي في نومها، ليحملها إلى عالم أحلامها الطموح، تعشق اللعب مثل الفراشات، تتسلق أشجار البيلسان، تصادق القطط، تخربش بعض الكتابات وتخفيها كي لا يرى أخوتها ماذا يختلجها من أفكار، كبرت سوسن نضجت، ضقت ساعة الصفر لدى أسرتها، فقد طفح الكيل بالنسبة لهم، في صمتها قوة، وفي قصصها الف حكاية، وفي عيونها أكثر من مليون كلمة، عرف والدها أن طموحها بلا حدود وآلامها تتجاوز طبقات الأرض السبعة، فزاد في تسويقها، وتعريف الآخرين بها من الأصدقاء ومن في الجوار، إلى أن جاء فارس ليس من فوارس أحلامها ولا يشبه طيفها، صرخت تمردت، لكن لم يستجب لها أحد، فقد حان الرحيل إلى وكر آخر أكثر ظلمة من كهفها السابق، ضقت الطبول، وخرج الموكب الجنائزي،الذي من المفترض أن يكون يوماً تاريخياً في حياتها، نقطة تحول من الرمادية إلى السواد الحالك، وبدأت بها المسيرة إلى مجتمع يختلف عن سابقه، كان مفعماُ بالحقول الجافة، عشائر متلونة هنا وهناك تريد أن تعرف هذه السوسنة الجديدة التي ستقطع أواصرها نهائياً لتغيب في غياهب جب ليس مالوفاً لها، وعيونها ترقب الطيف عله يأتي ليحملها من كهفها الجديد الأكثر ظلمة، لكن هيهات، وصل الموكب، طقوس ورقص غريب، القصيدة تلعثمت، والإبتسام تلوح بالخبث، والأنظار أصبحت كحدقة تتسع تحاول إلتهامها، لكن سوسن صامتة، تسمع، ترى، لا تحس بشيء عيونها تبحث عن الطيف، وحين دنا منها الفارس كشاة مفقودة الإرادة صمتت وتحول كل ما فيها إلى شلال دماء، لم يجف رغم محاولات أمها، وأبيها، وكل من حولها أن يوقفوه من الجريان، وفارس الغريب، قص جدائلها مرة أخرى، وجعلها تنام مطولاً عن أحلامها وطموحها إلى أن وجدت نفسها تغرق وتغرق وتنسى حتى أسمها، وطيفها أيضاً لم يأتي، كانت تلهث كي تحقق شيئاً ما، تحاول الطيران، فتقص اجنحتها، تحاول الرقص كالفراش، فتحبس في زجاجات عدة، فسوسن أصبحت أماً يافعة ناضجة و لها طقوس يجب إتباعها، وكبرت ومرت عليها جدائل كثيرة تنافسها، وفصول عمرها بدأت تتعاقب، وخريفها طويل ’ صيفها مثل لمحة بصر، ربيعها متلون بين المطر والشجر، وبراعم حياتها تنامت لتجد أنها في معركة الوجود أواللا وجود،تلعثمت سوسن، وأخفقت في محاولات التمرد جميعها، عاشت وحيدة رغم إزدحام عشها بالقش غير الآمن، والعصافير التائهة، والبيض الذي كان يتكسر لأن الصقر يأبى إلا أن يكون وجبته الصباحية،وأستمرت وحدتها طويلاً، ترسل للقمر في كل يوم قصيدة شعر، ليحملها إلى طيفها، لكنها جميعاً لم تصل، لم يأتي، وغاب عنها، عاشت مطولاً على الأمل، لكن لم يأتي واستمرت تحاول أن تنجح مرة في تحقيق حلم لها راودها طويلاً، حققت منه بعضاً منه، لكنها لم تنجح مطولاً، فأختارت الرحيل لوحدها، دون أن تنظر خلفها، فقدت كل شيء في ماضيها، فقدت أمها التي حاولت أن تشعر بها، لكنها أدركت أن الطيف أقوى من ذلك، أنتقلت إلى أعشاش غريبة جديدة لكن الطيف غائب أيضاً، إنشغلت كثيراً بتلك الأوهام التي روادتها معتقدة أنها أحلام وطموح، فأدركت أن طيفها يبحث عنها أيضاً، فهو في عالم غير عالمها، لكنه معها في عالم كله إستقرار دفء إنساني لم تجده في طفولتها منذ ولادتها، ربما لإنها أنثى، أو أنها في نظر من رآها تختلف في معالمها عمن حولها، وسوسن أدركت مؤخراً ذلك، وتأكدت أن البذور التي تنمو في حقول غير آمنة لابد ان يجرفها التيار، ومع هذا بقيت سوسن تبحث عن طيفها في عالم جديد، إلا أن ظهر هو نفسه لكن ليس بحلم، وما عاد طيف، فهو حقيقة أمامها بشكل يختلف نوعاً ما عما كانت تراه في أحلامها، شكل يجمع كل أسباب الحياة التي تجعل للإنسانية صورة تختلف عن أي شيء آخر، شيء يحقق الذات ويرضي الطموح، وبجعل الفرد يدرك معاني الأسرة والأهل والعشيرة والدفء الإنساني .
 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com