|
قصة قصيرة حلمٌ خلفَ ستارٍ أبيض
ايمن عويضة
بالرغم من زجاجها المغبر، كان بوسع النافذة أن تعكس ملامح الأسى في عينيها، لم يثنها زفير السيدة العجوز بجانبها، ولا اهتزازات كرسيها الداكن المهترىء، عن تأملها المتحفز للمدى، كانت يدها اليسرى تشرع بمسح خيطٍ من العرق انساب على جبينها، عندما لمحت عقارب ساعتها القديمة مجدداً، لقد تبقى أقل من ساعة، جرى دم ساخط في شرايينها، فمقتت الإطارات البليدة تحتها . نثر وهج الشمس بياضه أرجاء المكان، تزامنت إزاءه إغماضةً في جفنيها.. أمها تستيقظ الآن، لا يدانِ جميلة اليوم، تسند يسراها ظهرها، وتمتد يمناها حاملة الدواء لشفتيها، ستجلس عصراً بدونها، تبحث عن جوابٍ، لسؤال تلك التي ستأتي طالبة يد ابنتها لأخيها الهرِم، "أين العروس..؟!"، وسينتظر أبوها كوب الشاي بلا طائل، ويصرخ عالياً.. ويثور، هو الذي صفعها دون رحمة قبل أيام، لتأخرها دقيقتين في احضار الشاي، فكم صفعة تنتظرها حتى تعود..! وآخر سينتظرها.. بجشع الجزار الذي كانه، متشوقاً لسداد ثمن الرحلة الذي استدانته منه، لعابه يسيل الآن، بفعل إيمائة من جسدها، -أحقا سال لعابه..!!، تسأل- . بدد صوت الكوابح ووقع الخطى غفوتها، ولكزها أحدهم بنظرة متعالية: -لقد وصلنا.. سيدتي، -لقد وصلنا- كانت تلك الجملة كفيلة بأن توقظ الاندفاع في كيانها، بسرعة خاطفة غادرت كرسيها، لتغرق في دوامة الزحام خارجاً، سألت نفسها بارتباك عن الاتجاه: شرقاً.. لا لا.. غرباً.. لا شمالاً.. يا إلهي..!! حتى نظرات المارة لم تعرها أي اكتراث، لم يكن ذلك مهماً، فقد خبرت تلك العيون مراراً، توقفت قليلاً، وحاولت أن تستجمع قواها، وتعتصر ذاكرتها: ماذا قال المذياع رديء التردد ذات يوم..؟ مولد جديد.. تكريم.. وسط العاصمة.. فندق..، وانهال سيل الذاكرة على رأسها جملة واحدة، وأخذت تجري بلا هوادة.. كانت بوابة القاعة تعج بالضيوف خارجاً، جلبة لافتة، آلآت تصوير.. وإعلانات مضيئة.. لكن، كيف لها ببطاقة دعوة كالآخرين، دخل الجميع، وشرع الحاجب باغلاق البوابة عندما هرعت إليه : -أرجوك سيدي.. أرجوك.. دعني أدخل.. لقد سرقت حقيبتي، وجهدت باللحاق باللص دون جدوى، وأنا كما ترى، لا أملك البطاقة الآن ولا أي شيء حتى، أمينة أعز صديقاتي، وستغضب إن لم أشاطرها يومأ كهذا.. أرجوك.. استعطفت دموعها المنسابة على خديها قلبه.. -حسناً حسناً.. سأدعك تدخلين، لكن.. -سبر بنظرة ساخرة قامتها من أخمص قدميها صعوداً حتى رأسها- أنصحك بالجلوس على مقعد في ركن خافت، وتفجر ضاحكاً.. سرى في دمها حقد جديد، آثرت أن تخفيه، فدخولها للقاعة فقط ما كان يعنيها آنذاك. هدأت الموسيقى الكلاسيكية من روعها، وهيأها فراغ معظم المقاعد الحمراء الأنيقة حولها لترتيب أفكارها، كان الحفل لم يبدأ بعد، فالمنصة البعيدة لا تزال شاغرة، فأخذت تتلصص على سيدتان كانتا تجلسان على مقربة أمامها.. -اوه.. اه.. حسناً، سمعت تقريراً مطولاً بالأمس عن ذلك، لكن أخشى أن يكون والدها قد أشهر الدولارات في وجه ناقدنا الكبير.. -ما هذا الهراء..! لمَ الأغنياء في نظركم دائماً مرتشين..؟ لو رأيتِ اللوحة مثلي، لأيقنتِ أن عمل أمينه فوق كل الشبهات.. ساد الهدوء القاعة، بعد أن أُشعلت باقي الأضواء، وتقدم عريف الحفل من المنصة: -مساء الخير، شكرا لحضوركم الكريم، فقد أتيتم لتشاركونا تظاهرة فارقة، في مسيرة الفن التشكيلي، نكرم فيها فنانة عتيدة، ستثري أعمالها بلا ريب حركة الفن في وطننا، أتمنى ان تسعدوا معنا..، دوى تصفيق حاد، قبل أن يتقدم الناقد الكبير بصحبة أمينة باتجاه المسرح، احتلت أمينة مقعدها فيما اعتلى الرجل الوقور المنصة: -مساء الخير، لم يكن حدثاً عادياً ما دفعني لأصر على إقامة حفل التكريم اليوم، فعمل بمثل هذا العمق، يستحق منا كنقاد اعترافاً خاصاً به، إيماناً منا بأهمية تحفيز مواهبنا الشابة على الدوام، لن أطيل عليكم، فأمينة أمامي، ولوحتها بجواري، سأخلع عنها الستار الأبيض بعد لحظات لأعلن مولد فنانتنا الشابة . أُطفئت أضواء القاعة جميعاً، وسُلط ضوء أحمر براق، باتجاه الركن الذي تربض فيه اللوحة برصانه، يتقدم الناقد إليها، ويعلو تدريجياً مع تقدم كل خطوة من خطواته، صوت موسيقى مهيبة، وتتصاعد، ويتصاعد خفقان قلبها، وتتدفق الدموع في مجرى مأقيها، بانتظار الثانية الأخيرة.. باصبعين من يده اليمنى، يسحب الستار ببطىء، ويسطع الأحمر أكثر، لتشرق اللوحة أمامها، فأمامهم، في تعرٍ مشروعٍ.. أخاذ، ويلهب التصفيق ثنايا القاعة، وتدوي الموسيقى بصخب وانتشاء.. بقيت وحدها جالسةً أثناء التصفيق، حتى خفتت حدته، وعاود الحضور الجلوس، وصمتت القاعة لتستمع لكلمات أمينة، عندما اعتلت المنصة: -كانت تجربة مميزة بالنسبة لي، وأعدكم أن تكون البداية فقط، أشكركم من كل قلبي، ابتهجت الجموع أكثر، واعتلى آنذاك عريف الحفل المنصة، وسأل فيما إذا كان أحدا من الحضور، يرغب في مناقشة الفنانة، أو طرح بعض الأسئلة، حل صمت في القاعة، ولم يبدِ أحد رغبة تذكر، ورأس العريف ما يزال يروح ويجيء يمنة ويسرى، بحثاً عن أي مشارك . لم تشعر بثقل مسبقاً، كالذي أصاب يدها وقتها، فأخذت تتحمل العبىء أكثر.. فأكثر، حتى استطاعت رفعها أخيراً.. -نعم.. السيدة هناك في المؤخرة، تفضلي هنا باتجاه المايكروفون.. نعم هنا مقابل اللوحة، تفضلي..، انتصبت قامتها الممتلئة، كجذع شجرة قزم عجوز، وحيداً في صحراء، خطت خطوتها الأولى مع شبه إغماءة، متجاهلةَ الهمسات الفضولية حولها، بدى لها الممر المؤدي للمايكروفون، طريقاً مظلماً لا متناهي الطول، صعب المراس، مضاء فقط ببريق صارخ اتقد في عينيها، تعبده بالمشط، ومساحيق التجميل، وسراويل الجينز الضيقة، ونشرات الحمية السخيفة، ونظرات شباب حيها الهازئة، واهمال الكون، وآمال الحب الخائبة، لتدوس عليها جميعاً.. بملىء ما فيه قلبها من حقد، تسحقها بكعب حذائها العالي الذي ستقذف به هو الآخر في نهاية الطريق. ببقايا رجفة في يدها، عدلت المايكفروفون لأسفل: -مساء الخير.. إسمي جميلة..، علت الضحكات حولها، وضجت القاعه،صمّت أذنيها، وخفضت رأسها، جاهدةَ أن تفكر بشكل كلماتها التالية فقط: -أهنئكِ بحق، فلوحتك عميقة وغامضة، وذاك الغموض ما دفعني لأقف هنا، وأطرح عليكِ بعض الاستفسارات، بتردد: -نعم.. تفضلي.. -هل لكِ أن تعطينا سبباً لاختفاء ملامح الفتاة في اللوحة، مكتفية ببعض الخطوط الدالة على انوثتها..؟، تملك المكان بعض الهدوء، وتوجهت الأنظار لأمينة: - م م في الواقع.. تفسر الخطوط.. أقصد أن..، وصمتت.. -حسناً.. سؤال آخر، لماذا يقف شبح الفتاة، في مكان مرتفع، مولياَ ظهره لجموع الرجال بالأسفل، على الرغم من أنها تلاحقه بعيون متوسلة..؟ صمتت أمينة مجدداً وزاد ارتباكها.. -حسناً حسناً.. سؤال أخير، ما مغزى لعبة الظل على النصف الأسفل من أجساد جميع الرجال، بحيث أنها كادت تخفيه تماماً..؟ تولدت في وجه أمينة حمرة قاتمة، وأخذت أصابعها تتصارع في راحتيها الملقاة على الطاولة، وضجت القاعة بهمسات الضيوف المشدوهة، لتسكتها صرخة موؤدة في قلبها: -أرجوكم.. لن أطيل أكثر، دعوني فقط أكمل مداخلتي الأخيرة، أعذريني أمينة، تذكرت سؤالين آخرين، أرجو أن يتسع صدرك لهما، بذهول أكثر، وبحاجبين مرفوعين، أومأت برأسها.. -أسمك أمينة أليس كذلك..؟، لم تجب، كررت بنبرة غاضبة: -أسمك أمينة.. أليس كذلك..؟ -ل.. نعم.. نعم.. -حسناً، لماذا لم تطل لعبة الظل أيضاً حرف ال "J" في شِمال أسفل اللوحة..؟، صُعقَ الناقد، وغادر مقعده تاركاً أمينة، تنهار وحدها وتنتحب، أمام الحضور الصاخب، فيما تفجرت جميلة حيوية واندفاع، وخطت بثقة باتجاهه اللوحة، واحتضنتها بكلتا يديها بحنان، والدموع تُغرق عينيها.. تتأملها وتقول بصوت ملؤه الأسى والحنين معاً: سؤالي الأخير: كيف سرقتي حُلميَ السريّ..؟
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |