قصة قصيرة

أنا لك

 

ايمن عويضة  

"أكثر.. أسرع.. أنت رائع.. أحبك.." كان يسمع منها كل مرة ذات الكلمات، باشتعال اللذة نفسه، لقد كان بوسعه دائما أن يوصلها إلى هناك، حيث لا تصل الكثيرات، ومع ذلك كان شعوره بالسعادة كنتيجة منطقية مشوشاً، ويزداد تشوشاً يوم تلو الآخر، مع نفسه يذكر أن انتصاب شبح التوتر ذاك، بدأ من كلمة منها يوماً، انبثق له الوحش من حيث لا يدري، وكان بمقدوره أن يبسط أمامه رقعة الذاكرة، رغماً عنه، ويلعبها معه بلا نهاية .

   مر على زواجهما أكثر من سنة الآن، ولم يعد بمقدوره الاحتمال أكثر، فهو يخشى أن تطفو هواجسه الدفينه بعد طول الحاح على السطح، وتستشعر هي ذلك بذكائها الحاد، وتتشوه سعادتها المطلقة باقترانها به، إنه لا يريد أن يخسرها مهما كلفه الأمر، ولكن.. تلك الكلمة اللعينه، ونشوتها الصاخبة كل مرة بوتيرة مستنسخة.. ما السبيل اليها..؟ لقد عصفت به الأفكار حد الهذيان، وقرر أن يخلق حلاً جذرياً، ويضع حداً لهذا القلق الكبير في أعماقه، ويظفر بها وبنفسه معاً .

   أثناء انشغاله بتعديل بعض المقطوعات التي ألفها حديثاً، رن هاتفه المحمول، وكان اسمها على الشاشة، إنها المرة العشرون التي تطلبه فيها اليوم، بعث ذلك في نفسه غضباً عارماً، "متى ستكف هذه الغبية عن ملاحقتي.. ألا تشعر بأنها ثقيلة الظل وخاوية حد الهروب منها..!!"، لم يدرِ كيف ترك أوراقه ورد عليها اخيراُ..

-أهلاً رانيا.. مساء الخير..

-كيف حالك..؟ لقد طلبتك كثيراً هذا اليوم دون جدوى..

-بخير.. أعذريني.. أعاني من ضغط هائل في العمل، فكما تعرفين الحفل اقترب، وانا أعد له بكل طاقتي، فأرجو ان تتفهمي ظروفي، وفيما يخص المراجع، أخبرتني السكرتارية انها جاهزة منذ يومين، ويمكنكِ أن تمري هناك وتأخذيها..

-عزيزي بدر.. أنت أذكى من ذلك لتعرف، أنني أريد أكثر من المراجع..

-أرجوكِ رانيا.. أخبرتك من قبل أنني متزوج الآن، ولم يعد متسعاً لأي مغامرات أو جنون..

-أعرف.. لكني أصبحت مفتونة بك.. جاذبيتك تطاردني كل ليلة، لا أريد امتلاكك صدقني، لكن لا أستطيع تجاهل التفكير بلحظة عشق مسروقة معك..

-حسناً حسناُ.. لدي ضيوف الآن، سنتحدث في الأمر لاحقاً..

   أخذ مجدداً يقلب في المقطوعات ويعدل عليها، لكن صوتها الملحاح كان لا يزال حاضراً أمامه، وفجأة وضع قلمه جانباً، وأسند ظهره الى كرسيه لأبعد حد، وراحتيه تحتويان رأسه من الخلف، وقال لنفسه وهو يحدق في السقف: "لقد أتتني هذه الغبية بالحل دون أن تدري، ساتخلص منها وأضع حداً لكل المشكلات دفعة واحدة غداً.." في وقت متأخر من المساء، وعندما أغلق المعهد معظم أبوابه، انتهى من اعداد نفسه للمغادرة، وجلس قليلاً على مقعده، فالخطة ستبدأ الآن، ولا بد أن يدفعها اصرارها لتعاود الاتصال، وكان ما توقعه فعلاً..

 -ألو..

-اشتقت لك كثيراً..

-وماذا أيضاً..

-لا بد أنك متعب جداً الآن، وبحاجة ماسة للاسترخاء.. كم أتمنى أن يوكل إلي موسيقارنا الموهوب هذه المهمة..

-وماذا بعد..

-سآخذك إلى عالم لم تطله قدماك حتى الآن، تحلق فيه لذتك الى أقصى مدى.. ويتحلل جسدك تحت شفتاي اللاهثة حد الجنون فوقه..

-رانيا.. أرجوك.. ليس الآن.. زوجتي تطلبني على الهاتف الآخر، أعدك أن نجلس قريباً..

   أغلق هاتفه سعيداً بنجاح الخطوة الأولى، وهرع مسرعاً إلى البيت، فقد أحس أنه بشوق إضافي لزوجته، وأن القلق الذي يعقب لقاءاتهم الدافئة كل مرة، سينتهي إلى الأبد، وفي طريقه للبيت هاتف رانيا مرة أخرى، ورتب معها موعداً عصر اليوم التالي، في أحد المطاعم الراقية.. وبعد أن تخلص من مهامه الكثيرة بعناء، بعد ظهر اليوم التالي، هيأ نفسه، وغادر المعهد بكامل أناقته متجهاً للمطعم، وفي طريقه إلى هناك، هاتف زوجته، وطلب منها أن تلغي جميع ارتباطاتها بالجامعة، لأنه يعد لها مفاجأة ستدهشها، فوافقت .

   جلس واثقاً ومبتسماً أمام رانيا، متمنياً ألا تتأخر زوجته، فهذه اللعوب أمامه لا تكف عن الإيحاءات، وتريد ترتيب موعداً آخر أكثر حميمية، وأثناء توجهها للطاولة، تفاجأت سلوى بوجود أمرأة مع زوجها، وفضلت أن تخفي دهشتها، وتنتظر قليلاً، فعلى أي حال هو صاحب الدعوة، ولا بد أن تتكشف الحقيقة قريباً .

-مساء الخير..

-أهلاً سلوى.. تفضلي، أعرف أنكما مندهشتان، ولكن هذه لعبة المفاجآت، لأعرفكما ببعضكما: سلوى.. زوجتي الرائعة والتي أحبها كثيراً، رانيا.. إحدى طالباتي السابقات في المعهد، ولها موهبة مميزة ومستقبل واعد..

تبادلت السيدتان المصافحة ببرود، وجلسوا ثلاثتهم، وصمت حذر يلفهم، حتى بدأت سلوى بإذابة الجليد:

-إنها مفاجأة حقاً، تستحق أن أعتذر بشأنها عن تقديم محاضرتي الأخيرة عن "فرويد" الذي مللته..

-نعم.. حتى رانيا تمل أحياناً من متابعة المراجع الضخمة لإكمال دراستها العليا، وهذا أمر يمكن تفهمه، لكن في الآونة الأخيرة، بدأت تعاني من أمر أكثر سلبية، وهذا ما أزعجني، ودفعني لنتناقش ثلاثتنا بالأمر، فوجودك سلوى يمكن أن يساعدنا بجد لتخطي هذه المشكلة بحكم تخصصك..

   احتدت علامات الدهشة في وجه رانيا أكثر، وبدت لا تفهم شيئاً مما يجري، ولا تقوى إلا على الصمت والانتظار، حتى يكمل بدر رؤاه، والذي بدى لها اليوم للمرة الأولى أبلهاً، يتفوه بكلام لا تعي منه شيئاً..

 -أنظري سلوى.. المشكلة تكمن هنا..

   وضع هاتفه المحمول على الطاولة، وبدأ بتشغيل مقطع صوتي.." –الو.. –اشتقت لك كثيراً.. –وماذا أيضا..."

حل الصمت بينهم أكثر.. وأخذت سلوى توزع نظراتها بين زوجها ورانيا، بارتباك ودهشة، ولا تعرف ماذا تقول، وزاد توتر رانيا، وتسمرت في مكانها، لا تقوى على الحراك، حتى عاد بدر بالحديث:

-هذه الجميلة لا تكف عن ملاحقتي، وقد ضقت ذرعاً بذلك، وكان لا بد أن تعرفي الحقيقة، بوجودنا، لنضع حداً لهذه المهزلة..

   أخذت سلوى تصلح في جلستها، فقد استطاعت التحدث أخيراً..

-في الواقع.. انا متفاجئة، ولست هنا بصدد محاسبتكِ، ما سمعته الآن لا ترضى به أية زوجة تحب زوجها، وتسعى للاحتفاظ به، وهذا الرجل أحبه، وأثق به إلى حدٍ لا تتصورينه، ولا أعتقد ان أياً من هذه المحاولات ستنجح في أن تفسد ما بيننا، أرجوكِ لا تبدأي معه محاولة بائسة أخرى، وأعدكِ أن ما جرى الآن سيبقى سراً بين ثلاثتنا..

   غادرت رانيا مصدومةً دون أن تنبس بكلمة، فلن تجد أي تفسير لسلوك الرجل الذي بدى بالأمس يوحي لها بكل ما تريد..

-لماذا فعلت ذلك..؟

-لأني أحبكِ..

-وهل هذا هو الدليل..؟

-بكل تأكيد، أنا أحبك سلوى.. ولا أريد أن أخسرك، وسأستثمر أي لحظة أثبت فيها أني مخلص لكِ..

-وهل تعتقد أن اخلاصك أيضا بحاجة إلى اثبات..؟! أتدري.. لو أن لقاء اليوم لم يحدث على الإطلاق، لما غير ذلك شيئاً من حبي لك..

   أحس بغضب شديد في قلبه وقتها، فكل المجهود الذي قام به، قد تبدد أمامه كرماد في الرياح، ولم يحقق أياً مما كان يصبو إليه..

-إذن أنتِ تحبينني..؟

-لماذا تسأل الآن.. بعد كل الأيام الرائعة التي قضيناها معاً، ماذا جرى لك اليوم..؟ بالطبع أحبك..

-واخلاصك..؟

-اخلاصي؟.. ماذا تقصد..؟

   ساد صمت قاتل بينهما، ورفعت سلوى ساعديها عن الطاولة، وأسندت ظهرها للكرسي، وأصبح حماسها أقل من ذي قبل، وبصوت خافت قالت..:

-إنك تشك فيَّ إذن، نعم تشك فيَّ.. تتصل بي متحمساً، وتطلب إلغاء مواعيدي، لتقدم لي بالنهاية قربان اخلاصك، لأتعاطف أنا معك أكثر.. ويكون لزاماً علي أيضاً أن أخبرك بتفاصيل ماضيَّ الغامضة، وأقدم لك قربان مماثل.. وبنتهي الأمر.. أليس كذلك..؟

 -سلوى.. أرجوك.. أنا متعب حقاً، لا أعرف أي سبيل لراحة أو اطمئنان، كل ليلة يعذبني الأرق وتطاردني الذكريات..

-لماذا..؟ عن أي ذكريات تتحدث..؟

-كنتِ ذكية بما يكفي اليوم، للتوقعي أن كلماتي المسجلة لرانيا كانت فقط لاستدراجها، لتتفوه بالنهاية بالكلمات التي تدينها أمامك، لكن ما حدث قبل أن أعرفك، كيف لي أن أبرره، لقد كنت ثوراً هائجاً، ورجلا ماكراً، يستخدم كل ما لديه للايقاع بالنساء، ولم يكنَّ في المقابل يبدين أي مقاومة تجاه شباكي الشيطانية، وبعد أن التقينا، قلبتِ كل كياني، وفي زواجنا أحسست أني أمتلك كل مفاتيح السعادة، وأحسست أيضاَ أني غير جدير بك وأنا أحمل معي ذلك الماضي الملطخ، لكن أقسم لكِ، أنني لم أفكر بامرأة غيرك بعد زواجنا، ولا زلت على استعداد لمحاربة كل الدنيا من أجل الاحتفاظ بك.. فانا أحبك سلوى صدقيني.. أحبك..

-بدر.. متى ستعرف أنك لست بحاجة إلى أن تسرد لي ذلك بلسانك، فأنا أعايش حبك واقعاً كل لحظة، أقسم لك أني لست بحاجة لدليل أكثر روعة وإقناعاً من ذلك، وما مضى من حياتك قبلي لا يعنيني، لا تعنيني شياطينك ونزواتك وتهورك، فقد أصبحت طي الماضي الآن، ولم ألمس في لحظة من زواجنا أي مؤشر يدل على عودتها لسلوكك..

-أعرف ذلك لكن..

-لكن ماذا..؟ أرجوك.. قل كل ما يدور في نفسك الآن..

-لقد قلتِ لي يوماً.. "انا لك"، ومنذ ذلك الحين تعبث الشياطين في رأسي، فما من امرأة ذهبت لها إلا وقالت لي تلك الكلمة، لقد أصبحت أبلها يهذي.. لا أعرف كم مرة يمكن أن تقول امراة هذه الكلمة لرجل، وكم من رجل سيسمعها منها طالما نجح في فك شيفرات رغبتها..، وهناك شيْ آخر، نشوتك بصحبتي كل مرة، لا تنطفىء، تفجرينها دائماً على فراشنا بنفس الصخب والذورة، وشهقتك المدوية، أيعقل أن يكون كل ذلك حقيقة تعيشيها معي كل مرة، أم هو افتعال منكِ لتشعريني بالاطمئنان،  وزهو الانتصارات الرجولية المأمول.. لتخفي شيئاً ما..!!

   كانت ملامح وجهها تتوتر أكثر مع كل كلمة إضافية يقولها.. ويتصاعد غليان ورجفة في كل أرجاء جسدها، فأخذت تصرخ في وجهه..:

-أنا لا أصدق ما أرى..! ما هذا الجنون الذي أتيت به اليوم إلي..! ماذا جرى لك..؟! قل لي.. أتحتاج إلى طبيب نفسي..؟ أترغب أن أتركك إلى الأبد كي تتخلص من هواجسك الرعناء.. كيف سنعيش معاً بعد هذا العبث الصبياني.. وتجريحك الذي تجاوز كل الحدود..!!

   ساد الصمت مجدداً بينهما، وأخذ يحدق برأسه المطأطىء في فنجان قهوته على الطاولة، ويده اليمنى تحتضن خده، وتغطي جزءا من ملامح وجهه المنكسرة.. وأخذ يقول بصوت غائب.. دون أن يحرك رأسه:

 -لا أعرف ماذا أقول، وكيف أتصرف، تبدو لي كل المسلمات والحقائق في الدنيا، موضع شك.. ومحض أوهام، أنا ضائع.. صدقيني.. لا أؤمن بأي حقيقة من حقائق هذا الكون، غير واحدة..

وقبل أن يكمل، نظر إلى وجهها المطل عبر الزجاج اللامع، إلى النهر.. وقال بصوت متوسل..:

-إنني أحبك سلوى.. أحبك..

   لم تلتفت إليه وقتها، كانت نظراتها ضائعة في الأفق المقابل، كنورس حزين، يرفرف بتثاقل، فوق ألسنة برتقالية متقطعة، نثرتها الشمس على صفحة الماء، وهي آخذة في الغروب، ولمحت قارباً خشبيا صغيراً يبحر مبتعداً، ويجلس في أقصى ركنه الخلفي، شاباً وفتاة في وضع احتضان طفولي، بدى أنهما زوجان حديثا العهد، فأخذت دمعتان بالفرار بصمت على حافتي خديها، ثم أشاحت بوجهها إليه، وقالت بهدوء..:

-انظر إلي..

   التفت إلى وجهها ببطىء، وبأسى واضح حدق في عينيها..

-حاول ان تقذف بكل ما يدور برأسك هذه اللحظة على الأقل، واستمع إلي جيداً.. هذه الكتب المنثورة على الطاولة، هي سلسلة نظريات "فرويد" في التحليل النفسي، أُدَرسها للطلبة منذ أن بدأت كمعيدة بالجامعة قبل سنة ونصف، كل صباح أطالعهم فيها، وأشرح النظريات الواردة فيها بكل طاقتي دون كلل، لكني أكرهها.. أتدري لماذا..؟ لان هذه النظريات، تحيل كل انفعالاتنا مهما اختلفت موضوعاتها، إلى دوافع جنسية المنشأ، فالحب والحنان والأمومة والصداقة وأمراض العصاب، كلها تنشأ في البدء من دافع الجنس البدائي لدينا، ما رأيك بذلك..؟

   ما دفعك يوماً إلى سمكاتك الواقعة في شرَكَك، ليس حباً بالمطلق، لم تكن تذهب إليهن، لتبحث عن ذاتك المنقوصة فطرياً فيهن، كنت تذهب إليهن فقط، لتتخلص من توتر فيزيائي تفجر في جسدك وقتها، لذا.. فقد كنت كل مرة تزيل فيها هذا التوتر بصحبتهن تعود أدراجك، ناسياً كل تفاصيل اللقاء، هل لك أن تصف لي موقفاً واحداً من أحد اللقاءات..؟ هل لك أن تخبرني كيف كانت ملامح وجهها تتصاعد بصحبتك.. أو تخبرني عن لهفة تولدت في عينيها للقاءك وودعتك بها في مغادرتك.. أو تخبرني عن غليان القبل التي تبادلتماها وقتأ أطول حتى من وقت المعاشرة.. أو تخبرني عن دموعها المنهمرة عشقاً لحنانك.. وصرخاتها المدوية شبقاً لحبك المجرد.. الذي وقعته لحظتها بصدق على جسدها..؟   أخبرني أي مجنونة تبادلها الحب بهذه الطريقة، يمكن أن تقول لرجل آخر.. "أنا لك"..

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com