قصة قصيرة

 

لن يأتي عطوان الى الموعد

 

عماد خليل بِله

 الى المهندس عطوان حسين الساعدي ورفاقه المغدورين في ذكرى استشهادهم

ملاحظة: معذرة لورود بعض الالفاظ، اظن من التزييف ان لانستخدم كلماتهم كما تلفظوها.

 تململت..

في الشارع تحث الخطا بعد ان رمت التردد جانبا وارتدت اجمل فساتينها.انه تعلق بوهم ان تذهب الى موعد لقاء تعهدت به منذ خمسة وعشرين سنة.. لكن الوهم محبب للعراقي الغارق في ماساة متواصلة...هوشيء كبير من علاج حين يمنح املا بتحقيق حلم لم تقظ الايام المرة على حلاوة تذكره. لم تهتم بصخب الشارع والاطفال الذين تجمهروا حول الدبابة الامريكية والجنود المحيطين بها يطلبون قطع الشكولا، بينما يتبادل الكبارالتحيات معهم، ويرفع بعضهم يده، وبلكنة عراقية يصيح : Hi…Hello…How are you،ليحصل على ابتسامة و هو ينظرالى الجنود المدججين بالسلاح دون خوف . I am good…No Saddam...

 تحررنا من الدكتاتورية، واليوم موعدنا الاسبوعي، اذن يمكنه ان يأتي، سنلتقي دون خوف فلا اوغاد الامن ولا صعاليك البعث يمنعونا.. انها الحرية.. اه ايها المتشبث في دواخلي، احقا ستتسكع نظراتي بين تفاصيل وجهك الحبيب، ودف يديك يعيد لي ربع قرن من عمر ولى انتظارا... ابتسمت ونظرت الى ساعتها. ..نصف ساعة .. لدي نصف ساعة لاصل.

 هكذا تعودا اتباع الطريقة الحزبية في مواعيدهما. ان تخلف احدهما لسبب ما يتكررالموعد زمانا ومكانا ومن نفس اليوم للاسبوع التالي. رغم ان الزمن تجاوز قرنه الذي شهد اتفاقهما الا ان التزامها ووهمها لم يسقطا بالتقادم.

ستة اسابيع مرت منذ غيابه الاول. كانت الحملة لمطاردة الشيوعين قد تصاعدت حين تغيب عن العمل منذ ان اخبره الرفاق بأن يختفي. لكن اين هو؟ لماذا تركها دون ادنى فكرة عن خططه... خططهما.. ماالعمل ؟ هل سيأتي ليتفقا على تصرف في ظل احتمالات مختلفة قد تكون مأساوية في جو المضايقة والمطاردة المخيم على الساحة. هي متأكدة من مجيئه! لكن هل يتمكن؟، ومرت تلك الايام مقلقة ثقيلة كالاليات الثقيلة من شفلات كتربلر التي يمارس صيانتها، تسرب الشك الى قناعتها، وتاقلمت مع الواقع حين لم تجد حيلة، فمن الافضل ان يكون سالما ولو بعُدََ. واقنعت النفس ان حرصا على سلامتها منعه... هكذا وجدت التبرير الذي منحها شيئا من صبرٍ. وحين لم يعد في وهمها امل بقدومه، توقفت عن الذهاب للموعد. ودخلت في هوس تاليف سيناريوهات كيف تتصرف حين يجرها رجال الامن الى واحد من بنايتهم او واحدة من مقار حزب البعث اذ من غير المعقول ان يتركوها بعد اختفاءه،وعلاقتهما معروفة للكثيرين، وتلميحات زميلات وزملاء العمل البعثيين باتت يومية، ولم يطل انتظارها، فبعد بضعة ايام جاءها شرطي من رجال امن الدائرة واصطحبها الى غرفة الامن. فاجأها ضابط امن الدائرة حين دخلت غرفته بوجه صارم تختط على صفحته ابتسامة خبيثة ونظرة فاسقة، وبصوت مفتعلا عصبية لاخافتها: احنه مطولين وياج لخاطر كفاءتك.. انت مهندسة جيدة، بس لازم تعرفين كلشي اله حدود...وتضخمت ابتسامته ليشعرها بقدر اكبر من السخرية، ثم واصل: اذا صريتي على عنادك راح فد يوم نسويلك عرس.. ههه ههه ..وعدنا اكثر من عريس جاهز... وانقلبت نبرت صوته الى حدة واستفزاز حين قال وهو يمص الاصبع الوسطى ليمينه : اذا ما تعقلين وتوقعين تعهد لخلي اوسخ شرطي يحطه بكسك.

 

منذ ذلك اليوم والرعب حط في القلب وشغل التفكير..اين انت؟ رددتها دون صوت واضح بعتاب وخوف. تبخرت عناصر المجموعة بين اعتقال واختباء... انا ابحث عنك ...انا اريد الصمود... وجودك يشحذ عنادي.

 

 ذات يوم مُدت يد بخفة وسط زحام عند موقف الباص رقم 55، ودست قصقوصة ورقة في يدها . عض صاحب الورقة شفته السفلى كي لا تتصرف بما يوقعهما بمشكلة، فضغطت على الورقة بضمة يدها وحاولت للحظة النظر في وجه الرجل المسرع، لعلها تعثر على مايشفي تساؤلها، فلم تسمح لها حركة الناس المتدافعين لركوب الباص واخذتها موجة حركتهم الى داخله، فكانت فرصة لترمي الورقة في جيب جاكيتتها... في غرفتها، المكان الوحيد الذي بقي للان امنا ذاك الوقت من عبث السلطة، قالت لها الكلمات بعدما تطلعت اليها في حضن الورقة: " بأمان لكنه ترك البلاد بعد ان ضاقت وسائل البقاء. اراد القدوم لوداعك،منعناه فالوضع لايقبل المغامرة، يعدك ان يأتي باقرب فرصة، فابقي على الموعد".

قالت لرفيقة تمكنت من الاتصال بها بعد جهد : كنت ساذهب معه، كان بالأمكان ان نتزوج ونغادر معا. فردت الرفيقة : تريدين اللحاق به؟ يمكن تدبير ذلك، لكنا نرى ان بقائك هنا اكثر فائدة فلم تتعرضي لخطر، اصمدي.

اكثر فائدة! واية خطر بعد كلام ضابط الامن اشد من احتمال التعرض للاغتصاب للفتاة عراقية، ردت مستاءة وتابعت: على اية حال سابقى فوضع اهلي لا يسمح بالمغادرة، ماعلي القيام به هو ان اصمد قدر ارادتي، المهم لا تتركوني وحيدة، ربما اترك الدائرة، كيف ابرر هذا ان حدث امام اهلي ؟

 

 ياليتني استطيع النوم حتى تنجلي الغمامة، ياليتني اتحول الى تمثال كي يكف رأسي عن الدوران.الافكار تنبثق في المخيلة كنتوءات ابرية تثير الالم ثم تنفجر دون هداية لتتكون نتوءات بديلة ليتواصل وجع فشل الوصول الى مَخرج يستقر به الحال.

أيام حبلى بعذاب مرت منذ غيابه، حين جاء ذاك اليوم الذي كانت تهرب منه، يوم بارد من ايام شباط، حار بانفعالاته واحداثه. في الخامس من الشهر ورجال السلطة في حمم التنافس لابداء الولاء عبر تحضيرات الاحتفال لذكرى انقلابهم الدموي. كان رجال امن الدائرة الذين تعودت على اهمال نظراتهم الساخرة احيانا والدنيئة احيانا اخرى التي يضعونها على جسدي عند قدومي للعمل صباحا وعند مغادرتي على غير عادتهم، لمحت عن بعد في الوجوه فرح ظاهر وسخرية زائدة حركت في داخلي فارة الخوف من حدوث ما أخشاه. توقفت، فلست مطمئنة،حاولت خلق سبب للتراجع عن دخول بناية الدائرة، فاوقعت حقيبتي بعد ان فتحتها لتتناثر اشيائي التي بداخلها، وقرفصت حولها ورحت احاول جمعها وانا انظر خلسة اليهم لعلي اسرق لحظة غفلة وأختفي، وظننت ان اللحظة التي استجديتها قد حانت لأضع خطواتي في الاتجاه المعاكس لمدخل البناية، لكن عائقا شل بفزع حركتي التي رجوت ان تنقذني ما ان رفعت جسدي للنهوض، كان منتصبا امامي. هو بكامل شماتته ضابط امن الدائرة بنظرة وقحة شل حركتي، وقال : لوين رايحة، متردين تداومين اليوم. وضحك، لم ينتظر رد مني. اخذ بيدي وجرني الى داخل البناية.

 

شعرت اني اقاد الى الذبح كما تقاد بقرة الى المسلخ. قبالته في غرفته الخاصة جلست صامتة احدق بالارض واعبث بحمالة حقيبتي وهو ينظر الي وينفخ دخان سكارته نحوي، وصمت ينتظر ان نبدا اللعبة. دقائق بزمن دهور مرت و حوار داخلي لكلينا، انا في هم صاعق ألمل قطع فكري المتفاعلة لاتمكن من الصمود وهو يعاركني بتركي في متاهة خيالاتي، انا الواثقة انه يعرف ما يريده بالضبط. تعرقلت مسيرة الدهورعندما جلب احد رجاله كاسين من الشاي .وضع واحدة امامي.

"تفضلي" قال الضابط

كم كنت بحاجة لتلك الكأس من الشاي وهي تطلق ابخرة في غلاف الغرفة دون ان ينتبه اليها، وودت ان اتحول الى بخار يتسرب الى الخارج حتى لو كان عبر ثقب قفل باب الغرفة. كان الشاي منحة كريمة في جو بارد ليس بفعل درجة الحرارة لذلك اليوم فقط،بل بالواقع الغامض في خطواته القادمة. مددت يدي نحو الكأس، فسبقني اليها وسحبها ليقول لي بهدوء أجفلني: كحبة .. انت تستاهلين جاي.. انت بس تستاهلين عير.

 بدأت اللعبة.

نظرت اليه بتحدي فقد ادركت اِنا تجاوزنا المقدمة وبتنا في الفصل العملي من يومنا. ترك كرسيه استدار حول المكتب ليتوقف ورائي، بينما سكنت في مكاني بانتظار حركته التالية .

وضع يده على شعري فابعدت راسي الى الامام، فاسرع يشد شعري بقوة لاصرخ وانا انهض فقد احسست بفروة راسي تنخلع، ادارني نحوه لنكون وجها لوجه لطمني على وجهي فسقطت ارضا

- وقعي

- - ماذا اوقع ( قلتها وانا احاول النهوض)

- اعترفي بانك شيوعية

- نهضت وانا اعدل وضع ملابسي قلت : لست شيوعية

- هله..هله، عليمن، نحن نعرف كل شيء عنك، مواعيدك، لقاءاتك

- اذن لماذا تسأل

- اذن تعترفين

- لم اعترف بشيء

- وين عطوان؟

وذهبت في وحل من الافكار.. يسأل عن عطوان! معناه صحيح ما قاله انه يعرف عني. ما افعل هل اعترف وانهي الموضوع, لا لا انها مجرد وسائل ضغط باستخدام بعض الحقائق فاجبت: عطوان زميل دراسة، لم اره منذ فترة.

- وبعد... خلصت الدراسة وانتم تجتمعون

- وصديق

"صديق لو عشيق" قالها بشيء من جدية السؤال، ثم ضحك واضاف " كله واحد، المهم مونسك"

شعرت بدخان يخرج من اذني وقد احمرتا. لو ابصق بوجهك ايها النذل، من اين لامثالك مشاعر انسانية... هو يستفزني اذن لاتحمل فاجبته: نحن نخطط للزواج

 ضحك وقال: زواج .. والعريس مختفي .. اي زواج، انا ازوجك، وصرخ ليدخل شرطيان الى الغرفة فصاح بهما: الدنيا حر.. داروها.تقدم الشرطيان بهمة وامسكا بي، كل بيد وقالا بصوت واحد( تامر سيدي). ادار ظهره وقال : شوفوا شغلكم، وذهب ليجلس وراء مكتبه ويدخن متابعا ما يجري امامه.

اخذت اصيح واقاوم وسط ضحكاتهم والشرطيان ينزعان الجاكيت من عليَ. نزعا الجاكيت وابتعدا عني، فحمدت الله وقلت انه مجرد تهديد، لكن الضابط قاطع محاولتي الهروب داخل الافكار وقال مفتعلا صوتا هاديءً: الدنيا حر.. اسمعي بالمختصر اخر فرصة، وقعي طلب انتماء للحزب .. فابديت رغبتي باني لست اكثر من مهندسة وافضل ان اخدم وطني بالعلم وليس بالسياسة.

- يعني شنو الكبالج طرطور، عطوان علمج الحجي... شوفي سميرة راح اتساهل وياج لأنج خوش بنية، و من عائلة عربية اصيلة، ( لان صوته) .. منو القشمرك وداج للشيوعية... تريدين تمارسين سياسة هذا حزب الامة العربية مفتوح الج... ماشي تكولين ماعندك ارتباط بحزب .. بسيطة .. مستقلة ...قاطعته : هذه الحقيقة... فرد : انجبي، وواصل: خلص وقعي تعهد بانك مستقله ولو فكرتي بالعمل السياسي فسيكون ضمن حزب البعث، واذا كذبت فمصيرك الاعدام، ( احتد).. وقعي وخلصينه لاني لن اتركك تخرجين من الغرفة دون توقيع...

فقلت: انا مستقلة ولست على علاقة بحزب، فقاطعني مرة اخرى: اسكتي يا عاهرة لاكمل كلامي وقال: تصرين .. انا اريدك الان ان توقعي طلب انتماء لحزب البعث ولا اقبل منك ان تكوني مستقلة، حتى لو كنتي مستقلة فانت بعثية...قلت وقد شعرت بقدرة على التحدي انا مستقلة ولن انظم لاي حزب ولن اوقع ورقة فلا اريد الخوض بالسياسة... سحق سكارته بعصبية في صحن الشاي امامه وسعل ثم قال بصوت مخنوق لكنه قوي: مو اكلج انت كحبة...متردين تنظمين للحزب لانج كحبة. قالها وغمز للشرطيين، فركضا نحوي وبهمجية مزقا قميصي وانا اشتمهما، واحاول تغطية صدري الذي تعرى بيدي.

صح الضابط: نيموها

وبلمحة كنت ممددة على الارض يمسك احد الشرطيين بيديَ خلف راسي، ويجلس الاخر فوق ساقي الممددتين وهما ينتظران التعليمات.

 قال الضابط: اتريدين عريس، خذي اثنين.. ضوكوهيا

اخذت ارفس واصيح حين رفع الشرطي الجالس على ساقيٌ تنورتي ومد يده بين فخذي، شعرت بغثيان ورعب حين لامست اصابعه جسدي لكن بقيت صامدة، تعلقت بقشة خلاص مجهول رسمته يأتي في اللحظة المناسبة لينقذني، وظننت الخلاص قد جاء حين كان قد وضع حافة ملابسي الداخلية بين اصابعه وتوقف فجأة ونهض، فتنفست ارتياحا لم يطل، اذ لم يتركني كما توهمت وانما خلع بنطاله وارتمى فوقي وسط ضحك الاخرَين ووسط صراخي الذي يبدو انه يزيدهم نشوة، وتوسلاتي التي بدأتها. شعرت برغبة بان اموت... بان زلزالا يحدث ليخلصني ... ان تنطبق الارض على السماء وتنتهي البشرية بدل ان يطبق جسده المقرف فوقي . لا مجال للتمني ففي الواقع البعثي هو يضغط علي بثقله، فجمعت مابي من قوة وحركت ساقيٌ بكل اتجاه فمال جانبا وحانت فرصة لأرفسه على خصيتيه، فصرخ متألما ونهض مبتعدا وهو يسبني ويبصق عليَ. صفعه الضابط وقال له: جبان اخذ ثارك. فعاد يركلني بحذاءه على كلتا رجليِ، فصحت متوجعة، وضربني الشرطي الممسك بيدي على صدري بقبضته فاحسست وكأن روحي غادرت جسدي فبكيت، مسك الشرطي بساقيَ وقال: لا تضيعي وقتك ووقتي دعيني انهي المهمة، انا سعيد بان اكون اول من يركبك، تعرفي ستشعرين بلذة رغم المقاومة، جربي . لم اعد استمع لكلامه وضعت في وجع تصور لمايمكن ان يحدث لي لو لم اخرج سليمة من هذه المحنة، ولم اشعر براسه المائل على رقبتي يلحسها الا حين بللها لعابه، فأدركت انه جاد في فعلته، ولم اتردد حين حاول ان يغتصب شفتيَ ان اعض شفته السفلى بما بقي لدي من قوة مقاومة تمتلكها ضحية ساعة ضعفها، واخذ كلانا يصيح، هو اظن من ألم العضة، و دمه السائل منها، وانا قد نفذت طاقة الصمود لدي، فصرخت: راح اوقع ... اووووقع... أووووقع...وين الورقة

ضحك الضابط وقال:موكان من الاول احسن، اتركوها

ابتعد الشرطيان عني وانشغل ذاك القذر بارتداء ملابسه ومسح دمه. نهضت محاولة ان اجمع قطع قميصي واستر بها صدري العاري ووقفت امامه انتظر وهو يتابع حركاتي فقلت: اين الورقة

قال اجلسي وامر باحضار الشاي

جلست على الكرسي ورفعت راسي انظر في السقف والدموع ترسم مجريين حارين على خديَ لتواصلا مجراهما وتصبان في حضن تنورتي.... يا ارض انشقي وابلعيني.

قدم الضابط وهو يبتسم ورقتين، قا اختاري واحدة، الافضل هذه و حمل احدهما ومدها الي . اخذتها ووضعتها جانبا كانت طلب انتماء للبعث، وقعت الورقة الثانية اقر فيها كوني مستقلة سياسيا ودفعتها نحوه. مسكها بكلتا يديه، تطلع فيها كمن يتطلع الى جائزة، ثم هز رأسه وقال : مستقلة.. ماشي .. بالمستقبل بعثية

قلت: اقدر اذهب

ابتسم: هكذا عريانة

قلت: ما افعل وقد مزقتم قميصي

ضحك، وهو يقول: تريدين الموظفين والموظفات يروك بقميص ممزق حتى تقولين لهم اعتدينا عليك.

 كذبت عليه اذ قلت ما فكرت بذلك. في الحقيقة فكرت بان رؤيتي بذلك الوضع يفضح جرائم هؤلاء الوحوش.

فقال مع ضحكة خفيفة وهو يمد رقبته نحوي خلال المنضدة : لا تهتمي، نحن نفضل ان يراك الاخرون لتكوني درسا لهم. وعاد مستندا الى ظهر الكرسي واخذ يقهقه، وانا اعض شفتي السفلى متوسلة الخروج.

عاد الشرطيان احدهما يحمل صينية عليها كأسان شاي وضعها على طاولة المكتب والاخر يحمل كيسا سلمه للضابط. اديا التحية كما فعلا عند الدخول حين اشار بيده وخرجا.

من داخل الكيس اخرج الضابط قميصا ابيض دفعه نحوي وامرني بلبسه، ارتديته بسرعة ورضا لستره جسدي ولم اهتم بقياسه الكبير، اخذت جاكيتي التي كانت للان على الارض وقلت اخرج الان.

ابتسم وهو يقول: ليش مستعجلة نشفي دموعك ضبطي مكياجك واشربي الشاي. عليك ان تبقي لبقية ساعات الدوام، لامشكلة في الساعات التي مرت فالادارة تعرف اين انت، لاتتحدثي عما جرى.. ومد راسه ثانية نحوي ليقول: "فاهمة"

بالتأكيد كنت فاهمة بل اكثر من فاهمة فهززت رأسي . ضبطت شكلي وخرجت. ركضت نحو المرافق الصحية واختبأت في احداها، ورحت ابكي بصوت خفيض.

كيف انتهيت الى هذه الحال، هل جبنت.. هل خذلته اذ وقعت تلك الورقة، لماذا لم اصرخ بوجهه ..ما يمكن ان افعل وانا بنت في هذا المجتمع، تحسست ثديي، اخرجت منديلي بللته بالماء ورحت امسحهما وساقيً، لا اذكر كم مرة ملئت الابريق وغسلت مابين فخذي.. ايها الاراذل... سلاحكم القذارة دائما... اين انت ياعطوان، كم انا محتاجة اليك... لو اغتصبوني ماذا كنت ستفعل، هل تلومني على تراجعي وتوقيعي التعهد، ان اطلاق الرصاص على المرأة ارحم من الاغتصاب في مجتمعنا، انا لم اخن.. انا حميت عائلتي وحميت نفسي.نسيت المكان حتى سمعت طرقا على الباب وصوت يسال عما يجري، تذكرت انه صوت وداد زميلتي في غرفة الدائرة فطمنتها بان لا شيء مجرد ألم في المعدة وانا قادمة. وافقت وقالت اسرعي، افهمني استعجالها وقلة كلامها انها عرفت ماجرى لي، واخبرتني بذلك لاحقا وانها قدمت لان ضابط الامن مر بجانب الغرفة، ولما لم يجدني قال لها ان تبحث عني. حاولت ان اشغل نفسي حتى نهاية الدوام فدفنت راسي في الاوراق تلاشيا للنظرات المتسائلة، رغم ان لا احد تجرء على ان يسأل، حتى اؤلئك المكلفون بمعرفة ردة فعلي اكتفوا بالمراقبة، فقد كان سكوني عميقا. ومن يومها لم اعد قادرة على رؤية الضابط وشرطييه، وكلما شاهدتهما اصاب بغثيان واركض نحو دورة المياه لاتقيء. اخذ ذلك مني سنوات توالت في طيات ايامها احداث بهموم اشد وتراكمت ماسي الحرب وانتقل الثلاثة واختفيا عن الدائرة. منذ ذلك اليوم توقفت عن الذهاب الى موعد ومكان اللقاء خشية ان اكون مراقبة، ولماذا اذهب وعطوان غادر المدينة.

 

اشعر برجفة.. رغبة متوسلة ان يصدُق زمني مرة.. ماهذا الثقل في قدمي .. انه موقف الباص ذاته الذي طالما تلاقينا عنده ... الموقف فارغ لا احد ينتظر الباص الذي اختفى وتوقف عن ممارسة تبختره في الشوارع مذ سقوط النظام ... ذاك الواقف على جانب من يكون؟ ... هو .. هو عطوان.. لا... لا... انه اطول منه... ولماذا كل هذا الصخب، اهدئي يا أمرأة... هي خطوات وتكونين في المكان والزمان... دقيقتان لازالتا امام الموعد فهل يتأخر؟ سأنتظر فقد ولت قواعد الموعد منذ زمن... ربما هو يراقبني من زاوية في الشارع.. ينتظر توقفي ليفاجأني... هل سيعرفني وانا في هذه الملامح وهذا الحجاب!... سيجلب لي هدية رائعة... هو هديتي الرائعة.

وقفت تحت مظلة الموقف، فتحرك الرجل الذي رأته منذ قليل، اقترب منها... لم يتكلم، وقف يسترق نظرات متأملة الى وجهها... ازعجها تحديقه الذي طال، فاحتجت على فضوله... رد : سميرة. فتحت عينيها واسعتين وهي ترد براسها الى الوراء، وتقول : اية سميرة...

 اجاب الرجل: معذرة ابحث عن فتاة.. عفوا بل امرأة بهذا الاسم، لها موعد قديم عند هذا الموقف لأوصل لها رسالة، فقلت ربما انت

- رسالة ممن؟

- من صديق اسمه عطوان! مهندس ميكانيك

- عطوان... عطوان الساعدي.

- اذن انت.

- نعم انا... لماذا ارسلك؟... الا يقدر ان يأتي بنفسه، فلا رجال امن ولا مطاردة الان... هل هو مشغول نظرت في عيني الرجل بثبات وفعل مثلها، وهي تشتعل في حزمة من اسئلة بلاجواب... لاحظت انه لم يرد على واحدا من اسئلتها المتتالية دون توقف. فقالت له: هل هو بخير... واعادت استفسارها بتوسل : نعم هو بخير. زفر الرجل واطرق رأسه ارضا، وبصوت مشوب بتقطع دافيء اخبرها انه جاء هنا ليوصل سلام ابي علي اليها. رفعت حاجبيها لتسأل : هل ولده اسمه علي؟.

- أهدئي سيدتي كان هذا اسما يعرف به.

- اذن اين هو؟.

- هو هناك في ارض عراقية.

- تعني هو في مهمة فبعثك لتطمأنني.

 صمت الرجل، وازاح نظراته نحو الشارع. كيف يخبرها النبا الحزين وهي معلقة بأمل روته حنينا لاكثر من ربع قرن من سنوات عمرها، حتى بات شجرة تعلق على اغصانها احلامها الباقية. هي تابعت صمته بخشية، وقلة صبر حائرة وفي الوقت ذاته محاولة الهروب من خبر حزين بدأ يتشكل في ظنها. مرت لحظات ملتهبة لكليهما حين استدار الرجل وتكلم : انه هناك في بشت اشان، وسكت.

- الا يقدر ان يقدم الى بغداد.. تسائلت مستوضحة.

- فرد : لن يقدر.

- هل تطول غيبته؟ يمكن ان يأتي بعد شهر ... شهرين... سنة... انا مستعدة لانتظاره... لقد انتظرت خمسة وعشرين سنة، وسنة اخرى ربما تكون اطول من السنوات التي مرت لكني سأنتظر وامري الى الله

 قالت مستسلمة- فاصبح الحال اكثر حرجا على الرجل الذي تعجل ليرمي حمله فتحدث بهدوء: عطوان لن

 يأتي... عطوان ومجموعة من رفيقاته ورفاقه يرقدون غرباء هناك وان في ارض داخل العراق.

صعقت سميرة... غطت وجهها بكفيها، وصرخت، فتوجهت نحوها وجوه المارة مستفهمة. أقترب بعضهم منهما وتسائل ان كانت بحاجة لمساعدة، واحاط ثلاثة رجال بالرجل الواقف بجانبها واستفسرا ان كان تحرش بها. فمسحت دمعتها وشكرتهم واخبرتهم انه قريبها وقد اخبرها بموت قريب لهما في الخارج. تركهما الناس، فبادرها بالمشي مبتعدين عن الموقف، فأخذت تعتذر وهي تواصل بكاءا هاديء. واستجابت له حين دعاها للجلوس في مطعم وجداه امامهما.

- حدثني كيف مات... قتل... طلبت ذلك ما ان جلسا حول طاولة داخل المطعم.

- فحدثها باختصار : كانت مجموعة من رفيقات ورفاق الحزب الشيوعي يعدون للاحتفال بمناسبة عيد العمال العالمي عام 1983 في منطقة بشت اشان عند سفح جبل قنديل، هاجمهم مسلحون من حزب جلال الطالباني في غفلة وقتلوهم .

- تعني لم يقتلوا في معركة مع رجال النظام..وواصلت مستغربة.. معقول ان يقتلهم معارضون للبعث مثلهم... وكيف يبرر الطالباني فعلته.

 مد الرجل يديه فوق المنضدة... اخذ نفسا عميقا، وزفر بحسرة ليقول: اهِ ايتها الاخت.. انها السياسة. - --

- فرفعت صوتها: والجماعة؟.

 - فكرر الرجل : انها السياسة...مطبات النضال ... ومصالح حزبية.

هل يعرف اهله؟ هل اخبرتموهم.

- انا شخصيا لا علم لي، جئت اليك فقط لانه اوصاني... وليس سرا ان اقول اني لم اكن اتوقع رؤيتك... جئت امانة لصداقة جمعتني.

- كيف اجد تفاصيل عنه... ربما يحتفظ احدهم بشيء من مقتنياته.

- يمكنك ان تسالي الجماعة... ان لهم مقرا قريبا من هنا ... دقائق وتكونين في ساحة الاندلس.

-تعال لنذهب معا .. هيا .

- معذرة نحن الان بانتظار الطعام.

- ومن له شهية للاكل... دخلنا المطعم فعلينا ان نأكل، فنحن لسنا في حديقة.

- اذن نذهب بعد الطعام.

- معذرة مرة اخرى .. لا اقدر ان اذهب معك... ودون تفاصيل، لم اعد حزبيا.

- اذن حدثني عنه ونحن نتناول طعامنا.

- حسنا .، ولكن برجاء ان تكفي عن البكاء لانه يثير اسئلة المحيطين بنا.

وبدا الرجل يتذكر: ساتحدث باختصار فقد وصلت الجزائر اواخر ( 1979) كغيري ممن هرب من طغيان سلطة البعث، من المؤكد انك تتذكرين تلك الايام وما حفلت به من مضايقات، ومطاردات، واعتقالات، وتصفيات، فغادر العراق من قدر على ذلك حين ضاقت الحال.

 صمت لحظة وانتظر ان تنهي ضحكة خفيفة تدفقت منها رغم الحزنفسألها ان تشاركه الفرحة.

 - هي ليست فرحة، هي اقرب للسخرية، فقبل ان اراك كنت استعرض وقائع تلك الايام وانا قادمة الى موعدي الذي مات.

فواصل: وهناك عرفت ان ابو علي يعمل ويسكن في ناحية تسمى بطيوة من اعمال مدينة وهران، فذهبت لزيارته. وفي الكرفان الذي كان يسكنه جاء ذكرك وأوصاني ان اجدك ان عدت للعراق ولم يعد. هو عاد قبلي، فقد كان متعجلا العودة، وقتها حملني رسالة الى مسؤول منظمة الحزب في الجزائر يطالب فيها ببدأ عمليات الكفاح المسلح في كردستان، كان يكرر عبارة " لم نخرج لنبحث عن عمل"، وانا كنت اُهدِيه بقولي " القيادة اعرف بالظروف ومتى نعود". اوصلت رسالته تلك، كما انا هنا لاوصل رسالته اليك. وفي زيارتي الثانية وجدت عنده اخاه الاكبر كان قادما من العراق لزيارته. كان المسكين في وضع نفسي تَعِب، فقد تم اعتقاله بسبب اخيه، وتعرض للتعذيب حتى انهم ادخلوا قنينة بيبسي في مؤخرته. جاء ليرى اخيه، يشكو له حاله، وحال الاهل الذين فقدوا الامل بحياة افضل بعد ان غادر الامل بانتشال العائلة من الفقر حين غادر عطوان. تذكرت كان في بطيوة يمارس صيانة رافعات " كتربلر" وكان مغرما بها، ويحلم ان يقوم بالعمل ذاته حين يعود الى العراق.

أراك لم تأكلي شيئا، ودموعك بللت الاكل.

- وانت لم تمد يدك لتأكل.

- لا اقدر ان اكل واحكي.. كانت المرحومة والدتي تقول" الزاد يخرس السباع".. الان ساكل والا نتركه لصاحب المطعم.

ابتسمت ومدت يدها. وسألته: هل تبق في العراق.

احاول العودة للعمل، المشكلة في ايجاد سكن، فأنا اسكن حاليا في بيت اخي

غادرا المطعم، فناولها ورقة هو يقول: هذا عنواني الالكتروني، ورقم تلفوني، اتصلي ان ترغبين، واذا لم تجديني فاعلمي اني لم اجد مكانا في العراق الجديد.

توادعا وكل ذهب في طريقه.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com