قصة قصيرة

يُتمٌ في زمن العوز

 

عبد الجبار ال حمدي

بعض باقات من الخضرة تحملها وهو متمسك بعباءتها خوفا من تيه في زحمة ومارة .... شأنها كل صباح وبعد ان توقظه ليساعدها في هذه او تلك لم تدخله المدرسة فحالة الفقر التي تركهم بها صاحب دربها لزمن ما قد فاقت على الفقر... وفاقته ثقوب في جسد بريء لم يثمر وردا ولم يشعر بمعنى الابوة ولم يقتني كغيره لعباً او يلبس جديدا في عيد  أو يشتري ما يمكن للسانه ان يتذوقه من أنواع تلك الاشياء التي يراها ملونة في يد الأطفال في سنه هزم الموت والده نتيجة تراهات وتقصير مجالات امن في زمن جديد وعناوين جديدة كان عنيدا لم يرضخ للذل وتلاعب الخطب والو لاءات لذا ظل يرتدي الفقر كما كان في زمن أغبر .... وهاهي تعض بأسنانها على مقدمة عباءتها خوفا من سقوط وكشف رأس لم يدنس في عوز وضيق حال .. ويد تمسك بذيل تلك العباءة على أطراف أنامل من يجري حافيا وتتقافز خصلات شعره الطويل الكث هنا وهناك ماضغا بين اسنانه كسرة خبز وبقيتها في جيبه الذي امسك به خوفا من فقدانها في لحظة جريان ويد تمسك ما أسماه الناس والزمن قوت يوم تبيع لتشتري ما ليوم غد وما تسد به فاه يتيم وحشو بطن بالنسبة لها ... افترشت حافة الرصيف الذي اشترى منها بقايا جسد توسدته وطفل تتدلى أرجله مرة علية ومرة فوقه ... لم يستغرب أصوات الناس وصراخ باعة وعبق من هواء فاسد ومياه عفنة ورائحة اسماك وخضرة وبراز دجاج ورائحة عطارين والقرن العشرين ... وهي تنادي ثلاثة بربع دينار ... تنادي حتى يجف ريقها وطفل يخطف قضمة من كسرة خبز وكأنه يسرقها من نفسه أو ان يراه الآخرين وما ان تبيع أمه شيء حتى يقول لها .. هل بقي الكثير لقد جعت وتعبت ... ويسألها لماذا مات أبي وماذا يعني انه مات ومتى سيعود من الموت ليلعب معي ويأخذني الى المقهى مثل كل مرة .... أمي ألا تسمعي ما أقول   تغض الطرف عنه ودموع تتساقط مع رشة ماء على باقات من الخضرة جفت من حرارة شمس وأعمدة بخار متطايرة من رأس أم وطفل غرزت الشمس اشعتها في بقايا بشر .. نهض من مكانه وأخذ ينادي مع امه ثلاثة بربع دينار صوت ملائكي طافت رنات تموجاته بأناس تبسموا... ومنهم من اشترى رحمة به ولشكله الجميل وشعره المسترسل على جانبي أكتافه وتلك الغرة التي غطت عينين واسعتين وسواد في ارض بياض مع نفحة من جمال خلق الله ... ألتفت إليها بعد فترة وقال لقد عطشت وجعت يا أمي الا نذهب لقد تعبت ... تطلعت إليه وقد تسابقت قطرات العرق نزولا على وجهه وتقافز قدم على الأخرى تنشد هروبا من حرارة أرض مزقتها الشمس زاغت عينيها مسحت وجهاً بحافة عباءة بالية ... لم تنتظر ان ترد عليه لملمت بقايا باقات خضروات بسلتها وما حملته معها على رأس قرعت طبول البؤس والحرمان عليه نكبات أزلية .. ثم أمسكت بيد ولدها وسحبته فوجدته لا يقوى على مجاراة سيرها تراخت أقدامه فسقط بين مارة ... صرخوا عليها .. حرام عليك انه صغير ترأفي به  التفتت لم تشعر بسحبها له فقد غاصت في بحر من التفكير في مصير معدوم مصلوب بعد رحيل معيل لعائلة وعزوة من براثن الأيام .. تلقفته بقلب ودموع قبل أيديها صارخة ولدي لم اكن اعلم انك قد وقعت سامحني ... وأخذت تلثم وجهه وكل ما فيه قبلاً غفرانا على سهو في تفكير بنفسها ... أخذت تبكي عليه وعلى نفسها جردتها ضربة شمس وكلمات ولد في سؤال عن أبيه ... فقالت لقد مات أبوك وتركنا رحل كغيره من الناس الفقراء البسطاء فقد ولد محروما من حنان اب وام لقد كان يتيما في زمن بعيد وعاش على أمل ان ينقشع الغمام الأسود في ذات يوم مشرق ... زحف كثيرا قاوم مغريات الماضي شارك في الأمل الجديد وما ان دخل الأمل تغوط عليه حملة اللافتات وعنوان المستقبل قاذفة به ومن على شاكلته في قارعات الطريق  تقلب هنا وهناك طالب .. نادى هتف خرج متظاهرا ولكن .. لم يكن يدرك انه صوتا في فراغ لا يحصد سوى المعاناة .. وفي ذلك اليوم وخروجه والعاطلين عن العمل في تظاهرة ضد حرمانهم من لقمة العيش وهياج في قارعة طريق وتدافع مع قوات امن تراشقت طلقات على أجساد في زحام فكان نصيبه أكفاً تحمله الى قبر بعيداً عنك وعني ... رحم بها من كان منصتاً لحديثها دموع بعيون مارة تتساقط خفيةً وقطرات عرق من شدة حرارة صيف حملت ولدها بين بقايا ضلوع أدخلته سامعا بكاء قلب ونبضات حزن ... أمسك برقبتها لف رجليه حول خصرها تأبطها لثم فمها بقبلة براءة ندى الزهور ... كل ذلك والمارة توقف الزمن عندهم والحركة فما ان تلحفته وتلحفها عاد الضجيج وزحمة سير ... جلست قرب حائط احد المحلات سقاها من حن على ولدها وشعر ببؤسها فتذوق ساعتها شراباً يتذوقه لأول مرة امسك بالكأس وكأنه يمسك ثديا في رضاع أمتص الشراب دمعت عينيه لمذاق وعب شراب في جوف نشفت شرايينه من عطش رغم بللها بجرعة ماء بين فينة وأخرى .... أخذت تتطلع إليه وهي تحاول رسم ابتسامة على شفاه سكنت أخاديد الحزن عليها فما عاد هناك مساحات لابتسام ... شكرت للناس حُسن معروفهم وحمدت الله على عون في ساعة ضيق ... قامت بعد ان أراحت نفس من تعب وتفكيرٍ سيطر شبحا يلوح لها وغمام في عيون تمنت الموت بعد رحيل معين راحة من ذلة وعوز كما هي الآن ... لكن طفلا يتيما كأبيه يدفع أمُنية بمنادة عليها بأمي قفز أمامها ساحبا يدها قائلا هيا يا أمي دعينا نذهب الى البيت أو هو كان يسميه كذلك رفعت سنين تعب من على الأرض بعزم فرحهِ من طعم ذلك الشراب وما أن قامت حتى سألها ماذا يسمى ذلك الذي شربت ... نظرت إليه وقالت يسمى عصير برتقال ... اه إنه طيب كم أتمنى ان أشرب منه كل يوم ... دمعت عيناه وهمست نفسها إنه لا يعلم ان ثمنه قيمة ثلاثة باقات فكم ثلاثة باقات أبيع حتى أشتري لك كل يوم ... عادت لوعيها بعد ان سحبها من عبائتها خوفاً من عبور طريق تلألأت عينيه ولسان لا يزال يتذوق طعم ما يسمى عصير البرتقال مد يده ليقضم شيئاً من بقايا كسرة الخبز في جيبه ولكن تردد ان يأكل خوف ان يذهب طعم العصير من فمه سحب يده الى الخارج افلت كسرة الخبز التي كان يمسك بها سقطت في الشارع أمٌ تسير بلا شعور وتصاعد في خيالات ومتاهات حياة من بؤس عقيم عبرت الى الضفة الأخرى من الشارع افلت عباءتها محاولا اللحاق بكسرة الخبز سيارة مسرعة أطلقت العنان لبوقها جفل في مكانه ..انتبهت لذلك الصوت التفتت لترى ابنها في منتصف الطريق قذفت بنفسها عليه لتقيه لطمة حديد وعجلات مسرعة ... تجمهر الناس بعدها بين صارخ وبين من هرع لمساعدة ليجدها قد غطت ولدها بجسدها خوفا من الموت سحب الناس ذلك الجسد ليجد فيه رمق حياة مع دماء على أيدٍٍ ووجه ميت بحثوا عن الطفل ولكن كانت عجلات السيارة قد هشمت عظاما طرية بريئة لتترك أماً تعيش اليُتم مرتين .

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com